الأرقام وحدها تتحدث عن عنف «السبت الأسود» الأخير الذي عاشته باريس والعديد من المدن الفرنسية في إطار الحركة الاحتجاجية التي أطلقها «السترات الصفراء» في 17 الشهر الماضي، وتنذر بأن تتطور وتمتد في غياب دلائل تؤشر إلى وجود كوّة في الحائط المسدود الذي وصل إليه الجميع، حكومةً ومعارضةً ومحتجين.
فيوم السبت وحده ألقت القوى الأمنية القبض على 630 شخصاً بينهم 412 في باريس وحدها. وأوقع العنف، الذي لم تعرفه باريس منذ عقود، 263 جريحاً نصفهم في العاصمة. ولم يوفر العنف القوى الأمنية التي أصيب منها 81 فرداً، فيما السيارات المحروقة في باريس زاد عددها على المائة.
ونشطت المحاكم، منذ صباح أمس (الإثنين)، في العاصمة والمناطق، لإنزال القصاص بالذين دمّروا ونهبوا وأحرقوا واستهدفوا القوى الأمنية.
وطالبت وزيرة العدل وقبلها الرئيس إيمانويل ماكرون بـ«التشدد» في معاقبة «المشاغبين» أكانوا من اليمين أو اليسار المتطرف أم من الذين لجأوا إلى العنف بفعل انسداد أبواب الحوار مع الدولة. وتوازى عمل المحاكم الذي يشكل «الرد القانوني» على أعمال الشغب مع «الرد الأمني» الذي تسعى وزارة الداخلية ومديرية الشرطة في باريس إلى بلورته بعد بروز «الثغرات الفاضحة» يوم السبت الماضي. وكلف ماكرون وزير الداخلية كريستوف كاستانير، بالتعاون مع الأجهزة الأمنية ببلورة خطط أكثر نجاعة في التعامل مع المحتجين والمشاغبين الذين قدّر كاستانير عددهم بما يتراوح بين 2000 و3000 شخص. ورأى خبراء أمنيون أن الرقم «مبالَغ» فيه، وربما قصد الوزير تبرير عجز خططه السابقة عن احتواء ومواجهة أعمال العنف بجميع أشكالها.
وأمس، ورغم العمل المتواصل الذي تقوم به دوائر بلدية باريس لمحو «آثار العدوان»، فإنها لا تزال بادية على واجهات المحلات والمطاعم والمقاهي التي هُشم الكثير من زجاجها وحُطمت كراسيّها وطاولاتها. وقدرت بلدية باريس الخسائر بين 3 و4 ملايين يورو ليوم السبت وحده، بينما قدر سائقو الشاحنات خسائرهم بنحو 400 مليون يورو بسبب قطع الطرقات وإعاقة السير منذ انطلاق الحركة.
إزاء هذا الوضع الذي يزداد تفجراً يوماً بعد يوم، وبحثاً عن مخرج سياسي، طلب رئيس الجمهورية من إدوار فيليب رئيس الحكومة، أن يلتقي رؤساء الأحزاب الممثَّلة في البرلمان وممثلين عن «السترات الصفراء». وهذا ما فعله الأخير بدءاً من الثامنة صباح أمس. وما تم استبعاده على مستوى الرئاسة والحكومة أمران: الأول، حل المجلس النيابي، وهو ما طالب به جان لوك ميلونشون، رئيس حركة «فرنسا المتمردة» اليسارية المتشددة، ومارين لو بن، رئيسة حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف. والثاني، إعادة فرض حالة الطوارئ التي أشار إليها وزير الداخلية، أول من أمس.
إلا أن القصر الرئاسي ووزيرة العدل بيلوبيه رفضا السير بها، لما يمكن أن تحمله من رسائل «سلبية» لجهة فقدان السلطات السيطرة على الوضع والخوف من التطورات والحاجة إلى إنزال الجيش. وتجدر الإشارة إلى أن حالة الطوارئ رُفعت في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بعد أن عُمل بها طيلة ثلاث سنوات. يضاف إلى ذلك أن الكثير مما تجيزه حالة الطوارئ أُدخل العام الماضي في إطار قانون حول المحافظة على الأمن مثل فرض الإقامة الجبرية أو منع التظاهر في أماكن محددة.
حتى اليوم، يبدو بوضوح أنه لا أحد يملك «الصيغة» التي من شأنها تبريد الأجواء. لكن ثمة قناعة لدى كل الأطراف، باستثناء الحكومة حتى الآن، أن الحد الأدنى الذي يمكن أن تقوم به السلطات لهذا الغرض هو «تجميد» زيادات الرسوم على الوقود والمحروقات المفترض أن تحل في الأول من العام القادم.
