حواضن «داعش»... منابع الإرهاب

تحمل أفكار التنظيم لعقول الأطفال

نساء من «داعش»... من إحدى صفحات التنظيم الإرهابي
نساء من «داعش»... من إحدى صفحات التنظيم الإرهابي
TT

حواضن «داعش»... منابع الإرهاب

نساء من «داعش»... من إحدى صفحات التنظيم الإرهابي
نساء من «داعش»... من إحدى صفحات التنظيم الإرهابي

مخاوف أنظمة الدول تتزايد يوم بعد يوم من كارثة اسمها «حواضن داعش»، لأنهم يشكلون «قنابل موقوتة» قد تنفجر في أي وقت مستقبلاً. فالمتابع للتنظيم الإرهابي يلحظ كيف كانت النساء مخولات بالمهام الفرعية بعيداً عن القتال؛ لكن الهزائم دفعت بالداعشيات إلى حمل السلاح والقتال وتنشئة أجيال جديدة على العنف. وقال خبراء وأكاديميون لـ«الشرق الأوسط» إن «النساء كُن أكثر تجاوباً مع الخطاب التحريضي الذي بثه التنظيم الإرهابي، الذي لا يألو جهداً في استخدام كافة الوسائل من أجل ضمان مورد لتجنيد مُقاتلين ومُقاتلات صغار عبر الأمهات الداعشيات أو الانغماسيات». محذرين من خطورة الإيقاع بالنساء واستغلالهن كحواضن لتخريج أطفال «إرهابيين»، لأن توجيه الأم للطفل في سن مبكرة بالغ التأثير جداً، حيث يكبر ويندفع بسبب ما تربى عليه إلى قتل الأبرياء وتخريب الأوطان.
الكلام السابق اتسق مع تقارير دولية كشفت عن أن التنظيم لجأ إلى النساء لسد النقص في عدد مقاتليه، وأنهن أصبحن يتلقين التدريبات العسكرية للمشاركة في القتال، وأصبحن خياره للمستقبل، عقب فرار عناصره المقاتلة من سوريا والعراق.
ولعبت النساء أدواراً محورية في «داعش» من بينها دعم الأزواج، وتربية الأبناء على الأفكار المتطرفة فضلاً عن تجنيد الأخريات، كما كُن بمثابة حلقة الوصل بين التنظيمات المتطرفة، فضلاً عن تصدرهن مناصب عليا بالتنظيمات، والدفع بهن في العمليات الإرهابية، وباتت الآن حواضن لحمل أفكار الدواعش إلى عقول الأطفال.
يؤكد الأكاديمي الدكتور محمد أحمد سرحان، أستاذ التفسير بجامعة الأزهر بمصر، أن «الدواعش» لا صلة لهم بالإنسانية، فالدين الإسلامي كرم المرأة ورفعها إلى منزلة رفيعة... فاهتمام الإسلام وعنايته بالمرأة تأتي من حيث إنها ليست فقط نصف المجتمع؛ بل إنها صانعة النصف الآخر فهي الأم والأخت والزوجة، وإذا كانت المرأة أداة استمالة بطبيعتها، فإن هؤلاء – من وصفهم بالمارقين - يستغلونها بوضاعة شديدة من هذه الناحية. مضيفاً: سمعنا عن سوق النخاسة وجهاد النكاح، وما إلى ذلك من أمور يندى لها جبين البشرية... والخطورة في الإيقاع بالنساء واستغلالهن كحواضن لتخريج أطفال «إرهابيين»، لأن تربية المرأة وتوجيهها للطفل في سن مبكرة بالغ التأثير جداً، حيث يكبر هؤلاء الأطفال ويندفعون بسبب ما اعتقدوه وتربوا عليه إلى قتل الأبرياء وانتهاك الحرمات وتخريب الأوطان.
ويرى مراقبون أن «توظيف النساء في تنفيذ العمليات الإرهابية حقق الكثير من المزايا لـ(داعش) إلى جانب مضاعفة المجندات المحتملات، حيث ساهم في تقليل المتابعة الأمنية لهن، ما مكنهن من المرور للأماكن المزدحمة والمستهدفة بسهولة دون إثارة للريبة».
