يراهن رئيس الجمهورية الفرنسية ورئيس حكومته على تفكيك «اللغم المتفجر» المتمثل بحركة «السترات الصفراء»، الذي تلا «سبتاً أسود» آخر يعمم الفوضى وينشر الحرائق في باريس والكثير من المدن الفرنسية. وبعد أن ترددت الحكومة طويلاً ومانعت في التجاوب مع مطالب «السترات الصفراء» بحجة رفض الخضوع لضغوط الشارع والتمسك ببرنامجها الخاص بزيادة الرسوم على المحروقات في إطار برنامج يمتد لثلاث سنوات، اضطرت أمس إلى التراجع بعد أن اقتصرت الخيارات المتاحة أمامها بأحد أمرين: إما المكابرة وعدم التراجع، وبالتالي ركوب المخاطر بمواجهة موجة أكبر من العنف والمطالب، وإما التراجع والانحناء أمام الموجة التي ما زالت رغم أعمال الشغب والعنف تحظى بعطف شعبي لم ينزل تحت عتبة 70 في المائة وفق آخر استطلاع للرأي.
في مواجهة هذا الوضع وبعد استشارات على مستويي الرئيس إيمانويل ماكرون الذي بقي صامتاً ورئيس الحكومة إدوار فيليب، وبعد اجتماع ليلي أول من أمس في قصر الإليزيه بحضور وزيري الاقتصاد والمال، إضافة إلى يوم كامل من الاستشارات التي قام بها فيليب مع ممثلين عن كامل الطيف السياسي يميناً ويساراً، توصل المسؤولون إلى خلاصة مفادها أنه لا بد من الانحناء أمام العاصفة الشعبية.
وما زاد من ذهابهما إلى هذا الخيار أن بؤراً اجتماعية إضافية أخذت تهدد بالالتحاق بـ«السترات الصفراء»، مثل المزارعين أو الطلاب والتلامذة وقطاع سيارات الإسعاف. ومهّدت رئاسة الحكومة للإعلان الذي صدر عن فيليب ظهر أمس، بتسريب معلومات عن فحوى القرارات التي اتخذت على أعلى مستوى.
وفي البيان المتلفز الذي قرأه رئيس الحكومة أمس، والذي يتضمن العناصر التي يأمل المسؤولون بأن تكون كافية لـ«إطفاء الحريق» المتنامي، حاولت السلطات معاودة الإمساك بالوضع من خلال معالجة السبب الرئيسي للأزمة وهو زيادة الرسوم على المشتقات النفطية.
وفي الأيام الماضية، تبين للجميع أن لا حل في الأفق لا يتضمن تدبيراً كهذا. ولذا؛ فإن النقطة الأولى في بيان إدوار فيليب تناولت هذه الرسوم التي تقترح الحكومة «تجميد» العمل بها لستة أشهر، وليس إلغاءها. ويعني هذا أن الحكومة لم تتخل عن مشروعها وهي تريد الاستفادة من الأشهر الستة لفتح باب الحوار مع المعنيين للبحث في إجراءات «مصاحبة» في حال أعيد العمل بها.
وتتناول النقطة الثانية تجميد أسعار الغاز والكهرباء التي كانت بدورها ستُرفع، كما المشتقات النفطية بداية العام المقبل، حتى نهاية الشتاء، وعملياً سيكون ذلك لستة أشهر أيضاً. أما النقطة الثالثة والأخيرة، فتتناول تجميد البرنامج الحكومي للتشدد في معايير الرقابة على السيارات، بحيث تستبعد منها تلك التي لا تتوافر فيها المعايير البيئية، أي السيارات التي يمكن اعتبارها ملوثة، والتي تستخدم الديزل. وسارعت أوساط الإليزيه إلى اعتبار أن ما قرر «ليس تراجعاً، لكن تغييراً في (استخدام) الوسائل»، مضيفة أن الطموح الرئاسي حول الانتقال إلى الطاقة النظيفة «ما زال على حاله».
وتقدر الأوساط المالية أن هذه التدابير التي يرى فيها إدوار فيليب وسيلة لـ«عودة الهدوء» ستحرم الحكومة من عائدات مالية للفترة المشار إليها من نحو ملياري يورو. لكن المشكلة تكمن في أن «السترات الصفراء» يرون أنها من جهة غير كافية، ومن جهة أخرى أنها تأتي متأخرة. والملاحظ أن اليمين واليسار انتقداها أمس للأسباب نفسها ولحجة رئيسية مفادها أن «النقمة» الشعبية لم تعد محصورة بالرسوم على المشتقات النفطية، بل تتناول مجمل السياسة الاجتماعية والاقتصادية لعهد الرئيس ماكرون وغياب العدالة الاجتماعية.
