رَف فاينس لـ «الشرق الأوسط»: يجب أن أستحوذ على سبب كافٍ لأمثل أو أخرج فيلماً

«لا تنسَ… لا تنادِه بـ(رالف)؛ بل (رَف)». يذكرني الملحق الصحافي بما أعرفه أساساً ويشير إلى أنّها مسألة مهمّة لدى رَف فاينس ستجعله يقدّر أكثر محدثه.
ربما هناك ذلك الالتباس بالنسبة لاسم الممثل - المخرج الذي يطلق قريباً فيلمه الجديد «الغراب الأبيض»، لكن ليس بالنسبة لمكانته الفنية. رَف فاينس... ولد قبل 55 سنة (سيحتفل بعيد ميلاده المقبل في الثاني والعشرين من هذا الشهر) بمدينة سوفولك في بريطانيا وترعرع محباً للفن. والده كان مصوّراً فوتوغرافياً ووالدته روائية. انتهج الفن في سن مبكرة، لكنّه لم يكن الوحيد بين إخوته. شقيقته مارثا مخرجة، وشقيقته الثانية صوفي منتجة. شقيقه مانغوس موسيقي، ولديه شقيق رابع اسمه جوزيف بات له باع معروف في التمثيل كذلك.

بدأ رَف التمثيل على المسرح؛ ومن ثمّ مال إلى الشّاشة الكبيرة سنة 1992، عندما استعان به المخرج بيتر كوزمينسكي ليلعب شخصية السيد «هيثكليف» في نسخته من «مرتفعات ويذرنغ». دور أول أيضاً في فيلم بيتر غريناواي «طفل ماكون» (1993) قبل أن يؤدي ذلك الدّور غير المنسي ضابطاً نازياً يقتنص اليهود في فيلم ستيفن سبيلبرغ الشهير «قائمة شيندلر» (1993).
لا يزال كثيرون يذكرونه هناك. رَف بلور شخصية غير مطروقة للضابط النازي الذي عرفناه دوماً شريراً عليه الرّكون إلى النّمطية ليظهر شروره. ما يجعل الأمر مختلفاً بالنسبة للضابط النّازي كما أداه رَف فاينس في ذلك الفيلم هو أن الممثل أخفى في داخله الملامح الداكنة للشخصية ثم تركها تنعكس بطبيعة قابلة للتصديق. هو أيضاً شخص له حضوره الكامل أسوة بشخصية «أوسكار» التي أداها ليام نيسون. كلاهما ألماني. كل في موقع مختلف.
الأدوار بعد «قائمة شيندلر» هبطت كالمطر. تابعناه في «كويز شو» و«أيام غريبة» و«المريض الإنجليزيّ» و«أوسكار ولوسيندا» و«نهاية علاقة» في التسعينات، وحين قفز إلى العقد الأول من هذا القرن، وبينما كان يسجل حضوره ممثلاً في أفلام مثل «خادمة في مانهاتن» و«اللص الطيب» و«الحدائقي الدائم» وسواها، كان يخطط للانتقال إلى كرسي الإخراج. وفي سنة 2011 أقدم على ذلك مختاراً نصّاً مسرحياً شكسبيرياً لم يُنقل إلى الشّاشة كثيراً من قبل؛ هو «كورليانوس».
رَف فاينس لم يُخرج الفيلم فقط؛ بل مثّله وأنتجه أيضاً، وفيه ربط بمهارة بين النّص بكثافته الدّرامية ومراحل الحياة والحروب التي خاضها العالم حتى العقد الرابع من القرن الماضي. ليس بعيداً في هذا الإطار عن فيلم جوليا تايمور «تايتوس» (1999) وعن مسرحية أخرى لشكسبير قل اقتباسها للسينما كذلك.
أحداث مهمة
«الغراب الأبيض» فيلمه الثالث مخرجاً والثاني والسبعين ممثلاً، لكنّه لا يؤدّي هنا دور البطولة، بل يكتفي بدور محدود يبدأ الفيلم به وينتهي. إنّه الموسيقار بوشكين الذي أثار راقص الباليه رودولف نورييف اهتمامه فقام بتدريبه على نحو خاص في الوقت الذي كانت فيه نوايا نورييف تتجاوز الحدود السوفياتية آنذاك طامحاً لشهرة عالمية. الفيلم بالتالي سرد بيوغرافي مُنتخب المحطات لسنوات من حياة الرّاقص المعروف انتهاءً بطلبه اللجوء السياسي في فرنسا خلال الستينات حين جاء لزيارتها.
