مدريد... متاحف وقصور ومصارعة ثيران

يقول أهلها «ومن مدريد... إلى السماء». وسماؤها أجمل ما تكون في هذا الفصل. زرقة صافية تحنو على ذهب الخريف وسحر المطر الأوّل، ونسيم يحمل برودة لطيفة إلى العشايا التي أنهكها قيظ الصيف الطويل. إنها الفترة الأجمل لزيارة العاصمة الأوروبية التي أسّسها العرب في القرن التاسع حامية لطرق القوافل التجارية ومركزاً لتموين الحملات العسكرية نحو الثغر الأندلسي الأعلى. أطلقوا عليها «مجريط» لقربها من مجاري المياه التي ترفد نهر «التاج» الذي يلتفّ حول خصر طليطلة قبل أن يتابع مسراه الطويل نحو الأطلسي عند أقدام لشبونة.
مدريد عاصمة المملكة التي كانت أوسع الإمبراطوريات الأوروبية، ثم صارت جمهورية لم تُعمِّر طويلاً لتعود مملكة حديثة زاهية يضاعف عددُ السيّاح الذين يزورونها سنوياً سكانها الأربعين مليوناً. وهي منذ سنوات مقصد سياحي عالمي من الطراز الأول، تعجّ بالزوّار على مدار السنة، يُقبلون على متاحفها الغنيّة والأنشطة الفنّية النابضة في عروقها، ومطاعمها الذائعة الصيت، وتنظيمها المُدني الحديث الذي يحاكي أرقى العواصم.

جولة على المتاحف
وأهم المعالم الرئيسية:
متحف «Prado» الأغنى في العالم من حيث اللوحات والرسوم الفنّية، هو نقطة الانطلاق في أي جولة على المعالم الثقافية في مدريد. يقع في وسط المدينة، حيث تعود معظم مبانيه إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حول ميادين شهيرة بأنصبتها وتماثيلها. من أبرزها ميدان«La Cibeles» رمز المدينة أمام قصر البريد الذي أصبح اليوم مقرّ الحكومة الإقليمية، وباب القلعة (Alcala) عند المدخل الرئيسي لمتنزه El Retiro»» أكبر حديقة عامة في المدن الأوروبية. كنوز «البرادو» من روائع الرسم الكلاسيكي لا تحصى، من Velazquez المعلّم الأول الذي نهل من فنّه معظم رسّامي عصر النهضة الإيطاليين، إلى Goya الذي مهّدت أعماله للفن الملتزم بما نقله من عذابات ومآسٍ، مروراً بنخبة مصطفاة من نتاج المدرسة الفلامنكية التي كانت رحى حركة الرسم الأوروبي بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر.
على بعد عشرات الأمتار من «البرادو»، يقع متحف الملكة صوفيّا، المَعْلَم الفني الآخر الذي يضمّ أهمّ أعمال الرسّامين الأسبان في القرن العشرين، من سورولّا إلى دالي وبيكاسو الذي تتصدّر رائعته التاريخية «Guernica» القاعة الرئيسية للمتحف.
ويكتمل مثلّث المتاحف الكبرى في مدريد بمتحف «Thyssen» الذي يضمّ أفضل مجموعة أوروبية خاصة من الأعمال الفنية، جاءت بها إلى العاصمة الإسبانية قصة غرام نترك لكم لذّة اكتشاف وقائعها.
من الجولة على المتاحف نتجّه إلى قلب المدينة القديم الذي يبعد مئات الأمتار فحسب. هنا تقوم الساحة الكبرى (Plaza Mayor) التي كانت تدور حولها الحياة في مدريد طوال قرون، وتتفرّع منها اليوم الشوارع الضيقة والجميلة التي تنتشر فيها المتاجر والمطاعم التقليدية ومعظم المسارح التي تقدّم عروض الأعمال الكلاسيكية الإسبانية الشهيرة، وحفلات الفلامنكو التي يحييها الراقصون والمطربون الغجر.
وعلى بُعد دقائق من الساحة الكبرى، يقوم «قصر الشرق» المقرّ الرسمي لملك إسبانيا الذي اختار منذ عودة النظام الملكي عام 1976 أن يسكن في قصر آخر على مقربة من مدريد، ليُفتح القصر القديم أمام السيّاح لزيارته، ويقتصر استخدامه على المناسبات والاحتفالات الرسمية الكبرى.
يعود بناء «قصر الشرق» إلى أواسط القرن الثامن عشر، وهو أكبر القصور في أوروبا الغربية، إذ تبلغ مساحته 135 ألف متر مربّع، أي ضعف مساحة قصر باكنغهام أو قصر فرساي. ويضمّ القصر، في جملة ما يضمّ من تحف، مجموعة مشهورة عالمياً من الأدوات الموسيقية ومجموعات نفيسة من التماثيل والرسوم والسجّاد الذي اشتهر به المحترف الملكي، الذي ما زال إلى اليوم ينتج أعمالاً عند الطلب للقصور والمباني الرسمية. ومن بعض شرفات هذا القصر يطلّ الزائر على أبرز المعالم الأثرية من الحقبة الإسلامية في العاصمة الإسبانية.
هذه الجولة على معالم مدريد البارزة لا تكتمل من غير حضور حفلة لمصارعة الثيران في الساحة المبنيّة على الطراز العربي الإسلامي، التي يُعتبر مثول «الماتادور» أمام جمهورها تتويجاً لمسيرته وتكريساً لفنّه. والنصيحة للراغبين في حضور حفلة لمصارعة الثيران هي الاطلاع أولاً على شروط هذا الفن وقواعده الصارمة كشرط للتمتع به وتقديره.
ومدريد أيضاً موطنٌ لأكبر حديقة حيوانات في أوروبا، ومدينة شاسعة للملاهي يرتادها الكبار قبل الصغار يرتاحون في حدائقها الجميلة، ويتمتعون بألعابها الشيّقة. أما الذين يبحثون عن الريف في المدن وينشدون الطبيعة بين غابات الإسمنت والإسفلت، ففي مدريد ضالتهم حيث يوجد متنزه «El Retiro» الذي تزيد مساحته عن مليون متر مربع وفيه أكثر من 19 ألف شجرة معمّرة. ويشتهر هذا المتنزه الذي يعتبر رئة العاصمة بقصر الزجاج الجميل المشرف على بحيرة واسعة تتهادى على صفحتها قوارب الترفيه بين أسراب البطّ والبجع.
والمطبخ الإسباني بتنوّعاته الإقليمية العديدة المشهورة عالميّاً حاضر على قائمة المفاتن التي تنعم بها العاصمة التي رغم بُعدِها 300 كيلومتر عن البحر، يوجد فيها ثاني أكبر سوق للسمك في العالم بعد طوكيو، مما يجعلها محجّة هواة ثمار البحر والأطباق السمكية. أما الطبق الرئيس الذي يرمز إلى المطبخ الإسباني في العالم «La Paella»، فله في مدريد مطاعم فاخرة تقدّم أنواعه العديدة.
ولمن أتيح له الوقت وجاءه توقٌ إلى المزيد من التاريخ العربي في هذه البلاد، قبل أن يحزم أمره ومشاعره ويُمم نحو الأندلس، فأرباض العاصمة الإسبانية لا تبخل على السائح بالمدن والمحطات التي تضاهي مدريد بجمالها ومفاتنها، والتي يمكن زيارتها في يوم واحد على بعد ستين أو سبعين كيلومتراً. من شقوبية (Segovia) العريقة بقناتها الرومانية الفريدة وقصورها من العصور الوسطى، إلى طليطلة (Toledo) التي تألق فيها الفكر العربي ونشر الفلسفة الإغريقية في أوروبا، أو «الإسكوريال» (Escorial)، حيث تقوم «أعجوبة الدنيا الثامنة» في القصر الملكي الذي بُني في القرن السادس عشر، وتنام في مكتبته الشهيرة إحدى أهمّ مجموعات المخطوطات العربية في العالم.