الصحراء المغربية في عهود ثلاثة ملوك

السياسي المغربي محمد اليازغي يقدم شهادته عن القضية منذ بداية الاستقلال

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

الصحراء المغربية في عهود ثلاثة ملوك

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

اعتباراً لأهمية القضية وقدسيتها لدى المواطنين المغاربة، لارتباطها بالوحدة الترابية للمملكة، نشرت في السابق عدة كتب عن الصحراء، لكن السفير خليل الحداوي يرى في تقديمه لكتاب «الصحراء: هويتنا؟» أن هذه هي أول مرة يتصدى فيها زعيم سياسي مغربي، من حجم محمد اليازغي، لإصدار جديد حول الموضوع، في شكل حوار أجراه معه الصحافي يوسف ججيلي، يكشف فيه عن أحداث كان اليازغي طرفاً فيها، وعن رجال، وهو منهم، كانوا في الصفوف الأولى يدافعون عن مغربية الصحراء منذ بداية الاستقلال.
ومن خلال الأسئلة التي طرحها ججيلي، والأجوبة التي قدمها اليازغي، يغوص القارئ بين صفحات تستحضر مختلف المراحل التي مرت بها القضية حتى الآن، خصوصاً أن المستجوب (بفتح الواو) زعيم سياسي سابق لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ووزير سابق أيضاً حمل حقيبة وزارة إعداد التراب الوطني والتعمير والبيئة، في أول حكومة للتناوب في تاريخ المغرب السياسي المعاصر، وكان دائماً على اتصال بهذا الملف الذي لا يزال مطروحاً في الأمم المتحدة.
ومن بين الملاحظات التي سجلها اليازغي أن إدماج جيش التحرير بالجنوب في القوات المسلحة الملكية كان «خطأً كبيراً». ففي نظره، لو احتفظ المغرب بهذا الجيش، وبقي مرابطاً في الحدود، لكان بإمكانه أن يساهم في تحرير الصحراء كلياً.
ويتذكر اليازغي أن الزعيم السياسي علال الفاسي، مؤسس حزب الاستقلال، كان أول من طرح المشكل على مستوى النقاش السياسي، نظراً لمعرفته التاريخية بالصحراء.
في تلك الفترة، وبالضبط في شهر مارس (آذار) من سنة 1957، كلف الراحل المهدي بنبركة، اليازغي بالاشتغال مع علال الفاسي في ملف الصحراء، رفقة أعضاء آخرين، لتوفره على وثائق ومراجع مهمة جداً.
هناك سيكتشف اليازغي، وعمره آنذاك 22 سنة، وهو يومئذ موظف في وزارة المالية، وعضو في فرع حزب الاستقلال بالرباط، أن القادة القادمين من جامعة القرويين بفاس لديهم، مثل الفاسي، «معرفة أدق وأقوى بتاريخ المغرب من الأطر الذين درسوا في الغرب، وكانوا من قادتنا آنذاك، والذين كانوا يرون أن مطالبة المغرب بالصحراء، ومعها موريتانيا، هو نوع من الهيمنة والتوسعية للمغرب في الصحراء، لكنهم اتفقوا بعد النقاش على أن الصحراء مغربية، وبلاد شنقيط من الأراضي المغربية».
كانت الخلاصات التي تم الخروج بها من بيت الزعيم الفاسي، بعد دراسة تلك الوثائق لمدة 15 يوماً، هي أن تلك الأراضي مغربية، وتم تسجيل ذلك في تقرير سلم لبنبركة والفاسي.
وتبعاً لذلك، كانت قضية الصحراء دائماً مصدر حساسية كبيرة لدى المغاربة الذين لا ينسون أن الملك محمد الخامس قام بدور أساسي وفعال، حسب ما ذكره اليازغي، خصوصاً بخطابه الشهير بمحاميد الغزلان (جنوب المملكة) سنة 1958، الذي أكد فيه على انتماء الصحراء للمغرب.
وتحدث اليازغي، وهو يستعرض فصول تطور قضية الصحراء، عن نشوء جبهة البوليساريو الانفصالية، منذ إرهاصات التأسيس الأولى، مشيراً إلى وقوع «خطأ كبير»، تجلى في قمع الجنرال محمد أوفقير لمظاهرة سلمية للشباب الصحراوي في مدينة طانطان (جنوب المغرب) سنة 1972، مما ترتب عليه فرار جزء من الشباب من المغرب إلى دول أخرى، كما حصل فيما بعد بالنسبة للشباب الصحراوي في الجزائر.
وذكر المتحدث ذاته أن الراحل الفقيه محمد البصري (سياسي مغربي معارض سابق) قدم هؤلاء الشباب، أول الأمر، إلى الزعيم الليبي معمر القذافي الذي أراد استعمالهم في صراعه مع الملك الحسن الثاني، سواء بالمال أو السلاح.
