من بين التغريدات الخمس التي كتبها الرئيس الأميركي دونالد ترمب مباشرة بعد عودته من باريس للمشاركة في احتفالية المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى، لم تكن الأكثر تجريحاً بالنسبة للمواطن الفرنسي تلك التي يندد فيها بمقترح الرئيس إيمانويل ماكرون إنشاء «جيش أوروبي حقيقي». ذلك أنه سبق له أن هاجمه قبيل هبوط طائرته في مطار أورلي في تغريدة أولى مساء الجمعة، معتبراً إياه «مهيناً للغاية» للولايات المتحدة الأميركية، التي وضعها ماكرون في مصاف الصين وروسيا باعتبارها مصدر تهديد لأوروبا.
ولم تنجح محاولات قصر الإليزيه أيام السبت والأحد والاثنين في تبديد التوتر مع البيت الأبيض، من خلال الإشارة إلى وجود «التباس» في تفسير كلام ماكرون الذي «لم يقصد أبداً» أن أميركا تشكل خطراً على أمن البلدان الأوروبية، أو أن دعوة الرئيس الفرنسي موجهة ضد واشنطن. وأضافت أوساط الإليزيه، أن ماكرون «لم يأت بجديد» في دعوته؛ إذ سبق له وحث شركاء فرنسا الأوروبيين على ضرورة قيام جيش أوروبي يستطيع الدفاع عن المصالح الأوروبية. وفي أي حال، تضيف المصادر الفرنسية أن مشروعا كهذا «لن يرى النور في المستقبل القريب»، وأن الكثير من الأعضاء داخل الاتحاد «يفضلون المظلة الأميركية - الأطلسية على الدفاع الأوروبي المشترك»، خصوصاً الدول التي كانت تدور سابقاً في فلك الاتحاد السوفياتي وسارعت منذ تفلتها من عقاله في الانضمام إلى الحلف الأطلسي.
هذه المسائل كافة تدخل في إطار السياسة، وتحتمل الأخذ والرد والنقاش والموافقة أو الرفض. لكن أن يسعى الرئيس الأميركي إلى إهانة الشعور الوطني الفرنسي بقوله في إحدى تغريداته: إن الفرنسيين «أخذوا في تعلم اللغة الألمانية قبل أن (تصل جيوش) الولايات المتحدة» إلى باريس وتحررها من الجيوش الألمانية، فإن نية الإساءة فيها واضحة. ويريد ترمب بذلك أن يشير إلى أن الكثيرين من الفرنسيين «تعاونوا» مع المحتل الألماني، ليس فقط على المستوى الحكومي ممثلاً بالمارشال بيتان الذي صافح هتلر ونفّذ أوامره، وإنما أيضاً على المستوى الشعبي. ويجهد الفرنسيون في قلب هذه الصفحة السوداء من تاريخهم الحديث. لكن ترمب عاد ليذكرهم أن بلاده لم تكن أبداً عدواً لفرنسا، وأن من احتل أجزاء منها في الحرب العالمية الأولى وكلها في الثانية كانت ألمانيا. ويبدو واضحاً أن ترمب تقصد نكء الجراح الفرنسية - الألمانية مباشرة بعد احتفالات نهاية الأسبوع، التي كان أحد أهدافها التشديد على «تصالح» فرنسا وألمانيا؛ وهو ما تجسد في حضور المستشارة الألمانية نشاطات المئوية كافة، وقبلها التواجد مع ماكرون في عربة القطار التي شهدت التوقيع على الهدنة بين جيوش الحلفاء وبينها الجيش الأميركي وألمانيا صبيحة يوم 11 نوفمبر (تشرين الثاني) قبل مائة عام.
بيد أن ترمب لم يكتف بذلك، بل أفلت لغيظه العنان وهاجم الرئيس الفرنسي شخصياً بتذكيره أنه فقد شعبيته التي هبطت إلى 26 في المائة وبـ«فشل» سياسته في احتواء البطالة التي تصل نسبتها إلى 10 في المائة.
