«القوة والمتع والأرباح»... تعطش لا يرتوي ولا ينتهي إلا بالموت

الثلاثي مكيافيلي ـ هوبس ـ سميث أعادوا البشرية إلى واقع الدوافع الأنانية للسلوك البشري

مكيافيلي
مكيافيلي
TT

«القوة والمتع والأرباح»... تعطش لا يرتوي ولا ينتهي إلا بالموت

مكيافيلي
مكيافيلي

يعتبر الكثيرون تراث المفكر الإيطالي نيكولو دي برناندو مكيافيلي (1469 - 1527) - ولا سيما كتابه الأشهر «الأمير» بمثابة نقطة تحول في الفكر السياسي للبشرية، انتقل فيه من مجاراة الادعاء الموهوم بسعي الممسكين بزمام السلطة في الدويلات الإيطالية المتنافسة إلى تحقيق العدالة وخدمة القداسة نحو الكشف عن فضاء عملي صريح يسود في دهاليز القصور ديدنه التعطش إلى القوة لذاتها بما تمنحه من السلطة والنفوذ والهيلمان. لكن البروفسور ديفيد ووتون - أستاذ التاريخ في جامعة يورك البريطانية - في كتابه الجديد الصادر (بالإنجليزية) عن دار جامعة هارفارد «القوة والمتع والأرباح: عن تعطشات لا ترتوي من مكيافيلي إلى ماديسون» يأخذ مساهمة الرجل إلى ما بعد السياسة فيجعل من فكره حول فلسفة القوة نقطة انطلاق ثورة معرفية اكتملت بأعمال المفكر البريطاني توماس هوبس المالميسبوري (1588 - 1679) الذي نظر لأفكار المتعة ومعنى السعادة البشرية وصاحب كتاب «ليفياثان»، ولاحقاً بأعمال المفكر الاقتصادي الاسكوتلندي آدم سميث (1723 – 1790) مؤلف البحث الشهير في «ثروة الأمم» ومنظر فلسفة الربح الرأسمالي الأول ليشكل الثلاثة بمجموعهم مثلث القوة والمتع والأرباح الذي يذهب ووتون إلى أنه خلاصة فكر ما نعرفه اليوم بعصر التنوير (الإنلايتمينت) وروح عالم ما بعد العصور الوسطى.
عند ووتون، فإن البشرية قبل ثلاثية الفكر المفصلي هذه كانت أخذت بلبابها الأديان فجعلت غايتها العليا الفضيلة، ودافع سلوكها المعلن سعياً إلى الخلاص وتمنٍ للفوز بنعيم أبدي إلى أن أعادها الثلاثي مكيافيلي - هوبس - سميث إلى صحراء واقع الدوافع الأنانية العميقة للسلوك البشري التي لا فضيلة فيها ولا خلاص، بل تعطش لأدوات القوة ومتع الحياة وتعظيم الربح، تعطش وصفه هوبس ذاته بأنه «لا يرتوي ولا ينتهي إلا بالموت».
ووتون الذي سبق وكتب في التأريخ للثورة العلمية (اختراع العلم - 2015، جاليليو: رقيب السماء - 2010، باولو ساربي: بين النهضة والتنوير - 1983) معتبراً أنها غيرت بشكل كلي إحساس البشر بواقع عيشهم على هذا الكوكب الصغير ومثلت تحولاً في نظرتهم إلى العالم - أو ما يعرف بالإنجليزية بـ«البرادايم» - يرى أن مثلث مكيافيلي - هوبس - سميث كان كما الهيكل الذي استند إليه تحول جذري - موازٍ إن لم يكن أعمق أثراً - في النظرة إلى العالم تم خلال القرنين السادس والثامن عشر - صار يعرف لاحقاً بين المؤرخين بعهد التنوير - وتتمحور فيه غايات الاجتماع البشري حول بحث لا يكل لتحقيق إشباع يكاد يكون مستحيلاً في أجواء مجتمع تجاري رأسمالي يقوم على اقتصاد السوق والملكية الخاصة ومحدودية سلطات الدولة وتمحورها حول توفير المناخ المناسب لازدهار التبادلات التجارية، ويجعل من منظومة القيم المرتبطة بهذه النظرة الجديدة جذراً لما تجلى لاحقاً بما يعرف بالقيم الأميركية وقيم الغرب عموماً.
ومع أن ووتون لا يدعي في أي وقت بأن أفكار الثلاثي العتيد مكيافيلي - هوبس - سميث تمثل منظومة فكرية متجانسة وموحدة إلا أنه يجعل من مجموع الهالات التي خلقتها أفكارهم الليبرالية حصراً خلاصة لعصر التنوير وتأسيساً للعصور الحديثة، ذلك دون غيرها من الأفكار التقدمية الأخرى - التي لا تنتمي بالضرورة إلى مناهج ليبرالية الطابع، حتى يكاد يلغي بالكلية مساهمات كبرى لاحقة لا يمكن بحال إنكار دورها في استكمال تشكيل وعي البشرية خلال عصور حداثتها من وزن جورج هيغل (1770 – 1831) أو كارل ماركس (1818 – 1883) مثلاً اللذين لا يُنْكَر تأثيرهما في الدفع باتجاه نظرة جديدة نهضوية إلى العالم لا سيما خارج المركز الغربي أي في روسيا والصين وأفريقيا. ويتأكد ذلك بشكل صريح ناحية نهاية الكتاب عندما يصنف ووتون الماركسية والأصوليات الدينية وترهات ما بعد الحداثة في سلة واحدة بوصفها تعديات على (البرادايم) النهضوي في تصورنا عن العالم وردةٌ انتكاسية إلى ما قبله، وهو انحياز حاد لن يرضى به كثير من القراء، ويضعف نظريته ولا يقويها.
يمضي «القوة والمتع والأرباح» إلى منح سمة سرمدية لقيم عصر التنوير التي وِفق مؤلفه لا يمكن أن تهزم، فكأن البشرية خرجت من (برادايم) القداسة العتيق إلى (برادايم) جديد - لكنه نهائي هذي المرة - من سيادة العلم التجريبي كما لو كان قفصاً ذهبياً تدخله ثم لا تملك قدرة الخروج منه، وتلك بالطبع نظرة ليبرالية الطابع سطحية على نحو ما، وتنحو إلى تفاؤل ليس في مكانه بالوصول إلى صيغة لنهاية (فضلى) للتاريخ، في الوقت الذي تشير تجارب دفع ثمنها ملايين البشر آلاماً وأحزاناً ودماءً على يد أنظمة بنت آيديولوجياتها على (برادايم) التنوير ذاته وما نتج عنه من أدوات: نازيو ألمانيا إلى سوفيات ستالين وانتهاء بحروب الهيمنة الأميركية الكثيرة والمستمرة، وهي تجارب تجبرنا في كل وقت على مساءلة مزاعم القيم الغربية وما يبنى عليها من السياسات (والمؤسسات)، كما إعادة للنظر جذرية في معنى التقدم والتحديث.
ووتون يطرح من خلال الإضاءة على مثلث المفكرين الكبار مكيافيلي - هوبس - سميث فكرة جديرة بالاهتمام لتفكيك مصادر التحول النهضوي الذي مهد لانحسار العصور الوسطى وفتح للبشرية آفاق التحديث بعد طول انغلاق. لكنه يقدم مرافعته منقطعة عما يمكن أن يكون تجارب بشرية في عهود سحيقة قد تكون منحت الإنسان نظرة مغايرة عن العالم قبل نشوء الدول وظهور الأديان، أو فظائع السقوط المدوي للحداثة في القرن العشرين وهو ما يمكن على أساسه قبول مجادلة الكتاب بوصفها مقتصرة على الفترة الممتدة من «الأمير» إلى «ثروة الأمم» مروراً بالطبع بـ«ليفياثان» دون غيرها.
مع توسيعها ربما قليلاً لتغطي مرحلة إطلاق مشروع الولايات المتحدة من خلال إدراج مساهمات رابع الرؤساء الأميركيين جيمس ماديسون (1836 - 1751)
ولعل قيمة الكتاب الأهم ليست في نصه بقدر ما هي في سكوته المريب عن إنجازات القيم الغربية التي جعلها ووتون قيماً «تنويرية» المصدر: من حروب الأفيون في الصين مروراً بالحكم البريطاني للهند، وفظائع بلجيكا في الكونغو وانتهاء بحروب الولايات المتحدة في فيتنام وأفغانستان والعراق. فتكرار هذي المصائب الحداثية الطابع يجعل مطلب الخروج من قفص الليبرالية الرأسمالية الذهبي أمراً لا بد منه إذا كان للمجموعة البشرية أن تحقق خلاصها الجمعي في وقت ما، وهي مسألة غير ممكنة إلا من خلال تكون (برادايم) جديد يَجُب ما قبله من مواضع النظر إلى علاقة البشر بعالمهم، الأمر الذي قد يكون في طور التشكل لكن حتماً لن يراه من حكمت عليهم أقدارهم بالعيش في قفص (برادايم) النهضة - الغربي - الغالب إلى اليوم، ففقدوا حكماً القدرة على تخيل عوالم بديلة يمكن أن يكون فيها للبشر تعطشات مغايرة للقوة المتصاعدة والمتع الحسية والأرباح المتراكمة.
لا بد من الإشارة مع ذلك إلى أن مجادلات البروفسور ووتون مدعمة بكم هائل من المصادر والمراجع تماماً كما يليق بأي نص يخطه أكاديمي عريق - وهي بالفعل استهلكت ثلث مجموع الصفحات - إلا أن «القوة والمتع والأرباح: عن تعطشات لا ترتوي من مكيافيلي إلى ماديسون» بقي مع ذلك كتاباً قريباً يمكن عبوره من قبل القارئ غير المتخصص والتماهي مع طروحاته دون الحاجة إلى قراءات مرجعية كثيرة.



