كرة النار تتدحرج في فرنسا ولم تعد مقصورة على «السترات الصفراء». التلامذة والطلاب انضموا إلى حركة احتجاجية طلابية، والمزارعون يتهيأون للتحرك، فيما أعلن قطاع النقل البري بدء إضراب عام بدءا من الأحد القادم. كل له مطالبه. أما الخيط الجامع بين هذه الجهات، فهو الاستياء من السياسات الحكومية الاقتصادية والاجتماعية، والمطالبة بمزيد من العدالة الاجتماعية وتوزيع الجهود المطلوبة فيما يخص الضرائب والرسوم بشكل عادل، وتحسين الأحوال المعيشية للشرائح الاجتماعية الوسطى والأدنى.
وأصبح اليوم من الواضح للجميع أن رئيس الجمهورية والحكومة يواجهان أسوأ أزمة سياسية منذ وصول إيمانويل ماكرون إلى الرئاسة في ربيع العام الماضي. والأسوأ من ذلك أن هناك شعورا بأن الدولة افتقدت المبادرة، وتحاول كيفما اتفق على التعاطي مع الأزمات المتوالدة من بعضها البعض. ولعل أفضل صورة تعكس هذا الواقع هي «الاستقبال» الذي لقيه ماكرون، ليل أول من أمس، لدى زيارته لمقر الشرطة في مدينة بوي أو فوليه الواقعة وسط فرنسا، حيث أحرق المتظاهرون يوم السبت الماضي مقر الشرطة. أصوات صراخ وإهانات كانت باستقبال رئيس الجمهورية، وهي المرة الأولى التي يواجه فيها غضبا شعبيا من هذا النوع.
كانت الحكومة تأمل، بعد أن أعلن رئيسها إدوار فيليب «تجميد» زيادات الرسوم المقررة سابقا على المحروقات والغاز والكهرباء والتخلي عن فرض معايير تقنية أكثر تشددا بالنسبة للسيارات، أن تتوقف الحركة الاحتجاجية لـ«السترات الصفراء» باعتبار أن ما أعلن عنه يتجاوب مع مطالبهم الأساسية.
وبذلك يكون الرئيس والحكومة قد تراجعا عن مواقفهما السابقة الرافضة لأي تبديل أو تأجيل في موضوع الرسوم. وهذا التراجع، وهو أيضا الأول من نوعه لرئيس جعل ديدنه الذهاب حتى النهاية في خططه الإصلاحية، رغم الاعتراضات والاحتجاجات. إلا أن «السبت الأسود» الأخير الذي عاشته باريس وتميز بأعمال عنف وشغب وإحراق محال تجارية ومكاتب وسيارات وبنك جعل السلطات، بعد 17 يوما من انطلاق الحركة الاحتجاجية، تعدل موقفها وتقدم مرغمة على الاستجابة لجانب من المطالب المرفوعة. لكن أملها خاب، إذ اعتبر المحتجون أن «تجميد» زيادات الرسوم جاء متأخرا، إضافة إلى أنه غير كاف.
والمطلوب اليوم لم يعد محصورا به، بل ثمة مطالب إضافية منها تخفيف العبء الضريبي، وزيادة الحد الأدنى للأجور، ورفع المعاشات التقاعدية، وإعادة العمل بضريبة الثروة التي ألغتها الحكومة الخريف الماضي. والنتيجة كانت أن تدعو «السترات الصفراء» للعودة مجددا إلى باريس للاحتجاج. ودعا إريك درويه، أحد قادة الحركة في تغريدة، إلى «العودة إلى باريس السبت القادم قريبا من مراكز السلطة في جادة الشانزليزيه، وقوس النصر، وساحة الكونكورد».
حقيقة الأمر أن السلطة تعيش حالة من الهلع، وخوفها الأكبر أن تتكرر في السبت القادم مشاهد المواجهات والكر والفر بين المحتجين الذين انضمّ إليهم المئات من المشاغبين وقوات الأمن، وأن تنقل قنوات العالم التلفزيونية مشاهد الحرائق المندلعة وأعمال اللصوصية، وتهشم أكثر فأكثر صورة العاصمة وفرنسا، وتزيد من الخسائر التي لحقت باقتصادها.
