استراتيجية أميركية جديدة لمحاربة الإرهاب

بين الواقع والتحديات

يريد المشرع الأميركي تحاشي الدخول في حرب جديدة مثل حربي أفغانستان والعراق واللتين تعاني منهما واشنطن حتى الساعة
يريد المشرع الأميركي تحاشي الدخول في حرب جديدة مثل حربي أفغانستان والعراق واللتين تعاني منهما واشنطن حتى الساعة
TT

استراتيجية أميركية جديدة لمحاربة الإرهاب

يريد المشرع الأميركي تحاشي الدخول في حرب جديدة مثل حربي أفغانستان والعراق واللتين تعاني منهما واشنطن حتى الساعة
يريد المشرع الأميركي تحاشي الدخول في حرب جديدة مثل حربي أفغانستان والعراق واللتين تعاني منهما واشنطن حتى الساعة

في الذكرى السابعة عشرة لاعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على الولايات المتحدة الأميركية، اعتمد الرئيس دونالد ترمب استراتيجية جديدة لمقاومة الإرهاب، وقد تم نشرها في الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وأطلق عليها البعض مثل كليفورد ماي مدير مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية في أميركا «استراتيجية واقعية لعصر من التحديات».
باختصار يمكننا القطع بأن واشنطن منذ أحداث سبتمبر، عاشت حالة من الغضب، وبوصف كثير من القيادات الأميركية فإن واشنطن أعلنت الحرب على الغضب وليس الحرب على الإرهاب، كما أنها استخدمت مطارق ثقيلة جداً من الفولاذ لهش الذباب، فيما الأكثر واقعية في المشهد هو أن أميركا لا تزال تبحث عن العرض، وربما تتناسى بشكل رئيسي المرض، والدوافع والأسباب التي قادت إلى المواجهة على صورتها الحالية.

إرهاب اليوم أكثر انتشاراً
في يوليو (تموز) الماضي استضاف معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى الجنرال الأميركي مايكل ك. ناغاتا، مدير التخطيط التشغيلي الاستراتيجي في المركز الوطني لمكافحة الإرهاب، وقد أشار إلى ما قدمته الولايات المتحدة بالتعاون مع عدد كبير من حلفائها وشركائها في جميع أنحاء العالم، من جهود استثنائية، وكيف أنها استثمرت ثروات هائلة في مجال مكافحة الإرهاب بأشكاله المتنوعة، ولكن السؤال الجذري... لماذا أصبح الإرهاب اليوم أكثر انتشاراً بل وتعقيداً مما كان عليه الأمر حين بدأنا؟ يتساءل الجنرال الأميركي ثم لا يتوقف عند هذا الحد بل يتجاوزه إلى علامة استفهام أخرى حيوية بدورها: لماذا أثبت الإرهاب أنه قادر على الصمود والتكيف رغم نجاحاتنا ورغم الضغط والقوة المتواصلين اللذين نستخدمهما نحن والعالم للوقوف في وجهه؟
يضعنا ناغاتا أمام حقائق مثيرة للقلق، جلها بات موجوداً في قاعدة بيانات الإرهاب العالمية، التي جمعها برنامج «ستارت» التابع لـ«جامعة ماريلاند» في الولايات المتحدة، وتبين أن الاتجاهات الأساسية للإرهاب رغم الجهود الأميركية الكثيفة، أصبحت مثيرة جداً للقلق، فمنذ عام 2010 ازداد عدد الوفيات المرتبطة بالإرهاب في جميع أنحاء العالم بنسبة تزيد عن 300 في المائة، كما ازداد عدد الهجمات الإرهابية مع ما يقترن بها من ضحايا بنحو 200 في المائة، وبمعزل عن ذلك، فإن السلطات الفيدرالية في الداخل الأميركي والمكلفة إنفاذ القانون، تجري نحو ألف عملية تحقيق متصلة بالإرهاب في الداخل وعبر نحو خمسين ولاية.
ولعل الجزئية الأكثر مدعاة للنظر في المشهد الإرهابي حول العالم اليوم، والتي يلفت إليها الجنرال هي أنه رغم كل النجاحات، لا يزال التطرف المقترن بالعنف، في جميع أشكاله تقريباً، يتمتع بالمرونة أي أنه قادر على الصمود، وعنده أيضاً أن الهجوم على الإرهابيين لا يؤدي في حد ذاته إلى خلق استراتيجية دائمة النجاح في مواجهة الأعمال الإرهابية.