وقال رئيس مجلس الشيوخ جيرار لارشيه، الذي ينتمي إلى اليمين المعتدل، إن على الحكومة أن تفتح عينيها وتبدأ بهذا التدبير إذا أرادت تلافي التصعيد الذي ينتظرها السبت القادم. أما الأمر الثاني المتفق عليه فهو حاجة الرئيس ماكرون والحكومة إلى تغيير «منهجه» في الحكم والكفّ عن فلسفة «ممارسة السلطة عمودياً»، أي أن تُتخذ القرارات من أعلى وما على الحكومة والبرلمان والأكثرية الطيعة إلا أن تسير بها من غير اعتراض، وهو ما ظهر في الأشهر الـ18 المنصرمة من عهد ماكرون. وفي الأيام الأخيرة برزت «تشققات» داخل الحزب الحاكم، وأخذت تُسمع أصوات تنتقد «أسلوب» الرئيس في الحكم وسياسة «الإنكار» التي تتبعها الحكومة.
حتى ليل أمس، لم يتوجه الرئيس الفرنسي بالحديث إلى مواطنيه. وأثار صمته حفيظة الكثيرين الذين يرون أن عليه أن يبين للرأي العام مباشرةً وليس عبر الواسطة أو من خلال رئيس الحكومة، ما ينوي القيام به لإخراج باريس من أسوأ أزمة يمر بها عهد ماكرون، ومن أعمال عنف تذكِّر الفرنسيين بما عرفته العاصمة في ربيع عام 1968 أو ما عُرف بـ«ثورة الطلاب».
لا أحد من داخل الطبقة السياسية يجهل صعوبة التفاوض اليوم مع الحركة الاحتجاجية التي لا تمتلك بنية تنظيمية كالنقابات أو الأحزاب، الأمر الذي يسهّل اندساس المشاغبين في صفوفها. ومنذ أن كلفه رئيس الجمهورية، يسعى إدوار فيليب لإيجاد محاورين من «السترات الصفراء» ووجد ضالته في مجموعة منهم حرّرت بياناً نشرته صحيفة «لو جورنال دو ديمانش» يوم الأحد الماضي، وكان من المقرر أن يلتقي رئيس الحكومة عشرة منهم، اليوم (الثلاثاء). وكشف أعضاء في المجموعة المذكورة أنهم يتعرضون لضغوط، لا بل لتهديدات لمنعهم من الاستجابة لدعوة رئيس الحكومة، الأمر الذي يشي بوجود انقسامات بين أجنحة الحركة الاحتجاجية. وثمة اتهامات توجَّه إلى اليسار المتطرف الذي يظن أن يدفع «السترات الصفراء» إلى التشدد والراديكالية بينما أجنحة أخرى تريد الخروج من المأزق عبر الحوار مع الحكومة. أما البعض الآخر فإنه يفرض شرط تراجع الحكومة عن زيادات الرسوم أولاً قبل البدء بالمفاوضات. ومساء أمس أُعلن أن الوفد لن يلتقي رئيس الحكومة لأسباب «أمنية». وحتى تكتمل الصورة تتعين الإشارة إلى أن آلافاً من التلاميذ والطلاب مضربون ونجحوا في إغلاق المئات من المدارس احتجاجاً على قانون جديد ينظم الدراسات الجامعية ويزيد الرسوم على الطلاب من غير بلدان الاتحاد الأوروبي. كذلك فإن أصحاب وسائقي سيارات الإسعاف أقفلوا صباح أمس، ساحة الكونكورد الشهيرة الواقعة أسفل الشانزليزيه، احتجاجاً أيضاً على مشروع إعادة تنظيم مهنتهم. وبدأ بعض المناطق الفرنسية تشكو من فقدان المحروقات بسبب محاصرة مستودعات المشتقات النفطية ومنع الوصول إليها.
في ظل هذه التحركات، ترنو الأنظار إلى ما يمكن أن يعلن عنه رئيس الحكومة في البرلمان هذا الأسبوع. ومساء أمس، عُقد اجتماع استثنائي في الإليزيه برئاسة ماكرون وحضور فيليب ووزراء الداخلية والاقتصاد والمالية، وسبق الاجتماع مثول رئيس الحكومة أمام البرلمان بمجلسيه «النواب والشيوخ». وكان القصر الحكومي قد أصدر بياناً أشار إلى «إجراءات» سيعلن عنها فيليب والتي سيكون لها تأثير كبير على مستقبل الحركة الاحتجاجية.
الرئيس ماكرون يلزم الصمت والحكومة لم تعثر بعد على «مخرج» للأزمة
اجتماع استثنائي في الإليزيه مساءً وانقسامات في صفوف «السترات الصفراء»
الرئيس ماكرون يلزم الصمت والحكومة لم تعثر بعد على «مخرج» للأزمة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة