تجنيد الأجانب... مُفردات خادعة تقود للعنف

التنظيمات الأصولية تواصل خطتها لاختراق الغرب

إجراءات أمنية في محطة القطارات الرئيسية في العاصمة باريس عقب هجمات إرهابية عام 2015 أسفرت عن مقتل 130 شخصا
إجراءات أمنية في محطة القطارات الرئيسية في العاصمة باريس عقب هجمات إرهابية عام 2015 أسفرت عن مقتل 130 شخصا
TT

تجنيد الأجانب... مُفردات خادعة تقود للعنف

إجراءات أمنية في محطة القطارات الرئيسية في العاصمة باريس عقب هجمات إرهابية عام 2015 أسفرت عن مقتل 130 شخصا
إجراءات أمنية في محطة القطارات الرئيسية في العاصمة باريس عقب هجمات إرهابية عام 2015 أسفرت عن مقتل 130 شخصا

أكد خبراء وباحثون في شؤون التنظيمات الأصولية أن «خطاب تجنيد الأجانب» لدى الجماعات المتطرفة يتسم بـ«العاطفية المفرطة»، ويركز على الأصول الفقهية دون الفروع، متستراً في «ثوب الدعوة، حيث يغلب الطابع الدعوي على المرحلة الأولى من التجنيد، والتي تستغل عدم دراية الشخص المستهدف بالدين الإسلامي». فخطاب التنظيمات الأصولية المتطرفة لتجنيد الأجانب مر بالكثير من مراحل التطور، وصولاً إلى تنظيم داعش الذي استفاد من خبرات التنظيمات التي سبقته في هذا المجال، وعلى رأسها تنظيم «القاعدة» الذي وضع المبادئ الأساسية لذلك.
ويستهدف الخطاب بحسب الخبراء فئتين رئيسيتين في أي مجتمع غربي، هما الجيل الثالث من أبناء المهاجرين من أصول عربية أو إسلامية، والشباب من مواطني هذه البلدان أصحاب الجنسية الأصلية. وقال مراقبون إنه «رغم اختلاف التكتيكات النفسية التي تستخدم في تجنيد كل فئة منهما؛ فإن ثمة قواسم مشتركة في الاستراتيجية العامة للتجنيد، والتي تبدأ عادة بقيام أعضاء «الخلايا النائمة» بترشيح أسماء لأهداف محتملة للتجنيد يصلون إليها في محيطهم الاجتماعي وتحركاتهم اليومية، ثم يقومون بإجراء دراسات على الهدف «أي الضحية» لتحديد الوسيلة المناسبة للتواصل معه، وترتيب أولويات خطاب التجنيد. وأكد ماهر فرغلي، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر لـ«الشرق الأوسط»، أن «أبناء الجيل الثالث من المهاجرين ذوي الأصول العربية أو الإسلامية يشكلون دائماً هدفاً رخواً وسهلاً للتنظيمات الإرهابية المتطرفة، ويستغل خطاب التجنيد الفئات التي تعاني من تناقضات نفسية ومجتمعية، فالكثير من هؤلاء الشباب يعيشون في المجتمعات الغربية منفصلين ويواجهون مشكلة في الاندماج، ويعانون من عقدة (التناقضات النفسية)، فهم يعيشون في مجتمع ليبرالي؛ لكن لديهم عواطف موروثة تجاه كل ما هو إسلامي، وتقوم التنظيمات المتطرفة بمساعدتهم على حل هذه العقدة فيحسمون صراعهم النفسي».

مفاهيم مغلوطة
أضاف فرغلي على عكس خطاب التجنيد الموجه لشباب الداخل في الدول العربية والإسلامية، يركز خطاب تجنيد أبناء المهاجرين على الأصول الفقهية وأحكام التوحيد، فالشخص الذي ينشأ في مجتمع إسلامي يكون لديه على الأقل قدر من الدراية والمعرفة الدينية تمكنه من المجادلة ومناقشة الحجج الفقهية؛ إلا أن أبناء المهاجرين لا تتوافر لديهم هذه المعرفة، ومعظمهم يتعرف على المفاهيم الدينية للمرة الأولى، لذلك ينتقل الخطاب سريعاً إلى مرحلة وجوبية الجهاد لنشر الدين، مستنداً إلى المفاهيم المغلوطة والأفكار المتطرفة، التي تشبع بها الضحية في المرحلة الأولى... ويحل الولاء للتنظيم محل العائلة والمجتمع عن طريق مفهوم «العزل الأولي» والذي يقوم على ملء الفراغ النفسي والاجتماعي لدى العنصر الجديد من خلال إهدائه الكتب الفقهية التي تتبنى أفكاراً متطرفة، وإشعاره أنه جزء هام من مشروع كبير لنشر الدعوة.
وأكد فرغلي أن خطاب تجنيد أصحاب الجنسيات الأصلية في المجتمعات الغربية يستخدم مفردات تتناسب مع نشأتهم الاجتماعية في مجتمع ليبرالي ديمقراطي، ويركز الخطاب على المفاهيم والقيم الإنسانية البراقة، من نوعية «العدل»، و«المساواة بين البشر»، و«مواجهة الظلم»، وهي مفاهيم تجتذب الضحية، وتشكل البداية لاستخدام القيم السمحة والتستر وراء مفهوم الدعوة إلى الدين، لبث الأفكار المتطرفة.
من جهته، أشار صبرة القاسمي، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إلى أن «خطاب التجنيد يتجنب في البداية أي إشارات إلى التكفير؛ بل على العكس فهو يركز على استغلال الأفكار والقيم الإنسانية السامية التي يؤمن بها الشخص المستهدف بحكم نشأته في مجتمع ليبرالي، وتكون الرسالة أن الإسلام سبق العالم كله في تبنيه لمفاهيم الديمقراطية والحرية والمساواة، وفي المرحلة الأخيرة يتم استخدام مفهوم «الصدمة» بإخباره أن المجتمع الذي يعيش فيه كافر - على حد زعمهم - ويعيق تقدم الدعوة ونشر الحرية والمساواة».
مضيفاً لـ«الشرق الأوسط»: يشكل استهدف الأجانب بالتجنيد هدف ذو أولوية لكافة التنظيمات الإرهابية الأصولية ضمن استراتيجية اختراق المجتمعات الغربية، ليس فقط لكونهم هدفاً ثميناً نظراً لعدم معرفتهم بأي أمور فقهية، حيث يكون التنظيم هو منبع معرفتهم الوحيد؛ بل أيضا لسهولة تحركاتهم في بلادهم أو أي بلاد أخرى من دون إثارة شكوك الأجهزة الأمنية.

