استعدادات إيطالية للاحتفال بالمئوية الخامسة لرحيل دافينشي

في الخامس من مايو (أيار) عام 1519، رحل ليوناردو دا فينشي، عبقري عصر النهضة الأوروبي والشخصية الألمع في تاريخ الفنون والعلوم، التي تحوّلت إلى رمز عالمي لم يدانهِ أحدٌ إلى اليوم. والاستعدادات التي تجري على قدم وساق في كل أنحاء إيطاليا للاحتفال بالذكرى المئوية الخامسة لوفاته، كان لا بدّ من أن تبدأ في المدينة التي منها انطلقت شهرته إلى العالم، والتي لولاه لما كانت قد بلغت ما وصلت إليه اليوم مركزاً رئيسياً للفنون والعلوم في أوروبا. ويستضيف المتحف الوطني للعلوم والتكنولوجيا بهذه المناسبة معرضاً ضخماً للآلات المستلهمة من التصاميم التي وضعها ليوناردو منذ خمسة قرون، إضافة إلى عشرات الجداريات المستوحاة من أعماله لفنانين من عصر النهضة.
ثمّة رابط وثيق بين ليوناردو والتاريخ الفني لمدينة ميلانو، التي كانت دون المستوى الذي تتمتّع به فلورانسا والبندقية وروما عندما قرّر أن يستقرّ فيها، حيث أقام مدرسته الشهيرة التي تتوّجت مرحلتها الأخيرة بظهور كارافاجيو.
عند بلوغه الثلاثين من عمره، وجّه ليوناردو رسالة إلى حاكم ميلانو الدوق لودوفيكو سفورتزا يعدّد فيها المهارات والمواهب التي تؤهّله للعمل في خدمة سيّد المدينة، بعد أن كان قد أصبح معروفاً على نطاق ضيّق كرسّام في فلورانسا، لكنّه كان يواجه بعض الصّعاب لإنهاء الأعمال التي كُلِّف بها.
عدّد ليوناردو في الفقرات الأولى من تلك الرسالة ما كان يتمتّع به من معارف في الهندسة وتصميم الجسور والأقنية والمدافع والمباني العامة، ليقول في الفقرة الحادية عشرة إنّه أيضاً فنّان، ينحت في الرخام والجبس والبرونز ويرسم أي شيء مثل أمهر الرسامين.
رسم ليوناردو اثنتين من أشهر اللوحات، وأكثرها تعقيداً وألغازاً في تاريخ الفن: «الموناليزا» و«العشاء السرّي». لكنّه كان يعتبر نفسه أيضاً، وبالمستوى نفسه من المهارة والإبداع، مهندساً وعالماً وباحثاً لا حدود لفضوله. وضع دراسات ما زالت مذهلة إلى اليوم عن الجسم البشري والأحفوريّات والطيور وقلب الإنسان والآلة الطائرة والبصريّات وعلم النبات والجيولوجيا ومجاري المياه والأسلحة. وأصبح يجسّد عصر النهضة في شخصه وحده، ويلهم الذين يعتبرون أن روائع العقل البشري ليست سوى امتداد للطبيعة اللامتناهية وانعكاس لها. وقد تجلّت قدرته الخارقة على الجمع بين الفنون والعلوم في رسمه الذائع الصيت لرجل مكتمل التناسق داخل مربّع ودائرة ويعرف برجل «فيتروفيو».
سلخ الجلد عن وجوه الجثث وشرّح العضلات التي تحرّك الشفاه ليرسم أشهر ابتسامة في التاريخ على فم «الجوكوندا» التي ما زالت لغزاً يحيّر العالم إلى اليوم. درس الجماجم البشرية والعظام والأسنان لينقل في رسوماته العذاب الناجم عن النحالة المشرفة على الموت، كما في لوحة «القدّيس جيروم»، وتعمّق في رياضيات العلوم البصرية ليتبيّن كيف تنعكس أشعة الضوء على قرنيّة العين ليرسم لوحة «العشاء الأخير» التي تحتفظ بها مدينة ميلانو كأنفس كنوزها. وتعتبر دراساته في الضوء والبصريّات أساساً للرسم بطريقة الأبعاد التي تشكّل أهم ابتكار في تاريخ فنون عصر النهضة، والقاعدة التي تقوم عليها اليوم ثلاثية الأبعاد المتطورة.
وعلى الرّغم من تقدّمه في السنّ، لم يتوقف ليوناردو عن مواصلة بحوثه العلمية التي لم تقتصر على كونها دعامة لفنّه، بل هدفت أيضاً لإشباع توقه إلى الكشف عن كنه الجمال في الخلق، وعندما كان يفتّش عن نظرية تفسّر زرقة السماء، لم يكن يسعى لخدمة فنّه فحسب، بل كان يدفعه إلى ذلك أيضاً فضوله الطبيعي الجامح.
كان ليوناردو يكنّ احتراماً عميقاً للطبيعة التي كان يراها في كل مظاهر الحياة مهما كانت صغيرة. ونقع في دفاتره على رسوم لضفائر الشعر وزوابع الغبار وملاحظات تحاول تفسيرها، إلى جانب دراسات في المسرح، وخطط لتحويل مجاري الأنهر، ورسوم مفصّلة لسفن غوّاصة وآلات طيّارة، ومخططات للمدن الفاضلة.
معظم الذين عاصروا ليوناردو وكتبوا عنه، كانوا يرون فيه شخصاً ودوداً ودمث الأخلاق، شديد التأثر بالمظالم التي غالباً ما كانت تدفع به إلى حالات من الاكتئاب. لم يتزوّج ولا تُعرف له ذرّية، هو الذي طلب في وصيّته أن يمشي في جنازته ستّون شحّاذاً، إلى جانب الفنانين والنبلاء، يرافقون جثمانه الذي دفن في إحدى الكنائس الفرنسية تحت لوحة كُتب عليها: «ليوناردو دا فينشي، ماذا عساك أن تقول أكثر من ذلك؟».