احتفاء مصري بالذكرى الـ113 لميلاد «أديب نوبل» نجيب محفوظ

فعاليات متعددة في الاحتفال بذكرى ميلاد محفوظ (متحف محفوظ على فيسبوك)
فعاليات متعددة في الاحتفال بذكرى ميلاد محفوظ (متحف محفوظ على فيسبوك)
TT

احتفاء مصري بالذكرى الـ113 لميلاد «أديب نوبل» نجيب محفوظ

فعاليات متعددة في الاحتفال بذكرى ميلاد محفوظ (متحف محفوظ على فيسبوك)
فعاليات متعددة في الاحتفال بذكرى ميلاد محفوظ (متحف محفوظ على فيسبوك)

احتفت مصر بالذكرى الـ113 لميلاد «أديب نوبل» نجيب محفوظ، عبر فعاليات متنوعة في متحفه وسط القاهرة التاريخية، تضمّنت ندوات وقراءات في أعماله وسيرتيه الأدبية والذاتية، واستعادة لأعماله الروائية وأصدائها في السينما والدراما.

وأعلن «متحف نجيب محفوظ» التابع لصندوق التنمية الثقافية في وزارة الثقافة، أن الاحتفال بـ«أديب نوبل» يتضمّن ندوة عن إبداعاته ومسيرته، يُشارك فيها النّقاد، إبراهيم عبد العزيز، ومحمد الشاذلي، والدكتور محمود الشنواني، والدكتور تامر فايز، ويديرها الدكتور مصطفى القزاز. بالإضافة إلى افتتاح معرض كاريكاتير عن نجيب محفوظ، وشاعر الهند الشهير رابندراناث طاغور، ومعرض لبيع كتب نجيب محفوظ.

وأوضح الكاتب الصحافي والناقد محمد الشاذلي أن «الاحتفالية التي أقامها (متحف نجيب محفوظ) في ذكرى ميلاده الـ113 كانت ممتازة، وحضرها عددٌ كبير من المهتمين بأدبه، وضمّت كثيراً من المحاور المهمة، وكان التركيز فيها على السيرة الذاتية لنجيب محفوظ».

«متحف نجيب محفوظ» احتفل بذكرى ميلاده (صفحة المتحف على فيسبوك)

ولد نجيب محفوظ في حيّ الجمالية بالقاهرة التاريخية في 11 ديسمبر (كانون الأول) عام 1911، وقدم عشرات الأعمال الروائية والقصصية، بالإضافة إلى سيناريوهات للسينما، وحصل على جوائز عدة أهمها جائزة «نوبل في الأدب» عام 1988، ورحل عن عالمنا عام 2006.