ميراث {القاعدة}
القاسمي أكد في هذا الصدد أن «الخلايا النائمة» في المجتمعات الغربية تلعب دوراً رئيسياً في عمليات تجنيد الأجانب، فبحسب الخبراء يقوم أعضاء هذه الخلايا بإجراء دراسات مستمرة على المجتمع الذي يعيشون فيه لاستخدامها في تطوير خطاب التجنيد، كما يقومون بترشيح الأهداف المحتملة للتجنيد، ودراسة جوانب حياتها المختلفة... ويعيش أعضاء «الخلايا النائمة» حياة طبيعية في المجتمع من دون لفت الأنظار، ويعتمدون على مبدأ السرية في نشر الدعوة.
وقال المراقبون إن تنظيم داعش الإرهابي اعتمد في إنشاء وتوسعة خلاياه النائمة على أعضاء ورثهم من تنظيم «القاعدة»، الذي كان يقوم بإعادة الأجانب عقب تجنيدهم وتدريبهم في معسكراته إلى بلادهم الأصلية، في حين ظل «داعش» حتى وقت قريب يطلب من أعضائه الأجانب الهجرة من بلادهم للقتال في صفوف التنظيم بالدول التي ينشط بها... وهي الاستراتيجية التي تراجع عنها التنظيم في الآونة الأخيرة، بسبب هزائمه المتلاحقة في العراق وسوريا وغيرهما من الدول.
في ذات السياق، أكد نبيل نعيم، القيادي السابق في تنظيم «الجهاد» المصري لـ«الشرق الأوسط»، أنه في أحد معسكرات تنظيم «القاعدة» في أفغانستان عام 1989 كان الأعضاء في جهاز التجنيد يستهدفون الأجانب، الذين يدرسون في معاهد أو جامعات إسلامية، وبعد أن تنتهي مراحل التجنيد الأساسية، يتم عزلهم في المعسكر لتلقي تدريبات عسكرية، ثم يتم إرسالهم إلى بلادهم... وقد استطاع «داعش» تجنيد معظم هؤلاء في وقت لاحق، ليشكلوا قاعدة خلاياه النائمة». وأضاف نعيم: تعمل «الخلايا النائمة» وفق آليات محددة ونسق مجتمعي يقوم على السرية وعدم لفت الانتباه، لذلك يتحركون في محيطهم الاجتماعي الطبيعي سواء الدراسة في جامعة ما أو في نطاق العمل، وعقب الانتهاء من دراسة الشخص المستهدف في محيطهم ينتقلون إلى مرحلة «جس النبض»، والتي تتضمن إشارات وجملا عابرة في سياق حوار حول أمور عامة، ويتم دائماً تغليف الإشارات بمفردات عن الديمقراطية والحرية ومفاهيم مماثلة لصرف ذهن المستهدف عن الرسالة الخفية... وتتسم كل مراحل التجنيد بتجنب أي حديث عن الانتماء لتنظيم ما، إذ يتم معظمها في إطار أحاديث شخصية أو أنشطة اجتماعية مشتركة، إلى أن ينتقل المستهدف إلى مرحلة الإيمان بالدعوة وما تتضمنه من بث أفكار مغلوطة.

العالم الافتراضي
وأكد الخبراء والباحثون أن «داعش» يولي اهتماماً خاصاً بالتكنولوجيا ووسائل التواصل الحديثة، وهو ما يبدو واضحاً في اهتمام التنظيم برسائله الإعلامية التي تعتمد على الإبهار لجذب عناصر جديدة، واستعراض القوة عن طريق نشر مشاهد المذابح التي يقوم بها للتدليل على قوته. في هذا الصدد يشير صبرة القاسمي إلى أن «داعش» لديه خبراء في علم النفس والاجتماع والإعلام من أعضائه يتولون صياغة رسائله الإعلامية وإصداراته المختلفة، فهو عندما يستهدف الشباب الفرنسي مثلاً، تكون الرسالة على لسان مواطن فرنسي من أعضائه، فتكون اللغة سليمة والتأثير النفسي للرسالة الإعلامية أكبر، وبشكل عام يستغل أعضائه الأجانب في جذب مزيد من شباب بلادهم.
أما ماهر فرغلي، فقال إن اللجان الإلكترونية تركز على عنصر الإبهار كأحد وسائل التأثير، ففي مرحلة متقدمة من التجنيد يقومون بإرسال صور ومقاطع فيديو للشخص المستهدف، تصور استرخاء أعضاء التنظيم وسعاتهم وهم يجلسون سوياً على جانب نهر الفرات ليلاً، أو يقومون ببعض الأنشطة الرياضية أو الترفيهية، ويعكف على إنتاج الصور ومقاطع الفيديو مخرجون محترفون، بهدف تصوير حياة أعضاء التنظيم باعتبارها الجنة على الأرض... وتستخدم اللجان الإلكترونية صفحات شخصية على مواقع التواصل الاجتماعي لا تتضمن أي محتوى متطرف يوحي بانتماء صاحبها لأي تنظيم أو اعتناقه أي أفكار أصولية، إذ تقوم هذه الصفحات بالبحث في صفحات الشباب بشكل عام لوضع دراسات نفسية من خلال ما يكتبونه لتحديد إمكانية تجنيدهم، إذ يكون الشباب المحبطون أو الناقمون أو الذين يمرون بمشكلات نفسية أكثر الفئات المستهدفة.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.