وبعد أن انطلقت الحركة الاحتجاجية في 17 الشهر الماضي من ملف الرسوم، تحول المطلب الرئيسي إلى «سلة مطالب» تضم، إلى جانب إلغاء زيادات الرسوم، رفع الحد الأدنى للأجور وزيادة المخصصات التقاعدية وإعادة العمل بالضريبة على الثروة وتحسين القدرات الشرائية للطبقتين الوسطى والشعبية.
وجاءت الانتقادات خصوصاً من «السترات الصفراء»، وانطلقت دعوة للنزول مجدداً إلى شوارع باريس وفي الأمكنة ذاتها يوم السبت المقبل؛ الأمر الذي يزيد من المخاوف. وقال بنجامين كوشي، أحد ممثليهم: إن الإجراءات المعلن عنها تمثل «مرحلة أولى» غير كافية؛ لأن السترات الصفراء «لا يرضون بالفتات». وقال زميل له ويدعي إيونيل رامبو: إن الحكومة «تأمل بأن نعود إلى منازلنا، لكننا لن نتحرك من حيث نحن». وثمة من يرى أن التدابير الحكومية المعلنة يمكن أن تساهم في تعميق الشرخ داخل صفوف الحركة؛ ما سيمكّن الحكومة للعب على تناقضاتها الداخلية.
يوم أمس، استقبل ماكرون في قصر الإليزيه لفترة قصيرة أحد ممثلي «السترات الصفراء» فيما بدا أنه بادرة غرضها العلاقات العامة، بينما بقي الرئيس صامتاً منذ عودته صباح الأحد من بوينس آيرس، حيث شارك في قمة العشرين. وفضّل ماكرون حتى اليوم أن يضع إدوار فيليب في الواجهة، حيث كلفه بالتشاور مع الأحزاب الممثلة في البرلمان ومع «السترات الصفراء» التي كان من المفترض أن يلتقي ممثلين عنهم أمس.
إلا أن الموعد ألغي بحجة أن هؤلاء يتعرضون لـ«ضغوط» من الجناح المتشدد الذي يظن أنه يحرك من قبل أطراف اليمين واليسار. وبعد أن مثُل وزير الداخلية أمام لجنة برلمانية ليل أول من أمس ليدافع عن طريقة تعامل القوى الأمنية مع المحتجين والمشاغبين يوم «السبت الأسود»، فإن رئيس الحكومة سيمثُل اليوم أمام المجلس النيابي، وغداً أمام مجلس الشيوخ، لعرض سياسة حكومته. ويسعى اليسار من الشيوعيين وحزب «فرنسا المتمردة» «اليسار المتشدد» الذي يقوده جان لوك ميلونشون إلى جمع عدد كافٍ من الأصوات لطرح الثقة بالحكومة، وهو يسعى لإقناع نواب الحزب الاشتراكي للتضامن معه. لكن ماكرون والحكومة يتمتعان بأكثرية مريحة داخل البرلمان؛ ولذا فإن أمر بقاء الحكومة محسوم أقله في الوقت الحاضر. وسبق أن استبعد ماكرون حل المجلس النيابي أو إعلان حالة الطوارئ.
مثلما كان منتظراً، انصبت الانتقادات على مقترحات الحكومة. واعتبر لوران فوكييه، رئيس حزب «الجمهوريون» اليميني المعتدل، أن «تجميد» رفع الرسوم «ليس كافياً، وما قُرّر اليوم كان يجب أن يُقرّر منذ وقت طويل». ويرى فوكييه، أن المطلوب هو «إلغاؤها تماماً»، داعياً الحكومة إلى الالتفات إلى حالة المتقاعدين بغرض تحسين أوضاعهم بعد أن تضرروا من زيادات الضرائب التي فرضها ماكرون. وذهب كريستيان جاكوب، رئيس مجموعة نواب حزب «الجمهوريون» إلى الإلغاء الفوري لزيادة الرسوم المقررة بداية 2019 و2020 و2021 و2022.
الحكومة الفرنسية تتراجع أمام ضغوط «السترات الصفراء» وتجمد العمل بزيادات الرسوم
انتقادات من اليسار واليمين... ودعوات للتظاهر السبت المقبل
الحكومة الفرنسية تتراجع أمام ضغوط «السترات الصفراء» وتجمد العمل بزيادات الرسوم
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة