أشباح الحرب الأولى لم تختفِ بعد

قوات تركية في شوارع دمشق (أ.ب)
قوات تركية في شوارع دمشق (أ.ب)
TT

أشباح الحرب الأولى لم تختفِ بعد

قوات تركية في شوارع دمشق (أ.ب)
قوات تركية في شوارع دمشق (أ.ب)

الذكرى المئوية لنهاية الحرب العالمية الأولى لم تضع حداً للسجالات التي سبقتها وأعقبتها ولصراعات ما زال بعضها مستمراً منذ أكثر من قرن. بل إن بعض الظواهر التي ساهمت في اندلاع القتال وانقسام العالم للمرة الأولى في تاريخه على ذلك النحو وتلك الحدّة، عاد ليطلّ برأسه من تحت أكوام السنوات.
«الحرب التي ستُنهي كل الحروب» حسب الوصف الذي أُطلق عليها، لم تحقق هذا الوعد. تعيَّن على البشرية أن تكابد أهوالاً كثيرة بعد الهدنة التي دخلت حيز التنفيذ في الساعة الحادية عشرة من اليوم الحادي عشر من الشهر الحادي عشر لسنة 1918. ويسهل علينا بعد مائة عام من سكوت المدافع رؤية المآل الذي ستتخذه الأحداث بسبب إصرار الحلفاء الغربيين على إذلال ألمانيا وعلى محاولة تقسيم تركيا بعد تقاسم ممتلكات الإمبراطورية العثمانية الآفلة في البلقان والمشرق العربي. لم تحمل الحرب المنتصرين على إدخال أي عناصر جديدة إلى سياساتهم الداخلية والخارجية. طموحات الرئيس الأميركي ويدروو ويلسون لمنح الشعوب الحق في تقرير المصير لم تعمّر أكثر من أشهر قليلة، وشهد مؤتمر فرساي في 1919 عودة السياسات الإمبراطورية والاستعمارية إلى احتلال الصورة.
نعلم اليوم أن نهاية الحرب التي رأت فيها فرنسا وبريطانيا فاصلاً عابراً قد يفيد في تمدد إمبراطوريتيهما إلى مناطق إضافية في الشرق الأوسط، من دون استخلاص أي درس حقيقي من الحرب وظروفها ومآسيها، قد مهّدت الطريق أمام ظواهر زرعت بذور الحرب العالمية الثانية بعد نحو العقدين من اتفاقية الهدنة.
جاء انهيار الإمبراطورية الروسية بفعل الهزائم الثقيلة التي منيت بها في أثناء الحرب واندلاع الثورة الروسية في فبراير (شباط) 1917، ثم تحولها إلى واحدة من أكثر الثورات جذرية في التاريخ الحديث مع انتصار الثورة البلشفية في أكتوبر (تشرين الأول) من العام ذاته، كإنذار مبكر لما سيواجهه العالم من تعقيدات لن تقف عند المجالات الجيوسياسية أو على ترسيم مناطق النفوذ بين القوى الكبرى، بل لتطرح أسئلة عميقة عن معنى الدولة والسلطة والفئات الحاكمة. التحذير الروسي تبعه بعد قليل اختبار لا يقل خطورة تَمثّل في وصول بينتو موسوليني إلى زعامة الدولة الإيطالية بعد زحفه الشهير على روما ثم فوز الحزب القومي الاشتراكي (النازي) في ألمانيا بقيادة أدولف هتلر في انتخابات سنة 1933 بعد استثماره مشاعر الهزيمة والذل والفوضى العارمة التي أعقبت خاتمة الحرب، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة التي أخفقت حكومة فيمار في علاجها.
اتفاقية سايكس - بيكو التي مرت في العام الماضي ذكراها المئوية أيضاً، أسست من جهة ثانية، لعدد من المشكلات التي ترافق العالم العربي إلى اليوم. ذلك أن رسم الحدود بين النفوذين الفرنسي والبريطاني والانطلاق في هذه الخطوط الموضوعة على خريطة السيدين سايكس وبيكو، لبناء كيانات صارت بعد أعوام قليلة دولاً خاضعة للانتداب، من دون الأخذ في الاعتبار تاريخ شعوب هذه المنطقة وعلاقاتها وحساسياتها ونظرة بعضها إلى بعض وتراث كامل من الحكم العثماني القائم على المِلل والطوائف والقبائل، جعل من شبه المستحيل تماسك الدول هذه بعد استقلالها ومحاولتها اختيار أساليب الحكم الأنجع لإدارة أمورها بتقليد النظم الأوروبية المؤَسّسة على إنجازات الحداثة. ما تعيشه المنطقة حتى اليوم لا ينفصل عن فشل مشروع «الحرب التي تُنهي كل الحروب»، ناهيك بأن وعداً من نوع وعد بلفور (أو «إعلان بلفور» إذا تحرّينا الدقة في الترجمة)، لا يقلّ عن كونه هدية مسمومة لشعوب المشرق العربي أوردتها مسالك حروب وصراعات لا نهاية لها في الأفق.
تعود اليوم الظاهرة القومية بصبغة الشعبوية مذكِّرةً بموسوليني وبأجواء ما بعد الحرب الأولى. غنيٌّ عن البيان أن العالم اليوم يختلف اختلافاً عميقاً عما كان عليه عند اغتيال وريث العرش النمساوي – المجري الأرشيدوق فرديناند في سراييفو، وأن الدول والشعوب قطعت أشواطاً بعيدة في صوغ وسائل وأجهزة تقيها شر الوقوع مجدداً في نزاعات من صنف تلك التي أشعلت فتيل الحرب في تلك الحقبة. لكن ما يدعو إلى القلق وإلى التأمل هو ذلك المأزق الذي وصلت إليه الدولة والمجتمع والسياسة ككل، حيث تؤدي التقنيات الحديثة دوراً معاكساً لذاك الذي أمل العالم منها أن تؤديه. وعلى الرغم من أن الأوضاع لم تصل بعد إلى حدود الانفجار ونشوب الحرب بين الدول، فإن تعميم الكراهية والجهر بالكذب كأسلوب في التعبئة السياسية لجذب الناخبين المعبّئين والمتشنجين، ينطوي على خطر تكرار الوقوع في فخ الزعماء الذين ساقوا أوروبا وباقي الأمم إلى الحرب العالمية الأولى والذين لم يتعلموا دروسهم كما ينبغي.


