يعتبر الفنان عبد الجبار اليحيى، الذي رحل الأسبوع الماضي، واحدا من أهم الفنانين التشكيليين الذين مهدوا للفن التشكيلي السعودي تشكله الجمالي الذي أظهرته أغلب أعماله الزيتية ورسوماته المتنوعة، واستطاع من خلال ذلك أن يعطي للفن السعودي هويته البصرية في مرحلة لم يكن الفن التشكيلي السعودي قد تشكل أو تبلور. في آخر زيارة لي إلى معرض تشكيلي جماعي بجدة كان لي لحظات تأملية مع أعمال الفنان عبد الجبار والتي عرضت مشاركة بجانب فنانين آخرين يمثلون معه جيلا واحدا كلاسيكيا، وهو الجيل القديم في الفن التشكيلي السعودي الذي يقترب في مضمونه من الرسم المدرسي. ولهذا يمثل الفنان عبد الجبار مع غيره من فناني جيله، على سبيل التمثيل لا الحصر: محمد السليم، وعبد الحليم رضوي، وعبد الله الشيخ، وأحمد فلمبان، وطه صبان، وعبد الرحمن السليمان، وصفية بن زقر، وآخرون، الدور التأسيسي في الفن التشكيلي السعودي، وهؤلاء جميعا - مع تحفظي على كلمة الريادة كمصطلح أدبي / تاريخي - كانوا يمثلون دورها الحقيقي، على ضعف بعض أعمالهم، وهو ضعف يمكن اعتباره ضعف البدايات ونقص الخبرات. كما يمكن قراءة الاختلاف في طبيعة التلقي الثقافي لكل واحد منهم وفي طبيعة ظروف الحياة الاجتماعية لهم وللتغذية البصرية التي تلقاها بعضهم في دراستهم للفنون بالخارج، فهذه المسائل وغيرها تختلف من فنان وفنان آخر، وتكشف عن الجرأة التاريخية التي جعلتهم في سلم البداية. ومما يلاحظ في أعمال الفنان عبد الجبار تركيزه على بعض الموضوعات، التي من بينها على سبيل التمثيل: اهتمامه بعنصر المرأة، وهو اهتمام يحفظ لهذا الرجل، لأن موضوع المرأة لم يلقَ الاهتمام الكبير من التشكيلين السعوديين وبخاصة القدماء، كما يلاحظ في أعماله عنايته الكبرى بالتراث السعودي وبخاصة الشكل المعماري للمكان، حيث تهيمن على بعض لوحاته العناية الخارجية للبيوت التراثية من زخارف وأشكال وزوايا وبخاصة بيوت الطين، ويجيء اللون في بعض أعماله ممزوجا بالفضاء البصري للمكان البسيط الذي استمده من بيئته الصحراوية.
من يكشف عن الغامض وراء قصة الستينيات الأدبية؟https://aawsat.com/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%81%D9%86%D9%88%D9%86/5134218-%D9%85%D9%86-%D9%8A%D9%83%D8%B4%D9%81-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%A7%D9%85%D8%B6-%D9%88%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D9%82%D8%B5%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%AA%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AF%D8%A8%D9%8A%D8%A9%D8%9F
كان هناك جيلان متزامنان في العراق الحديث، تشكلا بعد عام 1958، الأول سياسي، جاء في سياق بواكير تشكيل الدولة الهجين، أحزاباً وزمراً عسكريةً، وتوّج أخيراً بأعتى ديكتاتورية في المنطقة، والثاني ثقافي وأدبي قصصي، خاض صراعاً تقنياً وفنياً في النفق الديكتاتوري نفسه، وجاء ضمن تدرّج وتطور الريادة القصصية في سبيل ترسيخ النوع الأدبي، وكلاهما في الغالب يشتركان معاً في قاعدة الحلم الثوري، وينطلقان منها في التعبير عن سلوكهما السياسي والأدبي.