من جهته، أكد الدكتور خالد الزعفراني، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، أن «العمليات الانتحارية التي تقوم بها النساء تكون في إطار ما يسمى حروب «الإنهاك»، وتعتبر الوسيلة الأكثر نجاحاً من أجل إلحاق الأذى والضرر على أوسع نطاق ممكن»، لافتاً إلى أن عنصر جذب آخر للنساء في تلك التنظيمات، قد يظهر جلياً في مدى الدعم والإعجاب المتحمس الذي يظهر بوضوح عبر شبكات التواصل الاجتماعي من نساء مسلمات أوروبيات يعبرن عن دعمهن لنساء «داعش»... فالنساء أكثر تجاوباً للخطاب التحريضي الذي يبثه التنظيم عبر المنصات الإلكترونية.
و«داعش» أسس في السابق كتيبتين للنساء هما «الخنساء» و«أم الريحان»، ومهمتهما كانت شرح تعاليم الإسلام، وفي العراق امتد التوظيف الداعشي للنساء في العمل الشرطي ضمن جهاز «الحسبة»... وكانت كتيبة «الحسبة النسائية» تقدر بنحو 400 سيدة، كن يتمركزن في عواصم التنظيم واقتصر دورهن على ضبط مخالفات النساء، بالإضافة إلى توفير الزوجات للمقاتلين، وتلقي الدورات التدريبية على حمل السلاح وتنفيذ العمليات الانتحارية، ومن أبرز الأسماء في ذلك الجهاز أم سليمان العراقية.
«فتاوى متناقضة»
إصدار مرئي باسم «صولات الموحدين 2» بثه ما يسمى بالمكتب الإعلامي للبركة التابع لـ«داعش» كشف عن سعي التنظيم لتصدير صورة مشاركة عناصر نسائية مكشوفة الوجه في القتال ضد عناصر الجيش السوري؛ وذلك في محاولة من التنظيم لكسب وتجنيد عناصر جديدة من المتعاطفات مع التنظيم، وتعويض خسائره بعد تزايد أعداد القتلى من الرجال، وكثرة أعداد الفارين والمنشقين بين صفوفه.
تعليقاً، قالت دراسة لمرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية، إن إشراك عناصر نسائية في عمليات قتالية يكشف حقيقة إفلاس التنظيم العقائدي، ويفضح حجم تناقض ممارساته مع عدد الفتاوى التي سعى إلى فرضها خلال السنوات الماضية، منها، أن اصطحاب مقاتلات لتنفيذ عمليات تتناقض كلياً مع نص فتوى لإذاعة «البيان» التابعة للتنظيم تعلقت «بمشاركة المرأة في الغزوات»؛ حيث أكدت أن الأصل في المرأة أنها ليست من أهل الجهاد فلم يخاطبها الشرع بالقتال، كما نهت عن اصطحاب النساء في ساحات القتال خشية الوقوع في الأسر أو السبي.
وكشفت دارسة الإفتاء عن أن كشف المرأة لوجهها في العمليات حسبما أبرز الإصدار يتعارض مع فتوى التنظيم التي جاءت في مطوية تحت عنوان «أدلة وجوب ستر المرأة» حيث أكدت أن الأصل للمرأة المسلمة هو أن تقر في منزلها لا ترى الرجال ولا يرونها، ولا تخرج من المنزل إلا للضرورة، وإذا خرجت مُنعت من التبرج أي إظهار أي شيء من البدن كالوجه أو اليد أو القدم. فضلاً عن أن ارتداء المرأة لزي المقاتلين يتنافى بشكل جلي مع شروط حجاب المرأة الشرعي الذي وضعه التنظيم في مطوية تحت عنوان «عفافك في حجابك».
«مناصب قيادية»: شاركت المرأة في عمليات تعليمية ولوجيستية وطبية للمصابين من عناصر التنظيم، إلى جانب الأدوار الداعمة كأمهات وزوجات، غير أن بعضهن شاركن في مناصب تنظيمية وقيادية داخل «داعش»، وشاركن في عمليات التخطيط وتنفيذ الهجمات الإرهابية.