مقالات ذات صلة

خبراء: القصف الإسرائيلي ضد مواقع عسكرية سورية يتعارض مع القانون الدولي

المشرق العربي قوات إسرائيلية تتحرك داخل المنطقة العازلة بين إسرائيل وسوريا في مرتفعات الجولان (إ.ب.أ)

خبراء: القصف الإسرائيلي ضد مواقع عسكرية سورية يتعارض مع القانون الدولي

أكّد خبراء أمميون، أمس (الأربعاء)، أنّ الغارات الجوية التي شنّتها إسرائيل ضدّ مواقع عسكرية سورية أخيراً تتعارض مع القانون الدولي.

«الشرق الأوسط» (جنيف- دمشق)
العالم من عملية تصويت للجمعية العامة للأمم المتحدة (أرشيفية - إ.ب.أ)

«الجمعية العامة» تطالب بأغلبية ساحقة بوقف فوري لإطلاق النار في غزة

صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة يوم الأربعاء لصالح المطالبة بوقف فوري وغير مشروط ودائم لإطلاق النار بين إسرائيل ومقاتلي حركة المقاومة الإسلامية.

«الشرق الأوسط» (الأمم المتحدة)
الخليج الأمير فيصل بن فرحان في لقاء سابق مع بيدرسون بمقر وفد السعودية الدائم لدى الأمم المتحدة في نيويورك (واس)

فيصل بن فرحان يناقش المستجدات السورية مع بيدرسون

ناقش الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي مع غير بيدرسون المبعوث الأممي إلى سوريا، مستجدات الأوضاع السورية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
المشرق العربي غزيون يسيرون بين أنقاض المباني المنهارة والمتضررة على طول شارع في مدينة غزة (أ.ف.ب)

الأمم المتحدة تطلب أكثر من 4 مليارات دولار لمساعدة غزة والضفة في 2025

طلبت الأمم المتحدة اليوم الأربعاء، أكثر من أربعة مليارات دولار لتقديم مساعدات إنسانية لثلاثة ملايين شخص في الأراضي الفلسطينية المحتلة العام المقبل.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
المشرق العربي الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش يحضر مؤتمراً صحافياً في بريتوريا، جنوب أفريقيا، 11 ديسمبر 2024 (إ.ب.أ)

غوتيريش: نرى بارقة أمل من نهاية الديكتاتورية في سوريا

قال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، اليوم (الأربعاء)، خلال زيارة إلى جنوب أفريقيا، أن هناك بارقة أمل من نهاية الديكتاتورية في سوريا.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

