أصبحت هواتف غوغل الذكية اليوم تضمّ ميزة خاصة في كاميراتها هي «نايت سايت» التي تتيح للجهاز التقاط الصور في أكثر الأوضاع والأماكن ظلاماً. وتتمتّع الكاميرا الصغيرة المتوفرة في هاتف غوغل بيكسل 3 بقوة خارقة، فهي قادرة على رصد أشياء لا تستطيع العين البشرية رؤيتها.
وعندما تمضي الليالي في زيارة الأماكن المظلمة والتقاط الصور مستخدماً ما يعرف بوضع «نايت سايت» في هذا الهاتف الجديد (سعره 800 دولار)، يبدو الأصدقاء الجالسون في مقهى مضاء بالشموع مثلا في الصور الملتقطة وكأنّهم يحملون معهم معدّات للإضاءة، وتبدو الشوارع المعتمة متلألئة بالأحمر والأخضر. أمّا لقطات منتصف الليل، فتبدو وكأنها مأخوذة في وقت النهار، وفقا لخبراء أميركيين. وتوفر هذه الميزة أداء يتجاوز ما تقدّمه فلترات (راشحات) الإنستغرام بأشواط.
صور مزيفة
تعتبر ميزة «نايت سايت» تطوّراً هائلاً في مجال التصوير الفوتوغرافي بالهواتف، ومثالاً على التحوّل الذي تشهده صورنا نحو درجة هائلة من الزيف.
نعم، هذه هي الحقيقة، فالكثيرون لا يحبّون صورهم. صحيح أنّ هدف التصوير الفوتوغرافي لم يكن يوماً التقاط الحقيقة فقط، ولكنّ الهواتف الحديثة تأخذ الصور إلى مستويات جديدة غير مسبوقة.
حتى اليوم «نايت سايت» هي مجرّد وضع يعمل في الصور المظلمة المأخوذة بكاميرا هواتف غوغل بيكسل، وليس أكثر. يتباهى صانعو الهواتف الذكية عامّة بروعة وجمال الصور التي تقدّمها أجهزتهم ولكن ليس بواقعيتها. ومثلا يعمد وضع «بورتريه» في هواتف آيفون إلى تشتيت الخلفية والتركيز على ملامح الوجه وتخفيف احمرار العينين. أمّا صور السيلفي الملتقطة بالهواتف الشعبية في آسيا، فتركز على تصغير حجم الرأس وتفتيح العينين وتجميل البشرة بشكل تلقائي. كما تستخدم معظم الهواتف الحديثة تقنية تعرف باسم «إتش دي آر». (HDR) التي تدمج عدّة لقطات لتقديم نسخة أجمل بكثير من الحقيقة.
يقول الخبير جيفري فاولر أنه التقط صورة لغروب الشمس بواسطة هاتف آيفون 6 في عام 2014 ثمّ بالآيفون 10 آر الصادر هذا العام. وقد أذهلته النتيجة، فقد بدت الصورة الملتقطة بالآيفون الجديد وكنّها لوحة رسمت بالألوان المائية.
ما الذي يحصل؟ تقدّم الهواتف الذكية اليوم نوعاً من ديمقراطية التصوير الفوتوغرافي لـ2.5 مليار شخص، بعد أن كان التقاط صورة رائعة يتطلّب أجهزة خاصّة مع كتيّب إرشادات.
ذكاء صناعي
اليوم، يقدّم الذكاء الصناعي وغيره من التطورات البرمجية فرصة للالتقاط صور جميلة بحريّة تامّة. نعم، جملية، فتعديل الصور لم يعد يتطلّب مهارة في الفوتوشوب. اليوم، عندما نضع كاميرات الهواتف أمام مناظر طبيعية خلّابة أو وجوه ضاحكة، فإنها تسارع إلى استخدام خوارزميات (برمجيات لها نهج محدد) تمّ تدريبها على ما يحبّ البشر رؤيته، لتعطينا أخيراً صوراً تناسب أذواقنا.
يضمّ هاتفكم الذكي اليوم عدسات متقدّمة جداً، لذا يجدر بكم أن تنظروا إلى كاميرتكم على أنها نظام ذكاء صناعي هدفه إسعادكم، عوضاً عن كونها انعكاساً للحقيقة... إنها «زيف رائع».
لقد أصبح اليوم التقاط صورة بواسطة الهاتف أكثر بكثير من مجرّد تمرير ضوء عبر عدسة إلى جهاز استشعار. لا تزال هذه الأدوات مهمّة جداً طبعاً، إلّا أنّها شهدت تقدّماً كبيراً خلال العقد الماضي.
ولكنّ التحسّن الذي تشهده صورنا يعود بشكل متزايد إلى البرامج وليس إلى الأجهزة. يقول مارك ليفوي، أستاذ متقاعد في علوم الكومبيوتر من جامعة ستانفورد «إنها مقارنة مبالغ بها، ولكنّها صحيحة». وتجدر الإشارة إلى أنّ مؤسسي غوغل لاري بايج وسيرغي برين كانا من طلّاب ليفوي، الذي يعمل اليوم لصالحهما في مشاريع صناعة كاميرات الأجهزة ومن ضمنها «نايت سايت».
يركّز عمل ليفوي على ضوابط المقاسات الثابتة التي تحاصر الهاتف الذكي. فالهواتف لا تحتمل عدسات كبيرة (وأجهزة الاستشعار التي تتطلّبها) كما الكاميرات التقليدية، مما يفرض على صناع الهواتف إيجاد وسائل مبتكرة للتعويض. وهنا تدخل التقنيات التي تستبدل البصريات بالبرمجة، كالدمج الرقمي لعدة لقطات في صورة واحدة.
تستخدم الهواتف الحديثة من آبل وسامسونغ وهواوي هذه البرامج أيضاً، ولكن ليفوي يقول: «نحن نراهن بكلّ شيء على البرمجة والذكاء الصناعي»، الأمر الذي منح غوغل حرية تامة لاستكشاف طرق جديدة لصناعة الصور.
يقول نيكولاس تاتشارد، نائب رئيس قسم التسويق في «دي x أو مارك إيمج لابس» (DxOMark Image Labs)، المتخصصة في إجراء تصنيفات مستقلّة للكاميرات: «ارتقت غوغل إلى مستوى جديد في مجال البرمجة». (ولكن يبقى سؤال ما كان هذا الأمر كافيا لمساعدة بيكسل في انتزاع التفوق من آبل وسامسونغ).
اختراق الليل
مع «نايت سايت»، يحقّق برنامج غوغل أقصى أدائه عبر التقاط ما يقارب 15 صورة خافتة الإضاءة ومزجها مع بعضها لتفتيح الوجوه، وتقديم تفاصيل واضحة وإشباع الألوان بطريقة ترضي المستخدم. ودون وميض، تعمل هذه الميزة على تعزيز الضوء الموجود في الصورة صناعياً.
لا شكّ أنّ أي شخص حاول يوماً التقاط صورة خافتة الإضاءة بكاميرا تقليدية أن يعي صعوبة الحصول على لقطة واضحة وغير ضبابية. ولكن ومع «نايت سايت»، وقبل الضغط على زرّ الالتقاط حتى، يقيس الهاتف رعشة يدكم والحركة في المشهد لتحديد عدد اللقطات التي يجب تصويرها والوقت الذي يجب أن يبقى خلاله المصراع مفتوحاً. عندما تضغطون على المصراع، يُصْدِرُ لكم تحذيراً بضرورة التثبيت ويصوّر لفترة تصل إلى 6 ثوان.
في الثانية أو الثانيتين التاليتين، تقسّم «نايت سايت» جميع لقطاتها إلى مجموعة من الشرائح الصغيرة، ثمّ ترصف وتدمج أفضلها لتشكيل صورة مثالية. وأخيراً، يحلّل الذكاء الصناعي وبرنامج آخر الصورة لاختيار الألوان ودرجات الضوء.
ولكن ميزة «نايت سايت» تواجه بعض الصعوبات في التركيز وفي المشاهد التي تفتقر إلى الضوء بشكل شبه تام. لذا، يبقى عليكم أنتم أن تحافظوا على ثبات الجهاز بالوضعية الصحيحة للالتقاط.
ولكنّ الحقيقة هي أنّ معظم الصور التي تلتقطها خلال اختبار لغوغل بيكسل 3 تكون رائعة. فقد عملت الكاميرا في صور البورتريه فيه على تجميل البشرة وزيادة حدّة العينين. أمّا في المشاهد الليلية، فقد أضاءت التفاصيل المخفية ولوّنتها.
ولكنّ المشكلة هي: كيف يمكن لكومبيوتر أن يختار درجات الضوء وألوان الأشياء التي نصادفها في الظلام؟ هل يجب أن يحوّل السماء المضاءة بالنجوم إلى غسق؟
يقول ليفوي إن «لم نستطع رؤيتها، لن نعرف كيف تبدو. هناك الكثير من القرارات الجمالية التي نطبّقها بشكل ما، ويمكن تطبيقها بشكل آخر. لعلّ هذه الهواتف ستحتاج أخيراً إلى زرّ (ما أراه) يقابله زرّ (ما هو موجود فعلاً)».
«زيف رائع»
إذن، ما دامت هواتفنا تصدر الألوان والأضواء لترضينا، هل يعدّ هذا الأمر تصويراً فوتوغرافياً حقاً؟ أم هو عمل فنّي يديره جهاز كومبيوتر؟
يوافق بعض أنصار المذهب الصفائي (أي الأصوليين من اتباع النقاء في مجالهم الاحترافي) على الاحتمال الثاني، ويرى ليفوي أنّ هذا ما يحصل دائماً مع التقنيات التعديلية. ما هو معنى كلمة «مزيف»؟ يسأل الأخير. استخدم المصورون الفوتوغرافيون المحترفون لزمن طويل تقنيات الفوتوشوب أو غرف التظهير المظلمة لإجراء التعديلات على الصور. وقبل ذلك، تلاعب صناع الأفلام بالألوان للحصول على نتيجة معيّنة. إنّ أي كلام يصدر في هذا الإطار يمكن أن يكون ناتجاً عن حبّ ممارسة التصوير، أو عن مخاوف أكاديمية، أو حتى عن أهمية ذكريات ثلث البشرية.
إلى أي مدى ستبعد الهواتف الذكية صورنا عن الحقيقة؟ ما هو الشيء الذي ستدرّبنا البرامج الرقمية على رؤيته طبيعياً؟ وما هي أجزاء الصورة التي نسمح للكومبيوتر بتعديلها؟ في صورة التقطت للبيت الأبيض (دون استخدام ميزة «نايت سايت»)، لوحظ أن خوارزميات هاتف بيكسل 3 المدرّبة لتجميل العيوب، أزالت التفاصيل الهندسية الحقيقية التي كانت ظاهرة في صورة التقطها جهاز آيفون 10.
إن السؤال الذي تطرحه شركة تصنيف الكاميرات «دي x أو مارك» هو: كيف يمكننا حتى أن نحكم على الصور التي يتمّ تحليلها من قبل برامج رقمية لأجل معالم كجمال الوجه؟
يقول تاتشيارد: «يبالغ المصنعون أحياناً في التمادي. فنقول عادة إنّه لا بأس إن لم يدمّروا معلوماتنا. وإن أردنا أن نكون موضوعيين، يجب أن ننظر إلى الكاميرا على أنّها جهاز للالتقاط معلومات».
ولنسمع رأيا آخر من كنان أكتولون، مؤسس «جائزة التصوير الفوتوغرافي بواسطة هاتف الآيفون» السنوية، فقد عمل أكتولون خلال العقد الماضي على فحص نحو مليون صورة التقطت بهاتف الآيفون ولم تشهد تعديلات كبيرة.
اعتبر أكتولون أنّ الخط الفاصل بين الفنّ الرقمي والتصوير الفوتوغرافي «يصبح شديد الضبابية في مرحلة معينة». ولكنّه رحّب عامّة بالتحسينات التقنية التي تسهّل عملية صناعة الصورة والأدوات المرئية. إن العامل الجاذب في التصوير الفوتوغرافي بواسطة الهاتف الذكي هو أنّه متاح للجميع، أي أنّ المستخدم يصبح مصوراً بالضغط على زرّ واحد، والذكاء الصناعي هو تطوّر مستمرّ لهذه الحالة.
يقول أكتولون: «مع تحسّن النوعية التقنية للصور، يبقى الاتصال العاطفي هو ما نبحث عنه. فالصور التي تحصل على الاهتمام الأكبر ليست المثالية على الصعيد التقني، بل هي الصور التي تقدّم لمحة عن حياة الشخص أو تجربته».