فالح الفياض... بين «الظل» و«الواجهة»

المرشح لوزارة الداخلية الحساسة في الحكومة العراقية

فالح الفياض...  بين «الظل» و«الواجهة»
TT

فالح الفياض... بين «الظل» و«الواجهة»

فالح الفياض...  بين «الظل» و«الواجهة»

فالح الفياض الرئيس السابق لهيئة «الحشد الشعبي» العراقي والرئيس السابق لجهاز الأمن الوطني ومستشار الأمن الوطني السابق، يبدو الآن طرفاً مباشراً في واحدة من أعمق الأزمات التي تمرّ بها العملية السياسية في العراق بعد انتخابات مايو (أيار) الماضي. وعلى الرغم من تعددية المواقع التي شغلها ويشغلها دائماً، حزبياً وسياسياً، فإن الفياض - المرشح لحقيقة وزارة الداخلية المهمة والحسّاسة في حكومة عادل عبد المهدي - رجل لا يميل إلى الأضواء الساطعة. بل، على العكس، يفضل دائما دور «رجل الظل» الذي يفضّل الهدوء وسط عملية سياسية سمتها الأساسية الأضواء والمعارك والاحتدامات والمناكفات بين أطرافها، زعامات وأحزاباً وكتلاً وقياداتٍ دينية كانت أم سياسية.

من منطلق المواقع الأمنية التي شغلها فالح الفياض طوال السنوات الماضية في العراق، سواء كرئيس لهيئة «الحشد الشعبي» أو كرئيس لجهاز الأمن الوطني أو كمستشار الأمن الوطني، فإنه أصبح لاعباً أمنياً قوياً سمحت له مناصبه بأن يتكفّل بحمل الرسائل الخاصة إلى قيادات «التحالف الرباعي» القائم بين العراق وسوريا وإيران وروسيا. إذ ربطته علاقة قوية في سوريا مع بشار الأسد، وكذلك بقيادة إيران التي يجري الحديث الآن في الأوساط السياسية العراقية المقرّبة من صنع القرار أنها هي مَن تدعمه لمنصب وزير الداخلية.
الفياض سياسي قليل الكلام، لم يؤكد أو ينفي صحة ما يجري تداوله من أخبار، بدءاً من عملية انشقاقه من ائتلاف «النصر» بزعامة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي - الذي يقال إنه كسر ظهر «النصر» والعبادي معاً - وصولاً إلى أنباء تنافسه على منصب رئاسة الوزراء مع مجموعة من المتنافسين البُدلاء في أعقاب تراجع حظوظ كل من حيدر العبادي، الذي كان منافساً قوياً... وهادي العامري الذي رشح نفسه هو الآخر.
الفياض، هو شيخ عشيرة البوعامر العريقة في العراق، التي تعد إحدى أهم القبائل الشيعية في «حزام بغداد»، بينما تغلب صفة الانتماء إلى الطائفة السنّية على معظم قبائل «حزام بغداد». وهذا أمر كان ولا يزال له دلالته في الوضعين الأمني والسياسي في البلاد عموماً، وفي العاصمة بغداد بالدرجة الأولى.
في فترة من الفترات، كانت تنفجر في العاصمة بغداد وحدها أكثر من عشر سيارات مفخّخة تخلف عشرات، إن لم يكن أحياناً، مئات القتلى والجرحى. وكانت التهمة الدائمة أن مناطق «حزام بغداد» تكاد تكون أبرز الحواضن، التي إما تنطلق منها تلك السيارات المفخّخة أو المجاميع الإرهابية... حتى على عهد تنظيم القاعدة، وقبل ظهور تنظيم داعش بعد عام 2012، أو تأتي من الفلّوجة، أيام كانت الأخيرة توصف بأنها إحدى أكبر بؤر التوتر أيام كان «القاعدة» ومن ثم «داعش» يسيطر عليها.
وبالنظر لما يمكن أن يترتب على ذلك من توتّر أمني قد يقود إلى تقويض السلم الأهلي داخل العاصمة ومحيطها، كان الفياض - الذي هو نجل شيخ عشيرة البوعامر - أحد أبرز الداعمين للسلم الأهلي في تلك المناطق عن طريق نزع فتيل الأزمات التي تحصل بسبب ذلك. وهذا عامل جعله ينسج علاقات قوية مع تلك القبائل رغم الاختلاف المذهبي.
مع ذلك، فإن الاتهامات التي بقيت توجّه إليه حين تولى منصب رئاسة جهاز الأمن القومي تتمثل في كونه قرّب أبناء عشيرته وعائلته في المواقع المختلفة لمؤسسات هذا الجهاز.
وفي العراق، حيث لا تزال النزعة العشائرية هي الغالبة على أصعدة مختلفة - من بينها الصعيد السياسي - كثيرا ما تتمكن تلك العشائر من تقديم عدد من أبنائها إلى واجهة المشهد السياسي، وهذا ما يمنحهم حصانة مزدوجة.
والقصد، من الحصانة المزدوجة أنها مرة حصانة المنصب الرسمي، لا سيما، إذا كان الشخص المقصود نائباً ومسؤولاً كبيراً، ومرة ثانية حصانة الثقل العشائري الذي يتيح للشخص المناورة كثيراً حتى في أحلك الظروف.
بين البُعدين السياسي والعشائري، بالنسبة لفالح الفياض، بدا الأمر صعباً في الآونة الأخيرة، حين تحوّل الصراع بشأنه بين أهم كتلتين في البرلمان العراقي المنتخب حديثاً، وهما كتلة «الإصلاح والإعمار» التي تضم زعيم «التيار الصدري» مقتدى الصدر، وحيدر العبادي زعيم ما تبقى من ائتلاف «النصر» (بعد انشقاق الفياض عنه)، وعمار الحكيم زعيم تيار «الحكمة»، وإياد علاوي زعيم «الوطنية»، وبين كتلة «البناء» التي تضم «الفتح» بزعامة هادي العامري و«دولة القانون» بزعامة نوري المالكي والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني و«المحوَر الوطني» السنّي - بتعدد زعاماته - إلى صراع سياسي مفتوح على كل الاحتمالات.
بين «الظل» و«الواجهة»
وسط هذا المستوى الخطير من الصراع، لا يزال الفياض يتأرجح بين «الظل»، حيث يحجم عن التعبير عن رأيه فيما يجري حوله وبسببه، و«الواجهة»، حيث هو لا سواه سبب الأزمة، مثلما يرى خصومه أقطاب كتلة «الإصلاح» وفي المقدمة منهم زعيم «التيار الصدري» وزعيم تحالف «سائرون» مقتدى الصدر الذي يواصل فرض «الفيتو» على قبول تثبيت الفياض وزيراً للداخلية.
الفياض (المهندس، وشيخ العشيرة، والمستشار) الذي يفضل، مثل سواه من زعامات الطبقة السياسية العراقية الحالية، لقب «الحاج» لكونه جامعاً مانعاً... بحيث يجب ما قبله من ألقاب وصفات وأسماء، صامت حيال هذا «الفيتو».
المرة الوحيدة التي تكلّم فيها الفياض بشكل واضح هي أنه حين انشق عن ائتلاف «النصر» بزعامة العبادي الذي كان يضم 43 نائباً - وهو ما كاد يُرجح كفة كتلة «الإصلاح» ككتلة أكبر ترشح رئيس الوزراء - لينضم إلى كتلة «البناء».
العبادي، وعلى إثر ذلك أقال الفياض من مناصبه الأمنية (رئيس هيئة «الحشد الشعبي» ورئيس جهاز الأمن الوطني ومستشار الأمن الوطني) دفعة واحدة. وكان التبرير الذي قدّمه العبادي حيث حصل هذا الأمر إبّان الأيام الأخيرة من عمر حكومته، عندما تحولت إلى «حكومة تصريف أعمال»، هو أن «الفياض سياسي، وزعيم حزب، وفائز بالانتخابات، وبالتالي لا يحقّ له تسلم مواقع أمنية».
هذا الإجراء الذي اتخذه العبادي رفضه الفياض، وعدّه قضية سياسية بحتة. ومن جانبها، فإن كتلة «البناء» لم تنس هذا «الفضل» للفياض. وبالفعل، فإن الأوساط المقربة من الكتلة - وكذلك منافسيها - تؤكد أن هذه الكتلة وعدته بمنصب وزير الداخلية بعدما كان مثل العبادي والعامري وشخصيات أخرى أحد مرشحي التسوية لرئاسة الوزراء أيام لم يكن اسم عادل عبد المهدي مطروحا لهذا المنصب. والجدير بالذكر، أن عبد المهدي كان قد كتب مقالة شهيرة في جريدة «العدالة» كان عنوانها ما يشبه الاعتذار عن عدم قبول المنصب في وقت مبكر، مبينا أن «الشروط (لتوليه رئاسة الحكومة) غير متوافرة».
إلا أنه بعد نحو شهرين من تداول أسماء المرشحين لمنصب رئيس الوزراء، كان الفياض - وهذه من المفارقات - يروّج للعبادي بوصفه مرشح ائتلاف «النصر» للمنصب، وذلك أيام كان الفياض جزءاً من «النصر» بزعامة العبادي.
بعد ذلك بدأت المتغيرات المتسارعة ابتداء من شهر يوليو (تموز) الماضي حين انطلقت مظاهرات البصرة التي استمرت لأكثر من شهرين، ثم تحولت إلى عمليات حرق متبادل للمقرات الحكومية والحزبية، وحتى القنصلية الإيرانية. وعندها، وجدت الطبقة السياسية العراقية أنها وصلت إلى طريق مسدود.