> «الغراب الأبيض» مأخوذ عن سيناريو للكاتب الشّهير ديفيد هَر، وهو بدوره مقتبس عن رواية لجولي كافانا. ما العناصر التي جذبتك لهذا المشروع؟
- هناك بالفعل عدة عناصر جعلتني أختار هذا المشروع. بداية؛ هناك الكتاب الذي يتناول جوانب مختلفة من حياة رودولف نورييف بأسلوب جيد وكاشف لمراحل متعدّدة ومهمّة لشخصية نورييف. يأتي على ذكر كل ما استطعنا توفيره على الشاشة والكثير سواه. هناك أيضاً السيناريو الممتاز الذي وضعه ديفيد هَر بخبرته الواسعة والمكتوب بمهارته المعهودة بكل إشكالياته الزّمنية والشّخصية. لكن ما كان يهمني في الأساس أنّ الفيلم يتيح لي الحديث عن الضرورة القصوى لحرية التعبير والفعل. كما شاهدت أنت، يتناول الفيلم توق نورييف للحرية أيام كانت روسيا مغلفة بستارها الحديدي. بالنسبة لي، نورييف هو نموذج الفنان الذي سعى لكي يمتلك القرار الذاتي لمستقبله وهذا حقه.
> ما الأحداث المهمّة في حياة رودولف نورييف التي لم يستطع الفيلم تغطيتها لسبب أو لآخر؟
- بالطبع يأتي الكتاب على كثير من الأحداث التي لا يمكن نقلها للسبب المعروف؛ وهو أنّ الفيلم يجب ألا يكون نقلاً حرفياً لكلّ ما يرد من أحداث في أي مصدر. احتوى الكتاب كثيراً عن نشأة نورييف، واخترنا ما نراه موجزاً كافياً. الفيلم يدور في 3 مراحل؛ هي الطفولة ودخول نورييف المدرسة لتعلم رقص الباليه في الخمسينات، من ثمّ مرحلة وصوله إلى باريس في مطلع الستينات، وما حدث معه هناك. في كل هذه المراحل كان لا بد من اختيار ما يمكن له أن يمنح تلك المحطات ما يكفي من أحداث من دون خلل في بناء الفيلم ككل.
> الفيلم ينتقل بالفعل بين تلك المراحل الثلاث بدل أن يسرد الحكاية حسب وقوع الأحداث زمنياً. هل كانت هناك خشية من أن تختلط الأمور على المشاهدين جراء الانتقال من مرحلة إلى أخرى من ثمّ العودة إلى المرحلة السابقة؟
- لا. أعتقد أنّ مهارة السيناريست منعت ذلك، كذلك التوليف (قام به براني فيلينغ الذي من بين أفلامه الأخيرة «ذا غراند بودابست هوتيل» لوس آندرسن)، ولم يكن عندي أي خشية من الوقوع في التعقيد. كل شيء واضح، كما أعتقد أنك توافقني الرأي خصوصاً أنّ هذه الفترات التي ننتقل بينها هي 3 فترات فقط، وكل منها تكمل الأخرى وتعزّز سبب اختيارها.
> أيهما أصعب تنفيذاً بالنّسبة لك بصفتك مخرج «كورليانوس»؛ الفيلم الأول وهو بحد ذاته فيلم شكسبيري ليس هيناً، أم هذا الفيلم؟
- «كورليانوس» و«الغراب الأبيض» يتساويان في هذا الشّأن، خصوصاً أن هناك لعب على الزمن في «كورليانوس»، كما الحال في هذا الفيلم. عندما قرّرت في عام 2011 الإخراج، لم يكن عندي أي تردّد بخصوص اختيار هذه المسرحية فيلماً أول. لقد خبرتها على المسرح وخبرتها نصاً أحببته دائماً ولفت اهتمامي أنّها من أقل أعمال ويليام شكسبير نقلاً إلى الشّاشة. لكن أوعزت لنفسي أيضاً بأن أخرج من تحت رداء التاريخ البعيد وتحويل الأحداث إلى بعض سنوات القرن الماضي حيث وقعت فيه حربان عالميتان لدوافع لا أراها بعيدة عن الدوافع التي حرّضت القائد كورليانوس على دخول الحرب.
> نجاح ذلك الفيلم، نقدياً على الأقل، دفعك، على ما يبدو وبعد سنتين فقط، لإنجاز فيلم ثان لك مخرجاً هو «المرأة الخفية». بعد ذلك انقطعت طوال هذه السنوات مكتفياً بالتمثيل. لماذا؟
- حالفني الحظ، على ما أعتقد، بعدد كبير من الأدوار التي أحببت تمثيلها مع مخرجين أحببت العمل معهم. أخذت عطلة من العمل مخرجاً واهتممت بوجهي الثاني ممثلاً. ليس هناك من أسباب أخرى سوى أنّني في الوقت ذاته كنت، على الأرجح، أنتظر اهتدائي لمشروع أتبناه.