في غضون ذلك، تحدثت دراسة أخرى في يونيو (حزيران) عام 2016 عن وجود ما يقرب من 35 ألف امرأة حامل كانت في طريقهن لإنجاب صغار في سوريا والعراق، وأن «داعش» هدف إلى تكوين جيل من الأطفال المقاتلين تم تلقينهم عقيدة الكراهية منذ الصغر من خلال تدريبهم على العنف.
ويقول المراقبون إن «داعش» استخدم الأطفال في دعايته القتالية 300 مرة خلال الأشهر الماضية، ظهر الأطفال حاملين الأسلحة الثقيلة، ونفذ بعضهم عمليات انتحارية. المراقبون أكدوا أن النساء هن البذرة التي تُنجب جيلا جديدا من الأطفال المحاربين، ليكونوا كتائب التنظيم في المستقبل، للقيام بعمليات إرهابية وتفجير أنفسهم إذا طُلب منهم ذلك، لذا فالمرأة لها دور كبير جداً داخل التنظيم، وهذا الدور يزداد مع خسائر التنظيم في المستقبل.
يهدف «داعش» من سعيه لتجنيد الصغيرات تدريبهن على كيفية استخدام السلاح والقيام بعمليات انتحارية مستقبلية خاصة في الغرب، بعد أن يتم تعريفهن بفنون القتال، وذلك ضمن مسعى التنظيم لخلق جيل جديد من الانتحاريات يتخذن من فكره ومنهجه الضال عقيدة ومنهاجا. وقدر المراقبون نسبة المراهقات المنضمات لتنظيم داعش نحو 55 في المائة، وأن حلمهن كان في البداية مجرد الزواج بأحد عناصر التنظيم؛ لكن تحول إلى سعيهن لتنفيذ هجمات انتحارية والمشاركة في القتال. وقال الخبراء إن «داعش» يستخدم الغربيات العائدات من سوريا والعراق في التخطيط للعمليات الإرهابية حول العالم، واستخدامهن كمنسقات لها من خلال الإنترنت، حيث يقمن بدور المنسق بين قيادة التنظيم والأفراد المقاتلين أو الخلايا الصغيرة القتالية... وتقوم المخططات بتنسيق التواصل في العالم الافتراضي بين القيادات التي توجه بأماكن شن الهجمات وكيفية القيام بها، والأفراد المنضمين للتنظيم. وتتواصل الكتائب الداعشية مع النساء عبر قنوات متخصصة على «تلغرام»، فالتنظيم أعد جيلاً من «المنظرات الجديدات»، لم يكتفين بدراسة المواد الشرعية وحضور الدورات التي يقدمها التنظيم، بل يشاركن بأنفسهن في استقطاب غيرهن من الرجال والنساء.
الأكاديمية الدكتورة إلهام محمد شاهين، المتخصصة في العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، قالت إن المرأة في «داعش» كانت مهمتها الإنجاب والخدمة المنزلية وهؤلاء كُن غالباً من السبايا والأسيرات، وأخريات كانت مهمتهن الخدمة المدنية في التعليم والصحة، فضلاً عن المجاهدات اللاتي حملن السلاح.
وعن قبول النساء الحمل والإنجاب من «الدواعش»، أكد اللواء كمال المغربي، الخبير الأمني، أن تنظيم داعش لا يألو جهداً في استخدام كافة الوسائل لضمان مورد لتجنيد مُقاتلين ومُقاتلات جُدد لصفوفه، ومن أبرز العوامل التي يستغلها التنظيم من أجل جذب أعداد جديدة لصفوفه هي ضعف الوازع الديني، الذي يتوفر في المسلمات الجُدد، اللاتي لم تكتمل لديهن حصيلة وافية من المعرفة الواعية للإسلام، وهن يقبلن بالإنجاب من الدواعش، وحمل أفكار التنظيم للصغار بعد الولادة.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.