حين توافرت الشروط

في ظل تعثر جهود البحث عن مرشح مقبول لرئاسة الوزراء بعد فشل كل من كتلتي «الإصلاح» «البناء» في تكريس واحدة منهما ككتلة أكبر داخل البرلمان، تغيّرت الحسابات. وبينما لم تسجل أي من الكتلتين نفسها في الجلسة الأولى للبرلمان كـ«كتلة أكبر» أولم تتقدم أي منهما إلى المحكمة الاتحادية بوصفها «كتلة أكبر»، جاء الاتفاق الذي أبرمه زعيم «سائرون» مقتدى الصدر و«الفتح» هادي العامري لتجاوز مسألة «الكتلة الأكبر». ومن ثم، التفاهم بين الكتلتين اللتين تملكان أجنحة عسكرية على أن تتشارك، كلتاهما، في الحكومة عن طريق المجيء بـ«مرشح توافقي».
للعلم، عندما سحب العامري ترشحه لمنصب رئيس الوزراء، كانت حظوظ حيدر العبادي قد تراجعت بعد انسحاب الفياض من ائتلافه. ومن ناحية ثانية، الفياض لم يعد تسويقه مرشحا لرئاسة الوزراء عقب التوافق بين العامري والصدر.
وفي نهاية المطاف، لم يبق في الميدان سوى رجل الاقتصاد المرموق عادل عبد المهدي. وهكذا طرح اسم عبد المهدي، خريج السوربون في باريس، والبعثي في مطلع شبابه، والشيوعي الماوي في منتصف شبابه، والإسلامي المنفتح بين كهولته وشيخوخته (عبد المهدي من مواليد 1942) كمرشح توافقي لرئاسة الحكومة.
إذن توافرت بذا الشروط التي كانت غير متوفرة، وتقدّم عبد المهدي ليتسلم التكليف بتشكيل الحكومة بعد نحو ساعة ونصف من انتخاب الدكتور برهم صالح رئيساً للجمهورية.
لم يتم ترتيب الأوراق. وسرعان ما برزت الخلافات بين مختلف الأطراف.
في المقابل، حبل الود، على الرغم من المشكلات، بقي موصولاً بين العامري والصدر حتى بعد بدء عبد المهدي إجراء المفاوضات لتشكيل حكومته.
السيد مقتدى الصدر تنازل عن حصة كتلة «سائرون» من الوزارات، ومنح عبد المهدي الحرية في اختيار الوزراء شريطة أن يكونوا مستقلين. والعامري، من جهته، وعقب إعلان الصدر، أعلن عن تنازل كتلة «الفتح» عن المناصب الوزارية.
بيد أن الصدر الذي يحتفظ بزعامة مطلقة داخل «التيار» و«سائرون» ظل يتمتع بأفضلية لم تكن تتوافر للعامري الذي هو زعيم فيلق «بدر» ضمن كتلة «الفتح»، التي تضم أيضا كتلة «عصائب أهل الحق» التي لم تكن تشارك كثيرا رؤية العامري في منح عبد المهدي مطلق الحرية في اختيار الوزارات. ليس هذا فحسب، بل إنه ضمن الشروط التي تم التوصل إليها بين الصدر والعامري هي رفض توزير النواب الحاليين والوزراء السابقين.