حقيقة الأمر، أن ماكرون لم ينجح في لقائه المغلق مع ترمب، الذي ضمّ بعده وفدي البلدين في «تبديد» التوتر بين باريس وواشنطن رغم أنه تبنّى دعوة ضيفه الأميركي الذي يصر على أن تتحمل أوروبا الأعباء المالية المترتبة عليها في إطار الحلف الأطلسي. كذلك، لم يكف تذكير الرئيسين بالصداقة التقليدية بين بلديهما، وهي «محطة إلزامية» كل مرة يأتي فيها الحديث على العلاقات بينهما. من جهة، يبرز الفرنسيون صورة المركيز لافاييت الذي أرسلته باريس عام 1777 لمساعدة الأميركيين على الحصول على استقلالهم من بريطانيا. وبالمقابل، فإن الأميركيين يذكّرون الفرنسيين بأنهم هبّوا لنجدتهم مرتين خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية.
إذا كان ثمة من يشعر بالإحباط في فرنسا، فإنه الرئيس ماكرون بالدرجة الأولى الذي سعى منذ اليوم الأول لرئاسته إلى التقارب مع ترمب. وتكلل ذلك بدعوته ضيف شرف إلى احتفالات العيد الوطني الفرنسي العام الماضي، ثم بزيارة الدولة التي قام بها ماكرون إلى واشنطن في الربيع الماضي. وغرض الرئيس الفرنسي أن العلاقات الشخصية ستمكّنه من التأثير على سياسات ترمب. لكن آمال ماكرون خابت. وجاءت تغريدات ترمب لتبين له أن الأخير لا يتردد في أن يدوس على العلاقات الشخصية، وأنه ليس من النوع الذي يسهل ترويضه أو إغراؤه.
تعتبر مصادر سياسية فرنسية أن ما حصل في الأيام الأربعة الأخيرة بين الطرفين «ليس سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد» للخلافات الفرنسية - الأميركية. وكان أول الغيث انسحاب ترمب من اتفاقية المناخ الموقعة في فرنسا نهاية عام 2015، وبعدها كرت السبحة: تنديد بالاتحاد الأوروبي وبالحلف الأطلسي واتهام الشركاء الأوروبيين بالتقصير في تحمل مسؤولياتهم المالية، الالتزام بسياسة أحادية لا تأخذ بعين الاعتبار الحاجة إلى التشاور مع الحلفاء الأوروبيين، تمزيق الاتفاق النووي مع إيران وإعادة فرض العقوبات عليها وعلى الشركات التي تتعامل معها، رفض الاستجابة لمطالب الدول الأوروبية الثلاث الموقّعة على الاتفاق إعفاء شركاتها من العقوبات، التنديد بالمؤسسات الدولية والانسحاب منها، الحرب التجارية وفرض رسوم على صادرات أوروبا من الألمنيوم والصلب، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها... وفي كل هذه الملفات، كانت باريس وواشنطن على طرفي نقيض. جاءت دعوة ماكرون الأخيرة وخطابه بمناسبة احتفالات المئوية، الذي ركز فيه على الحاجة إلى «التعددية» في إدارة شؤون العالم والابتعاد عن القومية المتعصبة... لتكون الشعرة التي كسرت ظهر البعير. والسؤال اليوم: إلى أين تسير العلاقات بين الطرفين؟
لا تريد باريس، رغم التمايزات والخلافات، القطيعة مع واشنطن. ولذا؛ سعت مصادر الإليزيه للتخفيف من حدة التوتر، والتأكيد على أن الرئيسين على تواصل دائم. وبالتأكيد سوف تستمر العلاقات بين العاصمتين. لكن رغبة ماكرون التي لم تكن خفية بأن يكون «المحاور» الأول لترمب في أوروبا أصيبت في الصميم. ولا شيء يضمن في الأيام القليلة المقبلة أن يعود الأخير إلى «رياضته» المفضلة وهي التغريد الصباحي الذي لا يستثني العدو ولا الصديق.
ماكرون يخسر موقعه كـ«الصديق الأول» لترمب في أوروبا
ماكرون يخسر موقعه كـ«الصديق الأول» لترمب في أوروبا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة