استراتيجية أميركية جديدة لمحاربة الإرهاب

بين الواقع والتحديات

يريد المشرع الأميركي تحاشي الدخول في حرب جديدة مثل حربي أفغانستان والعراق واللتين تعاني منهما واشنطن حتى الساعة
يريد المشرع الأميركي تحاشي الدخول في حرب جديدة مثل حربي أفغانستان والعراق واللتين تعاني منهما واشنطن حتى الساعة
TT

استراتيجية أميركية جديدة لمحاربة الإرهاب

يريد المشرع الأميركي تحاشي الدخول في حرب جديدة مثل حربي أفغانستان والعراق واللتين تعاني منهما واشنطن حتى الساعة
يريد المشرع الأميركي تحاشي الدخول في حرب جديدة مثل حربي أفغانستان والعراق واللتين تعاني منهما واشنطن حتى الساعة

في الذكرى السابعة عشرة لاعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على الولايات المتحدة الأميركية، اعتمد الرئيس دونالد ترمب استراتيجية جديدة لمقاومة الإرهاب، وقد تم نشرها في الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وأطلق عليها البعض مثل كليفورد ماي مدير مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية في أميركا «استراتيجية واقعية لعصر من التحديات».
باختصار يمكننا القطع بأن واشنطن منذ أحداث سبتمبر، عاشت حالة من الغضب، وبوصف كثير من القيادات الأميركية فإن واشنطن أعلنت الحرب على الغضب وليس الحرب على الإرهاب، كما أنها استخدمت مطارق ثقيلة جداً من الفولاذ لهش الذباب، فيما الأكثر واقعية في المشهد هو أن أميركا لا تزال تبحث عن العرض، وربما تتناسى بشكل رئيسي المرض، والدوافع والأسباب التي قادت إلى المواجهة على صورتها الحالية.

إرهاب اليوم أكثر انتشاراً
في يوليو (تموز) الماضي استضاف معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى الجنرال الأميركي مايكل ك. ناغاتا، مدير التخطيط التشغيلي الاستراتيجي في المركز الوطني لمكافحة الإرهاب، وقد أشار إلى ما قدمته الولايات المتحدة بالتعاون مع عدد كبير من حلفائها وشركائها في جميع أنحاء العالم، من جهود استثنائية، وكيف أنها استثمرت ثروات هائلة في مجال مكافحة الإرهاب بأشكاله المتنوعة، ولكن السؤال الجذري... لماذا أصبح الإرهاب اليوم أكثر انتشاراً بل وتعقيداً مما كان عليه الأمر حين بدأنا؟ يتساءل الجنرال الأميركي ثم لا يتوقف عند هذا الحد بل يتجاوزه إلى علامة استفهام أخرى حيوية بدورها: لماذا أثبت الإرهاب أنه قادر على الصمود والتكيف رغم نجاحاتنا ورغم الضغط والقوة المتواصلين اللذين نستخدمهما نحن والعالم للوقوف في وجهه؟
يضعنا ناغاتا أمام حقائق مثيرة للقلق، جلها بات موجوداً في قاعدة بيانات الإرهاب العالمية، التي جمعها برنامج «ستارت» التابع لـ«جامعة ماريلاند» في الولايات المتحدة، وتبين أن الاتجاهات الأساسية للإرهاب رغم الجهود الأميركية الكثيفة، أصبحت مثيرة جداً للقلق، فمنذ عام 2010 ازداد عدد الوفيات المرتبطة بالإرهاب في جميع أنحاء العالم بنسبة تزيد عن 300 في المائة، كما ازداد عدد الهجمات الإرهابية مع ما يقترن بها من ضحايا بنحو 200 في المائة، وبمعزل عن ذلك، فإن السلطات الفيدرالية في الداخل الأميركي والمكلفة إنفاذ القانون، تجري نحو ألف عملية تحقيق متصلة بالإرهاب في الداخل وعبر نحو خمسين ولاية.
ولعل الجزئية الأكثر مدعاة للنظر في المشهد الإرهابي حول العالم اليوم، والتي يلفت إليها الجنرال هي أنه رغم كل النجاحات، لا يزال التطرف المقترن بالعنف، في جميع أشكاله تقريباً، يتمتع بالمرونة أي أنه قادر على الصمود، وعنده أيضاً أن الهجوم على الإرهابيين لا يؤدي في حد ذاته إلى خلق استراتيجية دائمة النجاح في مواجهة الأعمال الإرهابية.