«سيلفي» نهاية التوافق

لاحقاً، عند بدء تنفيذ الاتفاق المبرم بين «الفتح» بزعامة العامري و«سائرون» بزعامة الصدر من قبل عادل عبد المهدي، رئيس الوزراء، سرعان ما تسلل شيطان التفاصيل إلى صلب الاتفاقات. ومن ثم، أطاح بـ«قشة التوافق» الذي بدا هشاً، خصوصاً، سقوطه عند أول مواجهة برلمانية حاسمة الأسبوع الماضي، حين حمل عبد المهدي قائمة بأسماء الوزراء، يتقدمها اسم فالح الفياض، مرشحاً لحقيبة الداخلية.
كتلة «البناء» أرادت تمريره بالغالبية خارج سياق التوافق الذي انتهى بين الكتلتين عند بوابة البرلمان. وبينما بدا النصاب كاملاً لبدء التصويت على المرشحين، سرعان ما انسحب النائب الأول لرئيس البرلمان حسن الكعبي، الذي ينتمي إلى كتلة «سائرون» ليتبعه ثلاثة نواب آخرون ليختل التوازن، ويضطر رئيس البرلمان محمد الحلبوسي إلى رفع الجلسة.
عندها أعلن مناصرو «الإصلاح» انتصارهم لإفشالهم تمرير الفياض لمنصب وزير الداخلية. وتعبيرا عن فرحتهم التقطوا عند بوابة البرلمان «سيلفي» (صورة ذاتية) جماعيا كان بمثابة إعلان نهاية التوافق بين الفريقين.
اليوم تخشى أطراف كثيرة في العراق انتقال الأزمة إلى الشارع في حال استمر الإصرار على تمرير فالح الفياض بالغالبية خلال الجلسات القادمة. ومن جهته، وعلى الرغم من كل هذا الضجيج الدائر من حوله لا يزال الفياض ملتزماً الصمت، ومردداً مع نفسه قول المتنبي: «أنام ملء جفوني عن شواردها... ويسهر الخلق جرّاها ويختصمُ».

فالح الفياض في سطور

> فالح الفياض من مواليد بغداد عام 1956، وهو من أبناء أسرة شيعية تقطن شمال شرقي العاصمة العراقية.
حصل على شهادة بكالوريوس في هندسة الكهرباء من جامعة الموصل عام 1977، وانضم إلى حزب الدعوة الإسلامية منذ وقت مبكّر - وتعرّض للاعتقال من قبل نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين عام 1980، وحكم عليه بالسجن المؤبد، لكنه أمضى في سجن أبو غريب خمس سنوات.
بعد إسقاط نظام صدام عام 2003 أصبح الفياض عضوا في أول جمعية وطنية، ثم عضوا في أول برلمان عراقي منتخب عام 2005 عن «الائتلاف الوطني العراقي». أصبح مديرا لمكتب نائب رئيس الجمهورية، وعضوا في «لجنة المصالحة الوطنية العليا» خلال عهد الحكومة السابقة.
تسلم عام 2014 رئاسة هيئة «الحشد الشعبي» حتى عام 2018، وخاض الانتخابات عبر كتلة «عطاء» التي يتزّعمها وفاز فيها.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.