من المفارقات شديدة اللبس والتعقيد أن النزاعات الشرسة للأحزاب والتنظيمات السياسية وألويتها الأدبية في ما بينها التي أعقبت العهد الجمهوري من 1958 وحتى عام 2003، ارتبطت عضوياً بصيغة الحلم الثوري الزائف بوصفه منهجاً آيديولوجياً صارماً، يمزج بين السعي إلى تسلم إدارة الحكم وتطبيق التصورات القومية والوطنية وإغواء حركة التحرر الدولية والأممية وما سمّي بالمعسكر الاشتراكي آنذاك، الحلم الذي يفرض على الأدباء أو نصوصهم، ولا يأبه من الجانب السياسي بالعنف أبداً مهما بلغ من تنكيل وقتل وإبادات ما دام الوصول للهدف وسدة الحكم هو الأول.
محمد خضير
بعد عقود من خوض التجربة المرّة، وصل العنف إلى ذراه في الصراع داخل الحلم الثوري نفسه في الغالب بين الأحزاب الثورية على وجه التحديد، سواء كانت في السلطة والمعارضة، أو قريبة منهما إلى الحد الذي شطر الأحلام الثورية في معادلة متوازنة ومتضادة ومنعكسة من العنف بينهما، بين سدة الحكم وأبواب السجون، فالاثنان الجلاد والضحية، ثوريان، يشتركان في تقمص الحلم نفسه وتبني فراديسه المنشودة وتبادل الأدوار بين السلطة والسجن، وكلاهما صادق في التعبير والسلوك، وربما كلاهما متواطئ مع الآخر في لعب الأدوار حتى أن السلوك العنفي والميليشياوي الذي تمارسه السلطة من وقت لآخر في تصفية خصومها الثوريين المعارضين على شاكلتها هو نفسه ما تمارسه الفئات المهيمنة للسجناء أنفسهم ضد بعضهم داخل أسوار السجن.
والواقع كان للجلاد أسماؤه الأدبية والثقافية المنظمّة معه مثلما كان للضحية أسماؤها التي لا تخفى، ومنهم من غادر دور الضحية وأصبح جلاداً، والعكس صحيح، وتظل قاعدة الحلم الثوري مشتركة بينهما.
في ظل هذه المفارقة الشرسة، ولد هذان الجيلان المتزامنان في الستينيات من القرن الماضي، أحدهما تمثل في ارتقاء الديكتاتورية، وثانيهما أدبي وثقافي لم يخرج عن الإجهاز الكلي على الأدب والثقافة من قبل السلطة قبل وأثناء ارتقاء الديكتاتورية، الأول، لم يتخط مخاضات القتل والتنكيل فقط إنما أوصلها إلى ذراها في الحروب والهجرة والحصارات الاقتصادية، والثاني، الجيل الأدبي الذي نشأ بين السلطة والمعارضة والسجن والمهجر وما بينهم، وشهد اصطفافاً واستقطاباً ضمنياً هنا وهناك.
في غضون ذلك، استطاع الجيل الستيني الأدبي أن يحيا ربيع النشر والانتشار في بداية السبعينات إذ كان عدد يسير من الأحزاب الثورية متحالفة بهشاشة مع السلطة، وتيسر لها عن طريق دور النشر الخاصة بها أن تصدر عدداً من المجاميع القصصية لأدباء يحسبون منها وسط احتراز ومراقبة السلطة.
وفي ظل هذه المعادلة السياسية للأدب، استفحلت أزمة هذا الجيل الأدبي والقصصي بالتعبير عن نفسه داخل المنظومة الحزبية، سواء في السلطة أو المعارضة، وشعر البعض من القاصين بأنهم سوف يفقدون النسق الإنساني كلياً في قصصهم طالما كان التعبير جارياً ومتعسفاً على وفق الحلم الثوري المنشود الذي هو مجرد تلقين لفكرة استشراف مستقبلي للناس والمجتمع، وشرعة أمل زائفة، وكان العمال والكادحون والفقراء هم إشارات سياسية ملقّنة أكثر منها مصائر واقعية في ظل مجتمع شبه تحولي بين الريف والمدينة.