ملامح استراتيجية ترمب
من خلال المسودة الاستراتيجية المكونة من 11 صفحة والتي تشكل الخطوط الأولية لاستراتيجية الرئيس ترمب، نرصد عدداً من الملامح والمعالم يمكننا تلخيصها في نقاط محددة كالتالي:
تنبه الاستراتيجية إلى ضرورة تجنب الولايات المتحدة الوقوع في التزامات عسكرية جديدة، مكلفة ومفتوحة، وعلى القارئ هنا أن يستنبط ما يريد المشرع الأميركي قوله، أي تحاشي الدخول في حرب جديدة، مثل حربي أفغانستان والعراق، واللتين تعاني منهما واشنطن حتى الساعة.
تلفت الوثيقة كذلك إلى حتمية تكثيف واشنطن لعملياتها ضد الجماعات الراديكالية العالمية، لكن في الوقت نفسه خفض تكاليف «الدماء والثروة الأميركية»، في سعيها لتحقيق أهدافها ضد الإرهاب. ولعل هذه الجزئية بنوع خاص تشير إلى ما قال البعض بأنه تحميل لحلفاء واشنطن حول العالم المزيد من الأعباء اللوجيستية والقتالية، وتعظيم مشاركتهم المالية.
ولعل شئيا من المصارحة والمكاشفة يتجلى واضحاً عبر مطالعة النص الأصلي للاستراتيجية، حيث نجد اعترافاً رسمياً بأن الإرهاب «لا يمكن هزيمته نهائياً بأي شكل من الأشكال»، لا سيما بعد أن تحول الإرهاب على أرض الواقع إلى غول ووحش يهدد أمن العالم كله، وفي مقدمته الولايات المتحدة ذاتها.
تؤكد استراتيجية ترمب على أن الولايات المتحدة لم تتمكن من القضاء على التهديدات الإرهابية بشكل نهائي، معتبرة أن نجاحها في منع هجمات إرهابية على غرار أحداث سبتمبر لا يعني بالضرورة انحسار الإرهاب، لا سيما أن التنظيمات الإرهابية مثل تنظيم «القاعدة» أو «داعش» ما زالت تشكل تهديداً عابراً للحدود وعبر الولايات المتحدة وغيرها من الدول.
وتشدد أيضاً على فكرة أن خطر التنظيم لم ينته بعد، مؤكدة أن نجاح الضربات العسكرية الأميركية، واستعادة الأراضي التي كان التنظيم يسيطر عليها في العراق وسوريا، لا يعني بالضرورة انتهاء خطره، إذ أن فروعه خارج الشرق الأوسط، ما زالت تمثل التهديد الأكبر والمستمر للولايات المتحدة والعالم كله، كما حددت ثمانية فروع للتنظيم الإرهابي و20 شبكة ما زالت تعمل بانتظام لتنفيذ عمليات إرهابية في أنحاء أفريقيا وآسيا وأوروبا والشرق الأوسط.

الجماعات الراديكالية لا الإسلامية
ضمن ملامح ومعالم هذه الحرب الأميركية على الإرهاب، كانت هناك متلازمة دائماً على ألسنة المسؤولين الأميركيين وفي عقولهم، تلك التي ربطت على الدوام بين الإرهاب والإسلام، وجعلت منهم صنوانين لا يفترقان، ومترادفين لا ينفصلان. بدأ المشهد منذ ليلة الحادي عشر من سبتمبر 2001. حين استخدم الرئيس الأميركي وقتها جورج بوش الابن «خطاباً استدعى مفرداته من زمن حروب - الفرنجة كما سماها العرب، أو الحروب الصليبية كما رآها الأوروبيون».
في تلك الليلة كان بوش يقسم العالم إلى قسمين واضحين، الذين معنا والذين علينا أو ضدنا، وكان من الواضح للغاية أن الجانب الآخر هم المسلموون.
منذ ذلك الوقت البغيض أضحى كل مسلم داخل الولايات المتحدة مشروع إرهابي في أفضل الأحوال، إن لم يكن إرهابيا بالمطلق، وقد عمل كثيراً مروجو الإسلاموفوبيا على سكب المزيد من الزيت على النار، لإشعال أوار الخلافات وتعميق هوة الصراعات. واستخدم طويلاً «الإرهاب الإسلامي» كمصطلح يلخص حرب أميركا على المجموعات الإرهابية، وهو خطأ فني وعلمي، نبه إليه الكثير من المفكرين وحتى رجالات الأمن والاستخبارات في صفوف الأميركيين أنفسهم، لكن من غير طائل.
أما المثير هذه المرة في استراتيجية دونالد ترمب الجديدة فهو الاستعاضة عن التعبير الذي كان متلازمة لحملة ترمب في 2016، وهو «الإرهاب الإسلامي المتطرف» بتعبير آخر هو «الجماعات الراديكالية» الساعية إلى خلافة مزعومة.

