فالح الفياض الرئيس السابق لهيئة «الحشد الشعبي» العراقي والرئيس السابق لجهاز الأمن الوطني ومستشار الأمن الوطني السابق، يبدو الآن طرفاً مباشراً في واحدة من أعمق الأزمات التي تمرّ بها العملية السياسية في العراق بعد انتخابات مايو (أيار) الماضي. وعلى الرغم من تعددية المواقع التي شغلها ويشغلها دائماً، حزبياً وسياسياً، فإن الفياض - المرشح لحقيقة وزارة الداخلية المهمة والحسّاسة في حكومة عادل عبد المهدي - رجل لا يميل إلى الأضواء الساطعة. بل، على العكس، يفضل دائما دور «رجل الظل» الذي يفضّل الهدوء وسط عملية سياسية سمتها الأساسية الأضواء والمعارك والاحتدامات والمناكفات بين أطرافها، زعامات وأحزاباً وكتلاً وقياداتٍ دينية كانت أم سياسية.
من منطلق المواقع الأمنية التي شغلها فالح الفياض طوال السنوات الماضية في العراق، سواء كرئيس لهيئة «الحشد الشعبي» أو كرئيس لجهاز الأمن الوطني أو كمستشار الأمن الوطني، فإنه أصبح لاعباً أمنياً قوياً سمحت له مناصبه بأن يتكفّل بحمل الرسائل الخاصة إلى قيادات «التحالف الرباعي» القائم بين العراق وسوريا وإيران وروسيا. إذ ربطته علاقة قوية في سوريا مع بشار الأسد، وكذلك بقيادة إيران التي يجري الحديث الآن في الأوساط السياسية العراقية المقرّبة من صنع القرار أنها هي مَن تدعمه لمنصب وزير الداخلية.
الفياض سياسي قليل الكلام، لم يؤكد أو ينفي صحة ما يجري تداوله من أخبار، بدءاً من عملية انشقاقه من ائتلاف «النصر» بزعامة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي - الذي يقال إنه كسر ظهر «النصر» والعبادي معاً - وصولاً إلى أنباء تنافسه على منصب رئاسة الوزراء مع مجموعة من المتنافسين البُدلاء في أعقاب تراجع حظوظ كل من حيدر العبادي، الذي كان منافساً قوياً... وهادي العامري الذي رشح نفسه هو الآخر.
الفياض، هو شيخ عشيرة البوعامر العريقة في العراق، التي تعد إحدى أهم القبائل الشيعية في «حزام بغداد»، بينما تغلب صفة الانتماء إلى الطائفة السنّية على معظم قبائل «حزام بغداد». وهذا أمر كان ولا يزال له دلالته في الوضعين الأمني والسياسي في البلاد عموماً، وفي العاصمة بغداد بالدرجة الأولى.
في فترة من الفترات، كانت تنفجر في العاصمة بغداد وحدها أكثر من عشر سيارات مفخّخة تخلف عشرات، إن لم يكن أحياناً، مئات القتلى والجرحى. وكانت التهمة الدائمة أن مناطق «حزام بغداد» تكاد تكون أبرز الحواضن، التي إما تنطلق منها تلك السيارات المفخّخة أو المجاميع الإرهابية... حتى على عهد تنظيم القاعدة، وقبل ظهور تنظيم داعش بعد عام 2012، أو تأتي من الفلّوجة، أيام كانت الأخيرة توصف بأنها إحدى أكبر بؤر التوتر أيام كان «القاعدة» ومن ثم «داعش» يسيطر عليها.
وبالنظر لما يمكن أن يترتب على ذلك من توتّر أمني قد يقود إلى تقويض السلم الأهلي داخل العاصمة ومحيطها، كان الفياض - الذي هو نجل شيخ عشيرة البوعامر - أحد أبرز الداعمين للسلم الأهلي في تلك المناطق عن طريق نزع فتيل الأزمات التي تحصل بسبب ذلك. وهذا عامل جعله ينسج علاقات قوية مع تلك القبائل رغم الاختلاف المذهبي.