ويرى اليازغي أن «بروز الدور الليبي في قضية الصحراء كان نتيجة لـ(خطأ سياسي كبير) قام به الرحل الفقيه محمد البصري»، مضيفاً أن هذا كان هو «الخطأ الأول» الذي ارتكبه البصري، لكن «الخطأ الأكبر» الذي سيقع فيه هو حين قدمهم إلى الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين «لأن للجزائر حدوداً طويلة مع المغرب، ولها خطة سياسية للهيمنة على مجموع شمال أفريقيا. وهكذا، سيتمكن الأمن العسكري الجزائري من استعمال ورقة الانفصال، ومن ثم استعمال قيادة البوليساريو لمعاكسة المغرب».
ولدى تطرقه إلى موقف الملك الحسن الثاني من قيادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1981، في خضم التفاعل مع موضوع الاستفتاء بالصحراء، قال إن رد العاهل المغربي «كان عنيفاً»، وكانت «المحاكمة الشهيرة» بعد اعتقال كل من عبد الرحيم بوعبيد، ومحمد الحبابي، ومحمد منصور، ومحمد الحبيب الفرقاني، واليازغي، والحكم عليهم بالسجن، قبل إطلاق سراحهم في فبراير (شباط) 1982، بعفو لم يتم طلبه.
وانطلاقاً من معايشة اليازغي للحسن الثاني، كولي للعهد أولاً، وكملك للبلاد ثانياً، فإنه يعيب عليه أنه في المرحلة الأولى عمل على حل جيش تحرير الجنوب، وإدماج أعضائه في القوات المسلحة الملكية، ويؤكد أن «هذه المبادرة كانت خطيرة، وقراراً لم ينظر فيه ولي العهد إلى المدى البعيد، لأن تحرير الصحراء أجل إلى أجل غير مسمى».
وما يأخذه اليازغي على الحسن الثاني كذلك أنه بخصوص قضية الساقية الحمراء ووادي الذهب، وبدل أن يبقي مطلب استرجاعهما قائماً، قام بإدراجهما داخل هيئة الأمم المتحدة، وبالضبط أمام اللجنة الرابعة التي تصدر توصيات لتصفية الاستعمار على أساس تقرير المصير.
وفي اعتقاد اليازغي، فإن «هذين القرارين خاطئان بامتياز»، إضافة إلى قمع الشباب الصحراوي من طرف الجنرال أوفقير، بمدينة طانطان، مما دفعهم إلى تنظيم أنفسهم على أرض دولة أجنبية.
وحرص اليازغي على التذكير بأن تأسيس «البوليساريو» سنة 1973 تم على قاعدة وحدوية، إلا أن وجوده على أرض الجزائر أعطى لحكومتها إمكانية التدخل والتأثير، ووسائل الإملاء على قيادة الجبهة للانخراط في نهج انفصالي.
واستفاد أعضاء الجبهة، منذ المرحلة الأولى في العمل الدبلوماسي، من الدعم الواسع للحكومة الجزائرية، فالشبكة الواسعة من السفارات والقنصليات الجزائرية وضعت رهن إشارتهم، وكذلك الشبكة السياسية والإعلامية لجبهة التحرير الجزائرية.
والنتيجة أن المغرب من الناحية الدبلوماسية كان في وضعية صعبة، وأحياناً في عزلة قاتلة. وهنا، يؤكد اليازغي أنه من أخطاء الحسن الثاني سياسته مع الدول الأفريقية، بل غياب أي استراتيجية ناجحة في القارة السمراء، إذ لم ينهج سياسة حكيمة، إلى أن جاءت حكومة التناوب ليفتح الوزير الأول عبد الرحمن اليوسفي قنوات جديدة مع الأقطار الأفريقية.
لكن التحول الذي حدث هو مع جلوس الملك محمد السادس على العرش، إذ «أصبحت الدبلوماسية الجديدة بأفريقيا سياسة تتبناها الدولة»، على حد وصف اليازغي، حيث عرفت العلاقات الثنائية مع الدول الأفريقية تطوراً إيجابياً في الميادين الاقتصادية والثقافية «حتى مع تلك الدول التي ساندت أطروحة الجزائر في البداية. ومن هنا، تراجع عدد من الحكومات الأفريقية عن الاعتراف بالجمهورية الصحراوية الوهمية».
وفي الفصل الخاص من الكتاب، حول تدبير «ملف الصحراء في عهد الملك محمد السادس»، يرى اليازغي أن العاهل المغربي جاء بفلسفة جديدة في الحكم، وبمعنى جديد للسلطة، معبراً عن اعتقاده أن التوجه الحقيقي كان - وما يزال - هو استمرارية سياسة توسيع الحريات الفردية والعامة.
وأول «قرار شجاع» اتخذه الملك محمد السادس، من وجهة نظر اليازغي، هو إعفاء إدريس البصري، وزير الداخلية، يوم التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) 1999، لا سيما أن هذا الأخير يبقى المسؤول عن تداعيات ملف الصحراء.
وبقدوم وزير جديد للداخلية، هو أحمد الميداوي، سجل اليازغي أن التغيير بدأ يظهر بوضوح؛ سواء في قضية الصحراء أو في العلاقة مع المواطنين.
ومن بين القناعات التي خلص إليها اليازغي أن المغرب لم تكن له سياسة دبلوماسية ناجحة في السابق. أما الآن، فله استراتيجية سياسية معينة، لا تنصب فقط على ملف الصحراء، بل على مستقبل أفريقيا.