إيران... واستراتيجية الإرهاب الجديدة
على صعيد متصل، لا بد من إلقاء نظرة عابرة على رؤية الأميركيين اليوم للإرهاب الإيراني، وهي رؤية تبدأ من عند مستشار الأمن القومي جون بولتون أحد صقور «المحافظين الجدد»، والذي اعتبر ولا يزال إيران هي البنك المركزي العالمي للإرهاب، و«البؤرة الصديدية أيضاً للشر حول العالم»، وتمر عبر مايك بومبيو وزير الخارجية الذي لا ينفك يصف إيران بأنها الدولة التي تمثل الراعي الأكبر للإرهاب حول العالم، وصولاً إلى الرئيس ترمب عينه الذي يتهم إيران بأنها أنفقت نحو ستة عشر مليار دولار على تمويل الإرهاب والإرهابيين المتمثلين في وجهة نظره في الأذرع الميليشياوية ووكلاء إيران في المنطقة، وذلك في الفترة ما بين عامي 2012 و2016.
الاستراتيجية الأميركية الجديدة ترى أنه لا بد من قطع الطريق على مليارات الدولارات التي عرفت طريقها لإيران بعد الاتفاق سيئ السمعة عام 2015، تلك التي ذهبت للحوثيين في اليمن، وحزب الله في لبنان، والحشد الشعبي في العراق، بجانب حماس في غزة، والتي هي خلفية فكرية بل ولوجيستية لجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية المحظورة في مصر.

غياب القوة الناعمة
هل تغيب أدوات القوة الناعمة التي تحدث عنها البروفسور الأميركي «جيمس ناي» في مؤلفه الشهير عن استراتيجية ترمب؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك، سيما وأنه لا توجد تفاصيل عن الآليات التي تسعى واشنطن لتحقيق استراتيجيتها من خلالها، وهنا فإن هناك فارقا واضحا جداً بينها وبين استراتيجية باراك أوباما 2011».
ذلك أن استراتيجية ترمب لا تتناول هذه الجزئيات من قريب أو بعيد، وهي التي كانت في السابق تتبنى برامج لمساعدة الحكومات الأجنبية في سعيها لتقليل المظالم التي تغذي التطرف، وقد لفتت هذه الإشكالية انتباه بروس هوفمان، مدير مركز الدراسات الأمنية بجامعة جورج تاون الذي علق بالقول: «للقوة الناعمة دور تلعبه لكن ليس باستبعاد القوة المحركة، أو العمل العسكري، والذي وصف مسودة الاستراتيجية بأنها تصوير رصين جداً للتهديد وما يلزم لمواجهته الآن وفي المستقبل القريب».
ثم يمكن التساؤل هل رؤية الجنرال ناغاتا التي أشرنا إليها من قبل هي الأصوب في بعض نقاطها من استراتيجية ترمب؟
يطالب الجنرال الأميركي بأن تصبح الولايات المتحدة الأميركية الأكثر فاعلية في اعتراض الأيديولوجيات الإرهابية، لا سيما في مجال تقديم بدائل أكثر جاذبية لأفكارها الإرهابية السامة. وفي هذا الإطار لا يجد المرء رجع صدى لهذا الطرح في مقارنة ترمب الخشنة.
جزئية أخرى يلفت إليها ناغاتا، وهي حتمية أن تضحى واشنطن أكثر فاعلية في مساعدة المجتمعات المحلية والأسر على تحديد الأشخاص أو الفئات الأكثر عرضة لتجنيد الإرهابيين وتمكين الجهات الفاعلة المحلية من منع هؤلاء الأفراد أو الجماعات أو إبعادهم عن هذا المسار من خلال تدريبهم على كيفية تلبية احتياجاتهم أو مظالمهم دون اللجوء إلى العنف.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.