جهاد مجيد
وللخروج من هذا المأزق، طفق القاصون والروائيون محمود جنداري وجمعة اللامي ومحمد خضير وجهاد مجيد وعبد الإله عبد الرزاق وآخرون، يستخدمون التشفير والتجريد والترميز والأسطرة والمكابدة الصوفية ومحاولة استيقاف الحاضر والمستقبل الزائفين والعودة إلى الماضي بوصفه منطقة تقنية آمنة لبناء قصصهم ورواياتهم.
وعبر تلك المناورة الأسلوبية البارعة، تمكن القاصون والروائيون من التسامي والتعالي على أزمتهم السياسية والفنية، واستطاعوا على نحو معين من تضليل الرقيب المؤسساتي ونشر نتاجهم وتلقيه على مستوى عام ومقبول داخل النفق الديكتاتوري نفسه.
ولعل هذه المناورة الأسلوبية، لم تكن نابعة عبر شكلها الطبيعي ضمن سياقات نشأة ونمو القص والروي في البلاد، وحسب قدر ما كانت تخفي خلفها كواليس وندوب تعرض هؤلاء الأدباء للتنكيل والاحتواء السياسي التي كانت تمارسه المؤسسات المتسلطة بمعنى أن التقنية التي نشرت فيها مجاميع مثل «المملكة السوداء» و«لأوفيليا جسد الأرض» و«الثلاثيات» و«حكايات دومة الجندل» وغيرها كثير، تتضمن مضمراً مستتراً من حجم صراعها الفني مع الرقيب السلطوي، وبحاجة إلى الكشف والتحليل بعد سقوط الرقيب، ولا يعني ذلك الاعتراف بل وضع المعادلة الأدبية في مواقعها الصحيحة بين المجتمع والثقافة وليس قاعدة الحلم الثوري واحتكار السلطة للأدب.
بعد عام 2003 الذي يمثل نهاية الجيل الستيني السياسي، وخروج الجيل الستيني الأدبي من نفقه المعتم، لم يستعد أحد من الأدباء الستينيين إلا في حدود ضئيلة المعادلة الواقعية للأدب الحقيقي بين المجتمع والسلطة، لم يلق أحد منهم أردية النفق الآيديولوجي الخانق ويعيد وصفها على نحو جديد، يتصل بالمرجع والمحيط الأدبي الاجتماعي والإنساني حين كانت السلطات تصادره باسم الحلم الثوري السائر في رسم هزيل للانعطافات المجتمعية الموهومة المقبلة، وما كانت المرحلة التي أسدلت الستار على هذا الجيل مجرد طور زمني عابر، يمكّن الأدباء الستينيين من التواصل والإنتاج بنفس القدرة السابقة.
وإذا كان الجيل السياسي على نحو عام قد تمخض عن دنس التجربة، فإن مخاض الطهر الأدبي لدى الأدباء على نحو عام أيضاً، يساويه في نتائج الخيبة والفشل العميقين لكل التجربة اليسارية عربياً ومحلياً طالما أصيب الحلم الثوري بالإخفاق المريع، وهذا ما جعل القاص والروائي إبراهيم أحمد «وبالرغم من أنه يحسب على جيل ما بعد الستينيين»، ينظر بنفور إلى سنين الدنس، ويصب جام غضبه على الفاعلين السياسيين، فيما كشف جمعة اللامي الكبير في كتابه «مذكرات السومري» التمزقات السياسية وممارسة العنف والتنكيل داخل السجون من قبل السجناء أنفسهم.
إنها دعوة إذن لكتابة المذكرات على نحو يزيح العتمات عن الغامض وراء قصة الستينيات العراقية. بعد 2003 لم يستعد أحد من الأدباء الستينيين إلا في حدود ضئيلة المعادلة الواقعية للأدب الحقيقي بين المجتمع والسلطة