ملامح استراتيجية ترمب
من خلال المسودة الاستراتيجية المكونة من 11 صفحة والتي تشكل الخطوط الأولية لاستراتيجية الرئيس ترمب، نرصد عدداً من الملامح والمعالم يمكننا تلخيصها في نقاط محددة كالتالي:
تنبه الاستراتيجية إلى ضرورة تجنب الولايات المتحدة الوقوع في التزامات عسكرية جديدة، مكلفة ومفتوحة، وعلى القارئ هنا أن يستنبط ما يريد المشرع الأميركي قوله، أي تحاشي الدخول في حرب جديدة، مثل حربي أفغانستان والعراق، واللتين تعاني منهما واشنطن حتى الساعة.
تلفت الوثيقة كذلك إلى حتمية تكثيف واشنطن لعملياتها ضد الجماعات الراديكالية العالمية، لكن في الوقت نفسه خفض تكاليف «الدماء والثروة الأميركية»، في سعيها لتحقيق أهدافها ضد الإرهاب. ولعل هذه الجزئية بنوع خاص تشير إلى ما قال البعض بأنه تحميل لحلفاء واشنطن حول العالم المزيد من الأعباء اللوجيستية والقتالية، وتعظيم مشاركتهم المالية.
ولعل شئيا من المصارحة والمكاشفة يتجلى واضحاً عبر مطالعة النص الأصلي للاستراتيجية، حيث نجد اعترافاً رسمياً بأن الإرهاب «لا يمكن هزيمته نهائياً بأي شكل من الأشكال»، لا سيما بعد أن تحول الإرهاب على أرض الواقع إلى غول ووحش يهدد أمن العالم كله، وفي مقدمته الولايات المتحدة ذاتها.
تؤكد استراتيجية ترمب على أن الولايات المتحدة لم تتمكن من القضاء على التهديدات الإرهابية بشكل نهائي، معتبرة أن نجاحها في منع هجمات إرهابية على غرار أحداث سبتمبر لا يعني بالضرورة انحسار الإرهاب، لا سيما أن التنظيمات الإرهابية مثل تنظيم «القاعدة» أو «داعش» ما زالت تشكل تهديداً عابراً للحدود وعبر الولايات المتحدة وغيرها من الدول.
وتشدد أيضاً على فكرة أن خطر التنظيم لم ينته بعد، مؤكدة أن نجاح الضربات العسكرية الأميركية، واستعادة الأراضي التي كان التنظيم يسيطر عليها في العراق وسوريا، لا يعني بالضرورة انتهاء خطره، إذ أن فروعه خارج الشرق الأوسط، ما زالت تمثل التهديد الأكبر والمستمر للولايات المتحدة والعالم كله، كما حددت ثمانية فروع للتنظيم الإرهابي و20 شبكة ما زالت تعمل بانتظام لتنفيذ عمليات إرهابية في أنحاء أفريقيا وآسيا وأوروبا والشرق الأوسط.

الجماعات الراديكالية لا الإسلامية
ضمن ملامح ومعالم هذه الحرب الأميركية على الإرهاب، كانت هناك متلازمة دائماً على ألسنة المسؤولين الأميركيين وفي عقولهم، تلك التي ربطت على الدوام بين الإرهاب والإسلام، وجعلت منهم صنوانين لا يفترقان، ومترادفين لا ينفصلان. بدأ المشهد منذ ليلة الحادي عشر من سبتمبر 2001. حين استخدم الرئيس الأميركي وقتها جورج بوش الابن «خطاباً استدعى مفرداته من زمن حروب - الفرنجة كما سماها العرب، أو الحروب الصليبية كما رآها الأوروبيون».
في تلك الليلة كان بوش يقسم العالم إلى قسمين واضحين، الذين معنا والذين علينا أو ضدنا، وكان من الواضح للغاية أن الجانب الآخر هم المسلموون.
منذ ذلك الوقت البغيض أضحى كل مسلم داخل الولايات المتحدة مشروع إرهابي في أفضل الأحوال، إن لم يكن إرهابيا بالمطلق، وقد عمل كثيراً مروجو الإسلاموفوبيا على سكب المزيد من الزيت على النار، لإشعال أوار الخلافات وتعميق هوة الصراعات. واستخدم طويلاً «الإرهاب الإسلامي» كمصطلح يلخص حرب أميركا على المجموعات الإرهابية، وهو خطأ فني وعلمي، نبه إليه الكثير من المفكرين وحتى رجالات الأمن والاستخبارات في صفوف الأميركيين أنفسهم، لكن من غير طائل.
أما المثير هذه المرة في استراتيجية دونالد ترمب الجديدة فهو الاستعاضة عن التعبير الذي كان متلازمة لحملة ترمب في 2016، وهو «الإرهاب الإسلامي المتطرف» بتعبير آخر هو «الجماعات الراديكالية» الساعية إلى خلافة مزعومة.