«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية
TT

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري تتعلق بفترة الحملة الفرنسية على مصر وما قبلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

ويعد الكتاب الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة بمثابة قراءة نقدية لسيرة واحد من أشهر المؤرخين المصريين في العصر الحديث عموماً والحملة الفرنسية التي عاصرها بشكل خاص وهو عبد الرحمن الجبرتي (1756 - 1825) صاحب الكتابين الشهيرين «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» و«مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس».

يشير عيسى في البداية إلى أن الصعوبات في اكتشاف منهج الجبرتي كمؤرخ تتحدد من خلال عدد من الحقائق، منها أن بعض الباحثين يصنفون الرجل في خانة «الإخباريين» ويرون أن كتابيه مجرد «يوميات» كُتبت في أوانها أو هي «إضمامة» تضم جهد مخبر صحافي غير نشيط.

والجبرتي عند هؤلاء صحافي تلك الأيام التي أرخ لها، وبينما يتحفظ بعضهم فيكتفون بإطلاق الحكم مع بعض قيود على كتاب «مظهر التقديس» فيقولون إن الجبرتي كان فيه كاتب مذكرات أكثر منه مؤرخاً، فإن هذا الحكم يشمل عند آخرين «عجائب الآثار» وبلا تحفظات فهو عندهم كتاب ليس من التاريخ في شيء إنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء. ولأن «الإخباريين» في رأي البعض ليسوا أصحاب منهج أو موقف، فإن البحث في ذلك عند الجبرتي أمر غير وارد.

ويتفرع عن هذه الصعوبة أن الجبرتي كان معاصراً لمرحلة تزيد على خمسة وأربعين عاماً، كما تشكل أكثر من ثلث الزمن الذي أرخ له، فبعض من ترجم لهم كانت تربطه بهم وشائج وصلات بين صديق له وشيخ تلقى عنه العلم، فضلاً عن تلامذة أبيه وأنداده، حتى أن بعض الحوادث التي أرخها كان طرفاً فيها. وهو ما يجعل جهده كمؤرخ معيباً بالمعاصرة، وهي حجاب يحول دون الرؤية الموضوعية وينقله إلى حيث يصبح مجرد «شهادة معاصر» وليس تأريخاً، وبالتالي فلا محل لاكتشاف منهج أو رؤية، إضافة إلى أن الموقف يتعقد لأن الجبرتي نفسه قليل التعليقات ومعظم أخباره صماء لا يتجاوزها إلى مقارنتها أو تحقيقها أو تفسيرها، وهو يصوغ أحكامه غالباً في كلمات مبتسرة تنطوي تحت مظلة الأحكام الأخلاقية، من مثل: هذا التصرف «ظلم» أو «سخافة» أو «خزعبلات»، وهذا الأمر «شنيع جداً». وهذا الشخص «لعين» أو «كافر»، وبعضها عبارات لا تعكس رأياً في الحدث ولكن استكمالاً للخبر.

لكن صلاح عيسى الذي كتب هذا الكتاب في السبعينيات، وينشر لأول مرة بعد وفاته يعود بحسه كمؤرخ ويؤكد أن تصنيف الجبرتي في خانة «الإخباريين» بشكل مطلق هو خطأ بلا جدال، ولكننا مع افتراض صحته لا نرى أن الإخباريين ليسوا أصحاب منهج أو موقف. والواقع أن اختيار أخبار معينة وإهمال غيرها والحرص على الترجمة لأفراد معينين وترك الآخرين، لهو سلوك يعكس بحد ذاته وجهة نظر ضمنية. وعلى سبيل المثال، فإن الجبرتي في «مظهر التقديس» أغفل من حوادث شهر ربيع الأول 1216. وفق التقويم الهجري، وشهر ربيع الثاني من العام نفسه أكثر من نصف حوادثهما. وعاد في كتابه الثاني «عجائب الآثار» فأورد حوادث الشهرين متكاملة بحسب جهده في التجميع.