إردوغان يتحدث عن «اتفاق تاريخي» بين إثيوبيا والصومال لإنهاء التوترات

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان متوسطا الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس الوزراء الإثيوبي أبيي أحمد في أنقرة بعيد انتهاء المحادثات (رويترز)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان متوسطا الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس الوزراء الإثيوبي أبيي أحمد في أنقرة بعيد انتهاء المحادثات (رويترز)
TT

إردوغان يتحدث عن «اتفاق تاريخي» بين إثيوبيا والصومال لإنهاء التوترات

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان متوسطا الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس الوزراء الإثيوبي أبيي أحمد في أنقرة بعيد انتهاء المحادثات (رويترز)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان متوسطا الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس الوزراء الإثيوبي أبيي أحمد في أنقرة بعيد انتهاء المحادثات (رويترز)

أعلن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أنّ الصومال وإثيوبيا توصلتا، أمس الأربعاء، في ختام مفاوضات جرت بوساطته في أنقرة إلى اتفاق "تاريخي" ينهي التوترات بين البلدين الجارين في القرن الأفريقي.

وخلال مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس الوزراء الإثيوبي أبيي أحمد في أنقرة، قال إردوغان إنّه يأمل أن يكون هذا "الاتفاق التاريخي الخطوة الأولى نحو بداية جديدة مبنية على السلام والتعاون" بين مقديشو وأديس أبابا.

وبحسب نص الاتفاق الذي نشرته تركيا، فقد اتّفق الطرفان على "التخلّي عن الخلافات في الرأي والقضايا الخلافية، والتقدّم بحزم في التعاون نحو رخاء مشترك". واتّفق البلدان أيضا، وفقا للنص، على العمل باتجاه إقرار ابرام اتفاقيات تجارية وثنائية من شأنها أن تضمن لإثيوبيا وصولا إلى البحر "موثوقا به وآمنا ومستداما (...) تحت السلطة السيادية لجمهورية الصومال الفدرالية". وتحقيقا لهذه الغاية، سيبدأ البلدان قبل نهاية فبراير (شباط) محادثات فنية تستغرق على الأكثر أربعة أشهر، بهدف حلّ الخلافات بينهما "من خلال الحوار، وإذا لزم الأمر بدعم من تركيا".

وتوجّه الرئيس الصومالي ورئيس الوزراء الإثيوبي إلى أنقرة الأربعاء لعقد جولة جديدة من المفاوضات نظمتها تركيا، بعد محاولتين أوليين لم تسفرا عن تقدم ملحوظ. وخلال المناقشات السابقة التي جرت في يونيو (حزيران) وأغسطس (آب) في أنقرة، أجرى وزير الخارجية التركي هاكان فيدان زيارات مكوكية بين نظيريه، من دون أن يتحدثا بشكل مباشر. وتوسّطت تركيا في هذه القضية بهدف حل الخلاف القائم بين إثيوبيا والصومال بطريقة تضمن لأديس أبابا وصولا إلى المياه الدولية عبر الصومال، لكن من دون المساس بسيادة مقديشو.

وأعرب إردوغان عن قناعته بأنّ الاتفاق الذي تم التوصل إليه الأربعاء، بعد ثماني ساعات من المفاوضات، سيضمن وصول إثيوبيا إلى البحر. وقال "أعتقد أنّه من خلال الاجتماع الذي عقدناه اليوم (...) سيقدّم أخي شيخ محمود الدعم اللازم للوصول إلى البحر" لإثيوبيا.

من جهته، قال رئيس الوزراء الإثيوبي أبيي أحمد، وفقا لترجمة فورية إلى اللغة التركية لكلامه "لقد قمنا بتسوية سوء التفاهم الذي حدث في العام الماضي... إثيوبيا تريد وصولا آمنا وموثوقا به إلى البحر. هذا الأمر سيفيد جيراننا بنفس القدر". وأضاف أنّ المفاوضات التي أجراها مع الرئيس الصومالي يمكن أن تسمح للبلدين "بأن يدخلا العام الجديد بروح من التعاون والصداقة والرغبة في العمل معا".

بدوره، قال الرئيس الصومالي، وفقا لترجمة فورية إلى اللغة التركية لكلامه إنّ اتفاق أنقرة "وضع حدا للخلاف" بين مقديشو وأديس أبابا، مشدّدا على أنّ بلاده "مستعدّة للعمل مع السلطات الإثيوبية والشعب الإثيوبي". وإثيوبيا هي أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان لا منفذ بحريا له وذلك منذ انفصلت عنها إريتريا في 1991.