ملامح وجه باريس في عين روائي

شاكر نوري يسجل يومياته عن مدينة النور

باريس صورة جانبية
باريس صورة جانبية
TT

ملامح وجه باريس في عين روائي

باريس صورة جانبية
باريس صورة جانبية

مدينة الجن والضوء تحضر، كأنما تبعث من رماد، في كتاب شاكر نوري الجديد: «بطاقة إقامة في برج بابل: يوميات باريس» الفائز بجائزة ابن بطوطة عن «مؤسسة ارتياد الآفاق»، المخصصة لأدب الرحلات، صنف اليوميات، لهذا العام. أحسستني مستنفرا منذ العنوان، أبغي الاطلاع على ما كتب عن مدينة هي إعجاز معمار وفنون وثقافة وفن عيش في هذا العالم، وكيف سيتأتى للمؤلف تصوير ملامح وجه هذه المدينة، التي حارت الألباب والأقلام في كيفية تسويده منذ الطهطاوي، وفرانسيس المراش، والمغاربة الصفار، والحجوي، وعبد الهادي التازي، حتى الراحل باهي، في كتابه المعلمة: «اكتشاف باريس» (2010). ومالي أسكت عن أبنائها، الفرنسيس تحيروا هم أنفسهم في خريطتها العمرانية وجغرافيتها البشرية، وروحها الدفينة، وتاهت خطواتهم، أكتفي منها بمثال واحد هو إريك حزان في مؤلفه: «L’invention de Pais» (ابتكار باريس، لوسوي، 2002)، دعك من الأجانب، أميركيين وإنجليز، خصوصا، من كبار الكتاب والرسامين، يعدون من أعلامها، ودبجوا عنها أبهى الصفحات، لا غرو جرترود ستاين، وخصوصا همنغواي بكتابه: «عيد متنقل» من أبهاها وألطفها. هكذا نرى ونعلم أن من تيسر له العيش هنا ردحا من الدهر من علماء وفنانين وكتاب عمالقة، إما يبرح به الحنين دوما إليها، وإلا لا بد يترك مثلك بصمة كتاب، كأنما ليرد دينا له على هذه الغانية.
وأشهد في عجالة هذا العرض ما ترك نوري معلما يستحق الوصف والذكر بتسمية التازي لـ«أم العواصم»، إلا ورصده، إما بالوصف، أو التأريخ، أو التلميح، غنى في المعلومات، ودقة في التعيين، والتماس لما يفوت السائح العابر، وإحاطة بما هو شهد باريس وقاعها، ظاهرها وباطنها، سطحها والدر الكامن فيها، أرصفتها وأقبيتها، طعامها وشرابها. وما أمكنه هذا وأسلست له المدينة قياد وصفها واستبطانها في آن، إلا لأن من تصدى لهذه المهمة الصعبة، قل العمل العاشق، إنسان عاش هنا حقا، وصار ابن المكان، وحل بالزمن حيا ومتحولا، في جليل الأحداث، وخطير الأوقات، تعلم ورأى وتفاعل وانفعل وجال وتصعلك ودرس وكدح وعرف الحاجة وخاض غمار تجارب مما يعيشه المهاجرون وهم ينبهرون أولا، ثم قسم نادر منهم يعرف كيف يسل نفسه من عجين العادة والغربة السطحية ليصبح كائنا تسكنه المدينة وهي تتنفس من حواسه وتنبض في وجدانه، محتفظا في جميع الأوقات بالحبل السري والسري الرابط بينه ووطنه، ومحافظا أبدا على كرامته.
إن من يقرأ كتاب شاكر نوري، لن يفوته الانتباه إلى أن واضعه، قد اختار له شكل اليوميات، وإن بتخفف من قيوده، تخلص من تلك المعالم التي يتسابق لزيارتها كل سائح أو عابر سبيل، الشائعة في بطاقات البريد ودعايات مكاتب السياحة، حيث يتكالب اليابانيون، مثلا، بسذاجة، من قبيل برج إيفل، وكاتدرائية مونمارتر وفضائه، وحوانيت الحي اللاتيني وما إلى هذا. لا، انتقى ونظم ورتب، ثم وصف وبنى ووشى، وخلال هذا وذاك كان يبث المرئي والمحسوس أشجانه بين السؤال والمناجاة، الحيرة والإعجاب، الحزن والفرح في آن. وما ذلك إلا لأن باريس مدينة لا تقر على حال، تستهلك الأجيال وتمضي، تتركهم وهم فاغرو الأفواه يتساءلون ترى بتنا في أي حال، تتلاعب بالمشاعر، وتتنقل في الفصول، وتتغنج تحت العيون، تفي بوعودها وحذار قد تخون، وهو ما نفذ نوري إلى خبره المكنون.
اختار شاكر نوري مدينة التأسيس، والثقافة، وعظماء الأمة، ومباني الفن المهيبة والأحياء الخلفية، مقاهي وملتقيات الكتاب والفنانين، والمنابر الأكاديمية العريقة: جزيرة لاستيه، والبانتيون، ومحطة أورسي، وفندق ريتز في ساحة فاندوم حيث مركز جواهر العالم، ولاكوميدي فرانسيز، وملتقى عناوين ومكاتب الأدباء ومنطلق والتقليعات، أحياء العرب المهاجرين. هي مدينة تراها من بوصلة الذات والعيان، هكذا تجد نفسك تطلع على باريس بموسوعية وخصوصية ورهافة في وقت واحد، في مطلق مجدها التاريخي ومحينة في زمنها الحداثي كذلك. ولأن نوع اليوميات لا يسمح بالإسهاب، ومبني على اللمحة والإشارة باقتضاب، حرص نوري على سرد كثير معلومات ووصف مشاهدات من زاوية ذوقه وثقافته ومزاجه، أيضا، فهو كما خبرته جوال ذو «جنون» ومزاج، كي يسم نصه بما يحتاج إليه من خصوصية ولوينات. ولعل أبرز ما في الكتاب، بعد المعلومة المطلوبة، والرواية التاريخية المرغوبة، ما توصل إليه بنفسه حين قال: «(...) سأتوقف عن إعطائك المعلومات لأنك ستجدها في أي دليل وفي أي لغة تريد. إذن ينبغي أن تسألني عن روح هذا المكان!».
ولقد وجدتني أتساءل بعد أن أنهيت قراءة الكتاب، ترى ماذا ينقصه، لو جاز به نقصان، أو ينقصني أنا نفسي وقد خضت هذه المغامرة نفسها، بما كتبته عن هذه المدينة، وما أصدرته بخصوصها حديثا جدا، أعني كتابي السيرة: «نصيبي من باريس» (الدار المصرية اللبنانية) فضلا عن الفصل المخصص فيه لشاكر نوري بالذات.



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لأحد أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذه العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف عن سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى إن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفاعلية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني ويستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقية تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسمح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

من جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين بأن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق بوصفها مكاناً لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».