ويفسر حجب هذه الأخبار ثم إيرادها موقفاً له، فقد كانت كلها تسجيلاً لقبائح وجرائم ارتكبها العثمانيون عندما دخلوا القاهرة مرة أخرى. وبصرف النظر عن دلالة هذا فيما يتعلق بموقفه من العثمانيين، فهو أيضاً يعكس دلالة على أن الخبر ليس دائماً عرضاً لواقع أصم، ولكنه اختيار من هذا الواقع وما يتحكم فيه هو وجهة النظر أو المنهج، بل إن ترتيب بعض مباحث الكتاب نفسها يمكن أن يكون ذا دلالة.

ويرى صلاح عيسى أنه برغم أن معاصرة المؤلف للحقبة التي يرويها عنصر له تأثيره، فإن هذا التأثير يقل كثيراً هنا، لأننا نعلم أن الجبرتي لم يسجل أخباره هكذا في حينها تاركاً إياها مادة خام دون تنسيق أو تعديل. لافتاً إلى أن الدافع للجبرتي على كتابة تاريخه معروف فقد كلفه أستاذه الزبيدي في عام 1779 حين كان الجبرتي في الخامسة والعشرين من عمره بمساعدته في الترجمة لأعلام المائة المنصرمة من مصريين وحجازيين، والمراحل التي مر بها تاريخ القرن الثالث عشر الهجري، ثم دوّن بعد ذلك يوميات للمراحل التي عاصرها. المهم في هذا كله ّأن النص الذي تركه لنا الجبرتي ليس هو نص تدويناته اليومية التي كان يسجلها، ولكنه عمل تفرغ له فيما بعد لإعادة تنسيق ما كتب وتبويبه وكان وقتها قد جاوز الخمسين من عمره.

كما أن بعض الظواهر التاريخية كانت قد استكملت ملامحها، وهو بالقطع ما أتاح للجبرتي فرصة للتخلص من تأثير المعاصرة في حدودها الضيقة ومكنه من استخلاص نتائج ربما لم تكن واضحة أمامه وهو يسجل الأحداث اليومية وقت حدوثها ونقل عمله بدرجة محدودة من إطار الأخبار الأصم إلى أفق أكثر رحابة.

ولأن التاريخ عند الجبرتي هو تحقيق لإرادة عليا لا يملك الإنسان الفكاك منها وكل ما حدث له من مظالم هو «انتقام سماوي» لخروجه عن الناموس، فقد كان طبيعياً أن ينظر إلى التكوين الاجتماعي باعتباره خاضعاً لتركيب طبقي حديدي يخضع فيه الصغير للكبير والدنيء للشريف والأدنى للأعلى. في هذا الصدد يبدو الجبرتي أكثر تزمتاً من أي شيء آخر، فكل شيء لا يداني عنده الإخلال بالتصميم الاجتماعي المستقر، فعلى المماليك وهم القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية المتنامية والقادمة من خلفية العبودية والرق أن يتبعوا التقاليد تجاه أمرائهم، فإذا ما خرجوا عنها أثاروا غضبهم. ومن ثم يرى الجبرتي أن من الأحداث التي تستحق الرواية أن المماليك قد تزوجوا وصار لهم بيوت وخدم ويركبون ويغدون ويروحون ويشربون وفي أيديهم شبكات الدخان من غير إنكار وهم في الرق ولا يخطر ببالهم خروجهم عن الأدب لعدم إنكار أسيادهم وترخيصهم لهم في الأمور.

لم يكن غريباً أن يكون من أعمال «هيئة الديوان»، التي كان الجبرتي من أعضائها على عهد قيادة الجنرال مينو للحملة الفرنسية، أن يحذر القائد الفرنسي الذي خلف نابليون بونابرت من الثورة الشعبية، وأن يصوغ تحذيره في أن الثورة يقوم بها الدهماء فلا يخسرون شيئاً، وإنما يخسر الذين يملكون المال أو النفوذ، فقد ذكر أن أعضاء الديوان المذكور دعوا مشايخ الحارات والأخطاط وحذروهم مما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين، وأن مشايخ الحارات هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم، فالعاقل يشتغل بما يعنيه.

ومع ذلك، لا يبدو الجبرتي في تأريخه لثورة 1805 التي قام بها المصريون ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد، معارضاً لها، بل إننا نستشعر روحاً من التعاطف في روايته لأحداثها، فقد خلت عباراته من أوصاف «الأشرار» و«أوباش الناس» في وصف الجماهير. وفي كل المناقشات التي دارت بين قادة الثورة والوالي العثماني والتي كان الثوار فيها يستندون إلى أن من حقهم بمقتضى الشريعة أن يعزلوا ولي الأمر إذا سار فيهم بالظلم، بدا الجبرتي موافقاً على هذا الرأي ووصف رفض الوالي له بأنه «خلاف وعناد».