مع ذلك، فإن الاتهامات التي بقيت توجّه إليه حين تولى منصب رئاسة جهاز الأمن القومي تتمثل في كونه قرّب أبناء عشيرته وعائلته في المواقع المختلفة لمؤسسات هذا الجهاز.
وفي العراق، حيث لا تزال النزعة العشائرية هي الغالبة على أصعدة مختلفة - من بينها الصعيد السياسي - كثيرا ما تتمكن تلك العشائر من تقديم عدد من أبنائها إلى واجهة المشهد السياسي، وهذا ما يمنحهم حصانة مزدوجة.
والقصد، من الحصانة المزدوجة أنها مرة حصانة المنصب الرسمي، لا سيما، إذا كان الشخص المقصود نائباً ومسؤولاً كبيراً، ومرة ثانية حصانة الثقل العشائري الذي يتيح للشخص المناورة كثيراً حتى في أحلك الظروف.
بين البُعدين السياسي والعشائري، بالنسبة لفالح الفياض، بدا الأمر صعباً في الآونة الأخيرة، حين تحوّل الصراع بشأنه بين أهم كتلتين في البرلمان العراقي المنتخب حديثاً، وهما كتلة «الإصلاح والإعمار» التي تضم زعيم «التيار الصدري» مقتدى الصدر، وحيدر العبادي زعيم ما تبقى من ائتلاف «النصر» (بعد انشقاق الفياض عنه)، وعمار الحكيم زعيم تيار «الحكمة»، وإياد علاوي زعيم «الوطنية»، وبين كتلة «البناء» التي تضم «الفتح» بزعامة هادي العامري و«دولة القانون» بزعامة نوري المالكي والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني و«المحوَر الوطني» السنّي - بتعدد زعاماته - إلى صراع سياسي مفتوح على كل الاحتمالات.
بين «الظل» و«الواجهة»
وسط هذا المستوى الخطير من الصراع، لا يزال الفياض يتأرجح بين «الظل»، حيث يحجم عن التعبير عن رأيه فيما يجري حوله وبسببه، و«الواجهة»، حيث هو لا سواه سبب الأزمة، مثلما يرى خصومه أقطاب كتلة «الإصلاح» وفي المقدمة منهم زعيم «التيار الصدري» وزعيم تحالف «سائرون» مقتدى الصدر الذي يواصل فرض «الفيتو» على قبول تثبيت الفياض وزيراً للداخلية.
الفياض (المهندس، وشيخ العشيرة، والمستشار) الذي يفضل، مثل سواه من زعامات الطبقة السياسية العراقية الحالية، لقب «الحاج» لكونه جامعاً مانعاً... بحيث يجب ما قبله من ألقاب وصفات وأسماء، صامت حيال هذا «الفيتو».
المرة الوحيدة التي تكلّم فيها الفياض بشكل واضح هي أنه حين انشق عن ائتلاف «النصر» بزعامة العبادي الذي كان يضم 43 نائباً - وهو ما كاد يُرجح كفة كتلة «الإصلاح» ككتلة أكبر ترشح رئيس الوزراء - لينضم إلى كتلة «البناء».
العبادي، وعلى إثر ذلك أقال الفياض من مناصبه الأمنية (رئيس هيئة «الحشد الشعبي» ورئيس جهاز الأمن الوطني ومستشار الأمن الوطني) دفعة واحدة. وكان التبرير الذي قدّمه العبادي حيث حصل هذا الأمر إبّان الأيام الأخيرة من عمر حكومته، عندما تحولت إلى «حكومة تصريف أعمال»، هو أن «الفياض سياسي، وزعيم حزب، وفائز بالانتخابات، وبالتالي لا يحقّ له تسلم مواقع أمنية».
هذا الإجراء الذي اتخذه العبادي رفضه الفياض، وعدّه قضية سياسية بحتة. ومن جانبها، فإن كتلة «البناء» لم تنس هذا «الفضل» للفياض. وبالفعل، فإن الأوساط المقربة من الكتلة - وكذلك منافسيها - تؤكد أن هذه الكتلة وعدته بمنصب وزير الداخلية بعدما كان مثل العبادي والعامري وشخصيات أخرى أحد مرشحي التسوية لرئاسة الوزراء أيام لم يكن اسم عادل عبد المهدي مطروحا لهذا المنصب. والجدير بالذكر، أن عبد المهدي كان قد كتب مقالة شهيرة في جريدة «العدالة» كان عنوانها ما يشبه الاعتذار عن عدم قبول المنصب في وقت مبكر، مبينا أن «الشروط (لتوليه رئاسة الحكومة) غير متوافرة».
إلا أنه بعد نحو شهرين من تداول أسماء المرشحين لمنصب رئيس الوزراء، كان الفياض - وهذه من المفارقات - يروّج للعبادي بوصفه مرشح ائتلاف «النصر» للمنصب، وذلك أيام كان الفياض جزءاً من «النصر» بزعامة العبادي.
بعد ذلك بدأت المتغيرات المتسارعة ابتداء من شهر يوليو (تموز) الماضي حين انطلقت مظاهرات البصرة التي استمرت لأكثر من شهرين، ثم تحولت إلى عمليات حرق متبادل للمقرات الحكومية والحزبية، وحتى القنصلية الإيرانية. وعندها، وجدت الطبقة السياسية العراقية أنها وصلت إلى طريق مسدود.
حين توافرت الشروط
في ظل تعثر جهود البحث عن مرشح مقبول لرئاسة الوزراء بعد فشل كل من كتلتي «الإصلاح» «البناء» في تكريس واحدة منهما ككتلة أكبر داخل البرلمان، تغيّرت الحسابات. وبينما لم تسجل أي من الكتلتين نفسها في الجلسة الأولى للبرلمان كـ«كتلة أكبر» أولم تتقدم أي منهما إلى المحكمة الاتحادية بوصفها «كتلة أكبر»، جاء الاتفاق الذي أبرمه زعيم «سائرون» مقتدى الصدر و«الفتح» هادي العامري لتجاوز مسألة «الكتلة الأكبر». ومن ثم، التفاهم بين الكتلتين اللتين تملكان أجنحة عسكرية على أن تتشارك، كلتاهما، في الحكومة عن طريق المجيء بـ«مرشح توافقي».
للعلم، عندما سحب العامري ترشحه لمنصب رئيس الوزراء، كانت حظوظ حيدر العبادي قد تراجعت بعد انسحاب الفياض من ائتلافه. ومن ناحية ثانية، الفياض لم يعد تسويقه مرشحا لرئاسة الوزراء عقب التوافق بين العامري والصدر.
وفي نهاية المطاف، لم يبق في الميدان سوى رجل الاقتصاد المرموق عادل عبد المهدي. وهكذا طرح اسم عبد المهدي، خريج السوربون في باريس، والبعثي في مطلع شبابه، والشيوعي الماوي في منتصف شبابه، والإسلامي المنفتح بين كهولته وشيخوخته (عبد المهدي من مواليد 1942) كمرشح توافقي لرئاسة الحكومة.
إذن توافرت بذا الشروط التي كانت غير متوفرة، وتقدّم عبد المهدي ليتسلم التكليف بتشكيل الحكومة بعد نحو ساعة ونصف من انتخاب الدكتور برهم صالح رئيساً للجمهورية.
لم يتم ترتيب الأوراق. وسرعان ما برزت الخلافات بين مختلف الأطراف.
في المقابل، حبل الود، على الرغم من المشكلات، بقي موصولاً بين العامري والصدر حتى بعد بدء عبد المهدي إجراء المفاوضات لتشكيل حكومته.
السيد مقتدى الصدر تنازل عن حصة كتلة «سائرون» من الوزارات، ومنح عبد المهدي الحرية في اختيار الوزراء شريطة أن يكونوا مستقلين. والعامري، من جهته، وعقب إعلان الصدر، أعلن عن تنازل كتلة «الفتح» عن المناصب الوزارية.
بيد أن الصدر الذي يحتفظ بزعامة مطلقة داخل «التيار» و«سائرون» ظل يتمتع بأفضلية لم تكن تتوافر للعامري الذي هو زعيم فيلق «بدر» ضمن كتلة «الفتح»، التي تضم أيضا كتلة «عصائب أهل الحق» التي لم تكن تشارك كثيرا رؤية العامري في منح عبد المهدي مطلق الحرية في اختيار الوزارات. ليس هذا فحسب، بل إنه ضمن الشروط التي تم التوصل إليها بين الصدر والعامري هي رفض توزير النواب الحاليين والوزراء السابقين.
«سيلفي» نهاية التوافق
لاحقاً، عند بدء تنفيذ الاتفاق المبرم بين «الفتح» بزعامة العامري و«سائرون» بزعامة الصدر من قبل عادل عبد المهدي، رئيس الوزراء، سرعان ما تسلل شيطان التفاصيل إلى صلب الاتفاقات. ومن ثم، أطاح بـ«قشة التوافق» الذي بدا هشاً، خصوصاً، سقوطه عند أول مواجهة برلمانية حاسمة الأسبوع الماضي، حين حمل عبد المهدي قائمة بأسماء الوزراء، يتقدمها اسم فالح الفياض، مرشحاً لحقيبة الداخلية.
كتلة «البناء» أرادت تمريره بالغالبية خارج سياق التوافق الذي انتهى بين الكتلتين عند بوابة البرلمان. وبينما بدا النصاب كاملاً لبدء التصويت على المرشحين، سرعان ما انسحب النائب الأول لرئيس البرلمان حسن الكعبي، الذي ينتمي إلى كتلة «سائرون» ليتبعه ثلاثة نواب آخرون ليختل التوازن، ويضطر رئيس البرلمان محمد الحلبوسي إلى رفع الجلسة.
عندها أعلن مناصرو «الإصلاح» انتصارهم لإفشالهم تمرير الفياض لمنصب وزير الداخلية. وتعبيرا عن فرحتهم التقطوا عند بوابة البرلمان «سيلفي» (صورة ذاتية) جماعيا كان بمثابة إعلان نهاية التوافق بين الفريقين.
اليوم تخشى أطراف كثيرة في العراق انتقال الأزمة إلى الشارع في حال استمر الإصرار على تمرير فالح الفياض بالغالبية خلال الجلسات القادمة. ومن جهته، وعلى الرغم من كل هذا الضجيج الدائر من حوله لا يزال الفياض ملتزماً الصمت، ومردداً مع نفسه قول المتنبي: «أنام ملء جفوني عن شواردها... ويسهر الخلق جرّاها ويختصمُ».
فالح الفياض في سطور
> فالح الفياض من مواليد بغداد عام 1956، وهو من أبناء أسرة شيعية تقطن شمال شرقي العاصمة العراقية.
حصل على شهادة بكالوريوس في هندسة الكهرباء من جامعة الموصل عام 1977، وانضم إلى حزب الدعوة الإسلامية منذ وقت مبكّر - وتعرّض للاعتقال من قبل نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين عام 1980، وحكم عليه بالسجن المؤبد، لكنه أمضى في سجن أبو غريب خمس سنوات.
بعد إسقاط نظام صدام عام 2003 أصبح الفياض عضوا في أول جمعية وطنية، ثم عضوا في أول برلمان عراقي منتخب عام 2005 عن «الائتلاف الوطني العراقي». أصبح مديرا لمكتب نائب رئيس الجمهورية، وعضوا في «لجنة المصالحة الوطنية العليا» خلال عهد الحكومة السابقة.
تسلم عام 2014 رئاسة هيئة «الحشد الشعبي» حتى عام 2018، وخاض الانتخابات عبر كتلة «عطاء» التي يتزّعمها وفاز فيها.