إيران... واستراتيجية الإرهاب الجديدة
على صعيد متصل، لا بد من إلقاء نظرة عابرة على رؤية الأميركيين اليوم للإرهاب الإيراني، وهي رؤية تبدأ من عند مستشار الأمن القومي جون بولتون أحد صقور «المحافظين الجدد»، والذي اعتبر ولا يزال إيران هي البنك المركزي العالمي للإرهاب، و«البؤرة الصديدية أيضاً للشر حول العالم»، وتمر عبر مايك بومبيو وزير الخارجية الذي لا ينفك يصف إيران بأنها الدولة التي تمثل الراعي الأكبر للإرهاب حول العالم، وصولاً إلى الرئيس ترمب عينه الذي يتهم إيران بأنها أنفقت نحو ستة عشر مليار دولار على تمويل الإرهاب والإرهابيين المتمثلين في وجهة نظره في الأذرع الميليشياوية ووكلاء إيران في المنطقة، وذلك في الفترة ما بين عامي 2012 و2016.
الاستراتيجية الأميركية الجديدة ترى أنه لا بد من قطع الطريق على مليارات الدولارات التي عرفت طريقها لإيران بعد الاتفاق سيئ السمعة عام 2015، تلك التي ذهبت للحوثيين في اليمن، وحزب الله في لبنان، والحشد الشعبي في العراق، بجانب حماس في غزة، والتي هي خلفية فكرية بل ولوجيستية لجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية المحظورة في مصر.

غياب القوة الناعمة
هل تغيب أدوات القوة الناعمة التي تحدث عنها البروفسور الأميركي «جيمس ناي» في مؤلفه الشهير عن استراتيجية ترمب؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك، سيما وأنه لا توجد تفاصيل عن الآليات التي تسعى واشنطن لتحقيق استراتيجيتها من خلالها، وهنا فإن هناك فارقا واضحا جداً بينها وبين استراتيجية باراك أوباما 2011».
ذلك أن استراتيجية ترمب لا تتناول هذه الجزئيات من قريب أو بعيد، وهي التي كانت في السابق تتبنى برامج لمساعدة الحكومات الأجنبية في سعيها لتقليل المظالم التي تغذي التطرف، وقد لفتت هذه الإشكالية انتباه بروس هوفمان، مدير مركز الدراسات الأمنية بجامعة جورج تاون الذي علق بالقول: «للقوة الناعمة دور تلعبه لكن ليس باستبعاد القوة المحركة، أو العمل العسكري، والذي وصف مسودة الاستراتيجية بأنها تصوير رصين جداً للتهديد وما يلزم لمواجهته الآن وفي المستقبل القريب».
ثم يمكن التساؤل هل رؤية الجنرال ناغاتا التي أشرنا إليها من قبل هي الأصوب في بعض نقاطها من استراتيجية ترمب؟
يطالب الجنرال الأميركي بأن تصبح الولايات المتحدة الأميركية الأكثر فاعلية في اعتراض الأيديولوجيات الإرهابية، لا سيما في مجال تقديم بدائل أكثر جاذبية لأفكارها الإرهابية السامة. وفي هذا الإطار لا يجد المرء رجع صدى لهذا الطرح في مقارنة ترمب الخشنة.
جزئية أخرى يلفت إليها ناغاتا، وهي حتمية أن تضحى واشنطن أكثر فاعلية في مساعدة المجتمعات المحلية والأسر على تحديد الأشخاص أو الفئات الأكثر عرضة لتجنيد الإرهابيين وتمكين الجهات الفاعلة المحلية من منع هؤلاء الأفراد أو الجماعات أو إبعادهم عن هذا المسار من خلال تدريبهم على كيفية تلبية احتياجاتهم أو مظالمهم دون اللجوء إلى العنف.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.