> هل هناك مشكلة في النّصوص المتاحة أو في الأفكار التي تطمح في أن تُحقّقها؟
- لا توجد مشكلة محدّدة في هذا النّطاق على الإطلاق. لكنّ اختيار الفيلم الذي أريده لنفسي ممثلاً أو مخرجاً يتبع عندي مسألة التحبيذ. يجب أن يكون لدي سبب كافٍ لكي أقوم بتمثيل أو بإخراج فيلم. لذلك لم أحقق أفلاماً كثيرة بعد، أو على نحو متواصل كما أرغب. لا تنسَ أنّ المخرج يدخل في عملية الإنتاج بالضرورة في هذه الأيام لأنه بات من الصعوبة بمكان تأمين كل العناصر الصحيحة لإنجاز فيلم غير جماهيري التوجه.
دراما ولغة
> أين وجدت الممثل أوليغ إيفنكو الذي أدى دور نورييف بهذه البراعة؟
- بحثت عنه في روسيا طويلاً. هو راقص باليه فعلي، وخلال جلساتنا تأكّدت من أنّه يدرك تماماً المهمّة التي ستناط به. طبعاً لأنه راقص باليه محترف فقد سهّل هذا كثيراً العمل معاً. بطبيعتي أؤمن بالتحضير، وكانت بيننا أيام طويلة لتدريبه على التمثيل.
> هل هو من قام بكل تلك الاستعراضات الراقصة بالفعل؟
- نعم. لم يكن هناك بديل.
> ماذا عن شخصية مدرّبه بوشكين الذي تقوم أنت بتمثيلها. تتكلم الروسية في الفيلم. هل تعرفها جيداً؟
- كنت أعرف القليل منها، لكنّي درستها لهذه المناسبة وتعلمت ما أحتاجه منها.
> في الفيلم تقوم زوجة بوشكين بإغواء نورييف، الذي له ميول مثلية، وخيانة زوجها معه. لكنّ الفيلم لا يورد مشهداً يكتشف فيه بوشكين تلك الخيانة...
- قرّرت أن أبقي المسألة على هذا النّحو، لأنّ هناك أقاويل مختلفة. هناك مصادر تقول إنّه لم يكن يعرف. وأخرى تقول إنّه علم بذلك، لكنّه أخفى علمه؛ وأميل لهذا، لكنّي اخترت ألا أدخل هذا النّطاق منعاً لتشتت الموضوع، فهو عن نورييف وليس عن بوشكين، والعلاقة بين نورييف وزوجة بوشكين لم تكن سوى جزء محدود من حياة نورييف التي هي محور الفيلم الدائم.
> صوّرت مشاهد كثيرة من فيلمك في روسيا. هل وجدت أي معارضة أو تمنع من قِبل المثقفين أو الرّسميين حيال هذا الموضوع؟
- على العكس. صورنا في روسيا حيث نريد وكيفما أردنا، ولم يكن هناك سوى الترحيب الكامل.
> الفيلم بعد تناول سيرة نورييف طفلاً وراقصاً شاباً، وهما مرحلتان مليئتان بالتجارب الشّخصية وآثارها، يتقدم صوب ذلك الفصل من المشاهد التي تقع في المطار الفرنسي عندما يقرّر نورييف عدم ركوب الطّائرة الروسية التي ستعود به وبفريق الباليه إلى موسكو وطلب اللجوء السّياسي بدل ذلك. هناك نبرة تشويقية هنا…
- بالفعل. كل ما سبق حكايةً ودراما ينتهي عند ذلك الفصل. عند تلك الحبكة التي ستكشف نجاح أو فشل نورييف في طلب اللجوء السياسي. كلّنا نعرف أنّه نجح في ذلك، لكن ما ليس معروفاً هو الضغوط النفسية داخله من ناحية.... التفكير في عواقب فعلته في مقابل طموحه صوب الحرية المطلقة بصفته فناناً. كذلك الضّغوط النّفسية التي مارسها المرافقون الحزبيون من ناحية أخرى. كان لدينا بعض الابتكار هنا، لكن القليل منه؛ إذ حاولت التأكد من أن هذه المرحلة من الفيلم تنجز ما ذكرت، لكن ضمن سياق يأتي فيه التشويق الذي تذكره أنت وضعاً طبيعياً.
> كيف وجدت الجمهور في مصر وقد عرضت فيلمك هناك في إطار مهرجان القاهرة السينمائي؟
- هذه ليست زيارتي الأولى لمصر، لكنّها الزيارة التي أكّدت لي ما يتحلّى به الجمهور من إلمام وحب سينمائي. نمرّ بظروف عالمية صعبة، وفيلمي يتناول خيطاً واحداً من بين تلك الظّروف. وسعيد بأنّ الفيلم استقبل جيداً هناك.