حضر الاحتفالية بعض ممن كتبوا عن سيرة نجيب محفوظ، من بينهم إبراهيم عبد العزيز، الذي له أكثر من كتاب عن «أديب نوبل»، بالإضافة إلى الطبيب الدكتور محمود الشنواني الذي رافق الأديب لمدة 30 سنة تقريباً، وفق الشاذلي، الذي قال لـ«الشرق الأوسط»: «تَحدّث كلُّ شخص عن الكتاب الذي أصدره عن نجيب محفوظ. وإبراهيم عبد العزيز كان مرافقاً له في ندواته، وتحدّث عن كتاب (أنا نجيب محفوظ)، الذي تضمّن ما قاله محفوظ عن نفسه، بيد أني أرى أن كتابه الأهم هو (ليالي نجيب محفوظ في شيبرد) لأنه كان عبارة عن كناسة الدكان، فقد رصد السنوات الأخيرة لنجيب محفوظ».

وعن كتاب الشاذلي حول نجيب محفوظ يقول: «تعرّفت عليه بصفتي صحافياً منذ بداية الثمانينات، وقد تحدّثت عن موضوعين تناولتهما في كتابي عنه (أيام مع نجيب محفوظ ذكريات وحوارات)، وهو ما أُشيع عن هجومه على العهد الناصري، خصوصاً في روايته (الكرنك)، وهذا ليس صحيحاً، وفي الحقيقة كان محفوظ يُركّز على حقوق الإنسان والحريات أكثر من أي شيء آخر، وقد أنصف عبد الناصر في كثيرٍ من كتاباته، خصوصاً شهاداته عن هذا العصر، والنقطة الثانية ما أُشيع حول الاتهامات التي وجّهها بعضهم لنجيب محفوظ بحصوله على (نوبل) بدعم إسرائيل، وهذا ليس صحيحاً بالمرّة، وكانت تُهمة جاهزة لمن أراد إهانة الجائزة أو النّيل ممّن حصل عليها».

وأشار الشاذلي إلى أن محفوظ كان له رأيُّ مهم في السينما، وقد ترأس مؤسسة السينما في إحدى الفترات، وكان يرى أنه أصبح كاتباً شعبياً ليس بفضل القراءات ولكن بفضل السينما، فكان يحترم كلّ ما له علاقة بهذه المهنة، ويعدّها مجاورة للأدب.

محفوظ وطاغور في معرض كاريكاتير (منسق المعرض)

وتحوّلت روايات نجيب محفوظ إلى أعمال سينمائية ودرامية، من بينها أفلام «بداية ونهاية»، و«الكرنك»، و«ميرامار»، و«ثرثرة فوق النيل»، وثلاثية «بين القصرين»، و«قصر الشوق»، و«السكرية»، وأيضاً «زقاق المدق»، و«اللص والكلاب»، بالإضافة إلى مسلسلات «الحرافيش - السيرة العاشورية»، و«أفراح القبة»، و«حديث الصباح والمساء».

وضمّ المعرض الذي أقيم بالتعاون بين سفارة الهند في القاهرة، ومتحف الكاريكاتير بالفيوم، ومنصة «إيجيبت كارتون»، 38 لوحة لفنانين من 12 دولة من بينها مصر والهند والسعودية وصربيا والصين ورومانيا وروسيا وفنزويلا.

وأشار الفنان فوزي مرسي، أمين عام «الجمعية المصرية للكاريكاتير» ومنسِّق المعرض إلى أن هذا المعرض اقتُرح ليُعرض في الاحتفال بذكرى طاغور في مايو (أيار) الماضي، إذ عُرض في المركز الثقافي الهندي، وكذلك في يوم الاحتفال بعيد ميلاد «أديب نوبل» المصري نجيب محفوظ.

وقال مرسي لـ«الشرق الأوسط»: «يُعدّ المعرض جزءاً من الاحتفالية التي نظّمتها وزارة الثقافة (لأديب نوبل) الكبير، واهتمّ معظم الفنانين برسم البورتريه بشكلٍ تخيُّلي، في محاولة لعقد الصلة بين طاغور ومحفوظ».

فنانون من 12 دولة رسموا الأديبين طاغور ومحفوظ (منسق المعرض)

وفي السياق، أعلنت «دار المعارف» عن إصدار كتابٍ جديدٍ عن نجيب محفوظ في الذكرى الـ113 لميلاده، وكتب إيهاب الملاح، المُشرف العام على النشر والمحتوى في «دار المعارف» على صفحته بـ«فيسبوك»: «في عيد ميلاد الأستاذ نُقدّم هدية للقراء ولكل محبي نجيب محفوظ وهي عبارة عن كتاب (سردية نجيب محفوظ) للناقد الدكتور محمد بدوي».