لذا، فإن رئيس الجمهورية، عبر الناطق باسم الحكومة الوزير بنجامين غريفو، أطلق صباح أمس دعوة باتجاه الأحزاب والنقابات وأرباب العمل يحثهم فيها على دعوة المحتجين لوقف حركاتهم الاحتجاجية. ونبه ماكرون من استغلال ما يحصل من قبل جهات «ذات هدف واحد، وهو مهاجمة الجمهورية».
ومن جانبه، مثل رئيس الحكومة إدوار فيليب، بعد الظهر أمام المجلس النيابي بمناسبة جلسة النقاش المقررة للتطورات الأخيرة. وفي الوقت عينه، توزع الوزراء على كافة قنوات التلفزة والإذاعة وهم يحملون رسائل التهدئة وليؤكدوا أن تجميد زيادات الرسوم لستة أشهر يمكن أن تتحول لاحقا إلى إلغاء نهائي، إذا لم تجد الدولة بديلا عن ذلك. وذهب غريفو إلى الإشارة إلى أن الحكومة مستعدة للنظر «ليس في الوقت الحاضر» وإنما لاحقا في موضوع إعادة فرض الضريبة على الثروة، إذا تبين أن إلغاءها لم يسهم في دفع أصحاب الثروات للاستثمار في الاقتصاد الفرنسي. ودعا لوران بيرجيه، أمين عام نقابة الكونفدرالية العامة للشغل القريبة من الحزب الاشتراكي الحكومة إلى القيام بإصلاح ضريبي، معتبرا أن «العدالة الضريبة هي أم المعارك».
وكانت جلسة مجلس النواب أمس حامية، وانصبت الانتقادات بالدرجة الأولى على الرئيس ماكرون من زاوية أسلوبه «الفوقي» في الحكم، ومفهومه «العمودي» لممارستها، ولكن خصوصا على مضمون السياسات التي ينفّذها منذ 16 شهرا والتي رآها اليسار الاشتراكي والمتشدد وكذلك حزب «الجمهوريون» اليمين الكلاسيكي وحزب «التجمع الوطني» الذي تترأسه مارين لوبان أنها «تفتقر للعدالة الضريبية».
ولم يجد رئيس الحكومة من يقف إلى جانبه سوى حزب «الجمهورية إلى الأمام»، وهو الحزب الرئاسي وحليفه «الحزب الديمقراطي» الوسطي. ونقطة الالتقاء الرئيسية للمنتقدين أن التدابير التي أعلنتها الحكومة جاءت «متأخرة ومنقوصة». وواضح أن الحكومة تراهن على الانشقاقات داخل المحتجين، وعلى تباين نظراتهم إزاء التجاوب مع المقترحات. لكنها في الوقت عينه تتخوف من تراكم الحركات المطلبية وتضافرها. والشعور المتنامي اليوم لدى الأحزاب أو النقابات أن الحكم يجتاز مرحلة صعبة يمكن الاستفادة منها لانتزاع ما يمكن انتزاعه من مطالب. ويظهر آخر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «بي في آي»، ونشر مساء الثلاثاء، أن 70 في المائة من الفرنسيين يرون أن «تجميد» الرسوم على المشتقات النفطية سبب كاف لوقف المظاهرات والأعمال الاحتجاجية. لكن لا يبدو أن هذا التوجه هو الغالب لدى «السترات الصفراء». ولذا، فإن السلطات الأمنية تعمل مجددا على خطط تمكنها من تلافي التجاوزات وأعمال الشغب التي عرفتها باريس وعدد من المدن الكبرى السبت الماضي.
وأمس، طالب حزب الجمهوريين اليميني الحكومة بإعادة فرض حالة الطوارئ. لكن وزير الدولة للشؤون الأمنية لوران نونيز ما زال يعتبر أن هذا الأمر غير مطروح اليوم. من هنا، فإن مجريات السبت القادم ستحدد ما إذا كان الفرنسيون سيعودون للعيش في ظل قانون الطوارئ الذي خرجوا منه قبل عام تماما.
تنازلات الحكومة الفرنسية تفشل في إرضاء «السترات الصفراء»
السلطات تتخوف من «سبت أسود» جديد
تنازلات الحكومة الفرنسية تفشل في إرضاء «السترات الصفراء»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة