الكتابة مظلة للخلاص من العنف والكراهية

الرواندية سكولاستيك موكاسونجا في روايتها «نوتردام النيل»

الكتابة مظلة للخلاص من العنف والكراهية
TT

الكتابة مظلة للخلاص من العنف والكراهية

الكتابة مظلة للخلاص من العنف والكراهية

اتخذت الكاتبة الرواندية سكولاستيك موكاسونجا من خلال روايتها «نوتردام النيل»، النهرَ الخالد كمرآة تتذكر من خلالها تاريخ وأحداث العنف التي جرت في بلادها في السابع من أبريل (نيسان) وحتى منتصف يوليو (تموز) 1994م، والتي شن فيها القادة المتطرفون في جماعة الهوتو، التي تمثل الأغلبية في رواندا، حملة إبادة ضد أقليتها من قبيلة توتسي. قتلوا ما يقارب على 800 ألف شخص، وتعرض مئات الآلاف من النساء للاغتصاب، وراح ضحية المجازر ما يقدر بـ75 في المائة من التوتسيين. صدرت «نوتردام النيل» حديثاً عن سلسلة الجوائز العالمية بهيئة الكتاب المصرية، ونقلها عن الفرنسية لطفي السيد منصور. وكانت الرواية قد حصلت عام 2012، بعد نشرها بأشهر قليلة، على جائزتي «أمادو كوروما» و«الروندو» المرموقتين.
لم تلجأ موكاسونجا في «نوتردام النيل» إلى رسم جو من الكراهية في روايتها، وإنما سعت لتحقيق نوع من التطهر منها، وهي المقتولة لا القاتلة. فقد كان باعثها لكتابة روايتها الخشية من أن تنسى الكارثة التي حلت بعرقها وأهلها من قبيلة التوتسي، فراحت تتذكر مأساة مقتل والدتها ضمن ثلاثين من أبناء عائلتها.
تدور أحداث الرواية في مدرسة تطل على البحيرة، والمنبع المفترض للنهر، وهي تطفو فوق قمة صخرية ارتفاعها 2500 متر «أقرب ما تكون إلى السماء» كما تحب أن تقول الأم الكبيرة، وهي واحدة من الشخصيات المهمة التي تحرك الأحداث في الرواية، باعتبارها المسؤولة الأولى عن الدراسة في المدرسة الداخلية الكاثوليكية للبنات، حيث النخبة النسوية الجديدة لرواندا، فإليها تنتسب ذرية الدبلوماسيين، والشخصيات الشهيرة والعسكريين من ذوي النفوذ والغالب الأعم منهم من الهوتو، بعضهم توتسي، لكنهم يمثلون حصة ضئيلة. وبعد تنفيذ نظام الكوتة على نحو صارم بداية من سنوات السبعينيات، أصبح 90 في المائة من تلاميذها من الهوتو أو الغالبية العظمى للشعب و10 في المائة فقط للتوتسي.
الرواية ليست حدوتة تسير في مسار واحد منفرد، لكنها كولاج مشكل من حكايات الطالبات والمدرسين ومجموعة أخرى من الشخصيات، كاشفة عن وضع إنساني مهين في رواندا نتيجة سيطرة عِرق على آخر وإمساكه بتلابيب السلطة والجيش وعالم الأعمال الاقتصادية، وتتمثل فيها على نحو فاضح حكاية التقاليد الرواندية والتعصب العرقي الذي أدى إلى حرب أهلية راح ضحيتها عدد مهول من الضحايا.
وتبنت موكاسونجا أسلوب «السارد العليم» في كتابة روايتها حتى تتمكن من تناول جميع أدوار الموجودين في المدرسة، من طالبات بنات أو مدرسين ومن هم على علاقة بكل هؤلاء الأشخاص لتشكل في النهاية «إنطولوجيا للذاكرة».
ورغم حجم الرواية الصغير إلى حدٍ ما، فإنها ترسم بمهارة فائقة وبالغة لوحة جدارية ضخمة لعدد كبير من الشخصيات والعادات والتقاليد والأساطير وجغرافيا المكان بتلالها وجبالها وأشجارها ومواسم المطر فيها.
كذلك تبرز الرواية التفاهات التي تشكل الدراما اليومية للمراهقات من طالبات المدرسة ومنافساتهن في اختيار أفضل كريم «مبيض»، أو ركوبهن الدراجات البخارية مع الصبيان.
ومن خلال مسارات أحداث الرواية قامت الكاتبة بتعرية المجتمع كله: مديرة المدرسة التي رغم صرامتها وقسوتها تغض الطرف عن ذلك السفير الذي يأتي ليقابل خطيبته في المدرسة، وتحمل منه. والأب هيرمينيجيلد القس المقيم الذي يستغل سلطته ليقيم علاقات مع الطالبات. والمدرسون سواء الفرنسيين أو البلجيكيين الذين لا يعيرون بالاً لما يدور، ويتناسون تماماً ما يحدث حتى لو كان قتلاً أو إبادة، لتظل العلاقات السياسية على ما يرام.
وتتسم لغة الرواية بنوع من السخرية من الشخصيات السياسية في البلاد بما فيها الرئيس الديكتاتور الذي تفرض مؤسساته وضع صورته في كل مكان حتى لو كان متجراً حقيراً.
من ناحية أخرى، تستحضر موكاسونجا التراث الرواندي، أو فلنقل الأفريقي، من دون أن تضفي هالة مقدسة عليه، خالطة ذلك بالأساطير كأسطورة إيزيس والملكات كانداس وصانعة المطر والسحرة أو المشعوذين وأرواح الموتى.
وقد لجأت موكاسونجا لتكنيك المشهدية حتى تضع القارئ في قلب الأحداث، وتجعله يرى، ويحس، ويشم، ويلمس ما يدور من تفاصيل.
ولدت موكاسونجا عام 1956 في رواندا لعائلة تنتمي لعرق التوتسي. وفي عام 1960، انتقلت عائلتها إلى منطقة غير آمنة من رواندا، نياماتا في بوجيسيرا. وفي عام 1973 طردت من المدرسة وتم نفيها إلى بوروندي، ثم استقرت في فرنسا عام 1992.
وبعد ذلك بـ12 عاماً دخلت عالم الكتابة بعملها الذي نشرته في غاليمار، وكانت بمثابة سيرة ذاتية. وفي عام 2008 نشرت «امرأة عارية القدمين»، ويعتبر هذا الكتاب تكريماً لأمها ولكل الأمهات الشجاعات. وحصلت به على جائزة «Seligman» وهي جائزة ضد التمييز العنصري. ثم أصدرت مجموعة «البطن النهم».



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.