مع وصوله لمحطته الـ15 في متحف اللوفر أبوظبي، يكتسب معرض «طرق التجارة في الجزيرة العربية» ألقاً خاصاً، مدفوعاً بجولة عالمية ناجحة استطاعت فتح نوافذ جديدة على المملكة العربية السعودية لجمهور لم يزرها، وأيضاً لجمهور زارها، لكنه لم يسبر أغوارها. التوصيف صحيح نسبياً حتى لمواطني المملكة العربية السعودية؛ فالمعرض الضخم يضم مكتشفات أثرية تعود لبداية التاريخ البشري ويستمر للزمن الحالي، وما بين القاعة الأولى والأخيرة قِطع شهدت على تاريخ وحضارة شبه الجزيرة العربية، وبفضل مجهود هيئة السياحة والتراث السعودية خرجت للعلن لتدهش وتبهر وتغيّر أفكاراً مسبقة.
خلال جولة أولية على المعرض، الذي يستحق - في رأيي - أكثر من جولة، صاحبنا فيها نائب رئيس قطاع الآثار والمتاحف بالهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بالسعودية، جمال بن سعد عمر، انطلقنا من قطعة مكتشفة حديثاً تعود إلى العصر الحجري القديم، هي قطعة متناهية الصغر، لكنها تحمل ثقلاً تاريخياً؛ فهي - حسب ما يذكر لنا عمر «الأحفورة الوحيدة للإنسان العاقل التي عثر عليها في الجزيرة العربية، وهي أيضاً أصغر قطعة في المتحف، وعمرها 90 ألف سنة».
ويشير جمال عمر إلى أن المعرض في محطته الحالية أضاف عدداً من القطع من دولة الإمارات العربية المتحدة «وهو دور لدولة الإمارات، التي تجمعنا بها علاقات الأخوة عبر التاريخ، وكانت هذه فرصة بأن نوضّح الوحدة الثقافية والتاريخية بينهما»، ويشير إلى أنها المرة الأولى التي يسمح فيها لمعرض متجول بإضافة قطع من الدول المضيف.
وخلال حديث مع «الشرق الأوسط»، ورداً على سؤال حول عدد القطع التي أضيفت للعرض مقارنة ببداية الجولة العالمية، يقول: «في هذا المعرض أضفنا 16 قطعة، لكن منذ أن بدأنا في العرض أضفنا نحو 140 قطعة».
يشير إلى أن ردة فعل الجمهور العالمي الذي شاهد المعرض من خلال جولته كان مشجعاً وقوياً، وأضاف: إن هناك المزيد من المعارض التي ستقدم جانباً من الكم الهائل من القطع التاريخية لدى المملكة «خلال الفترة القريبة المقبلة سيكون لدينا في الشارقة معرض عن (الحواضر العربية قبل الإسلام) سيضم قطعاً أثرية من المملكة العربية السعودية؛ فالزخم كثير». ويضيف: إن المعرض استمر في عروضه العالمية لسببين «الأول استمرار الطلب من المتاحف العالمية، والآخر هو ردة فعل الجمهور الذي حضر المعرض، هناك من لم يزر المملكة وكان له هذا المعرض بمثابة مفاجأة، وهناك من يعرف المملكة، لكن العرض أضاف الكثير».
- طرق التجارة في الجزيرة العربية
العرض يعتمد على إبراز الدور الذي لعبه الموقع الجغرافي لشبه الجزيرة العربية في العصور القديمة، وأيضاً تنوع الثقافات والحضارات التي استفادت من الموقع الجغرافي رغم قسة الظروف الطبيعية فربطت ضفاف المحيط الهندي وبلدان القرن الأفريقي بمصر وبلاد ما بين النهرين ودول حوض البحر المتوسط.
وكان من الطبيعي أن يكون لطرق التجارة والحج دور في ظهور مراكز حضرية وإلى ازدهار مدن القوافل وتغذية الثقافة المحلية بأساليب وأفكار جديدة ينقلها التجار والحجاج.
المعرض الممتع يتخذ تلك المدن أساساً لرواية تاريخ المنطقة كلها، وتنقسم قاعات العرض بالتالي لتبرز تلك المحطات والآثار التي وجدت بها، مدعماً بالصور الفوتوغرافية التاريخية إن وجدت في أزمان حديثة أو بعرض أفلام لمشاهد من حياة الصحراء وغيرها.
- العصر الحجري
في القاعة الأولى عدد من المكتشفات الأثرية، منها أحجار قاطعة استخدمها الإنسان البدائي، وأيضاً قطعة جمالية ربما؛ فهي جزء من تمثال لحيوان من فصيلة الخيل وتعود للعصر الحجري الحديث نحو عام 8100 قبل الميلاد وجدت في عام 2010 بوادي الدواسر.
حسب ما تشير لوحة إرشادية تحت عنوان «الخطوات الأولى على دروب الجزيرة العربية»، فالإنسان الأول ترك آثاراً في الجزيرة العربية، ومنها الكثير من الأدوات الحجرية والأدوات المصقولة والفؤوس الحجرية.
- الجزيرة العربية الخضراء
تشير اللوحة إلى ما خلصت له الدراسات من أن الجزيرة العربية مرّت بمراحل من تغير المناخ شهدت وجود البحيرات والأنهار والطبيعة الخضراء، حيث ارتادتها أجناس من الحيوانات مثل الفيل أو وحيد القرن. منذ أكثر من مائة ألف عام وفرّت الجزيرة العربية الخضراء بيئة للإنسان العاقل الذي غادر أفريقيا الشرقية ليسلك طرقاً برية أو بحرية متجهاً نحو وادي النيل أو مجتازاً البحر الأحمر. وبدءاً من عام 7000 قبل الميلاد حلت محل هؤلاء السكان مجموعات من الرعاة الرحل الذين استقروا في أرجاء شبه الجزيرة العربية.
مع هذه المعلومة المدهشة لا يمكن أن يتجول الزائر في المعرض بالفكرة المسبقة نفسها عن المنطقة؛ فهناك طبقات متتالية من التاريخ تكشف لنا عن جوانب مدهشة من الحياة على الجزيرة العربية. وهو ما تفعله ببراعة وبساطة في آن واحد المعروضات هنا، فهي غير متوقعة، وأيضاً محمّلة بالكثير من المعاني والإشارات.
- الطرق البحرية الأولى في الخليج
المساحة التالية من العرض تركز على الطرق البحرية في الخليج العربي وما نتج منها من مهن، كالصيد أو تجارة اللآلئ، وتشير اللوحة الإرشادية إلى بداية مخيمات الصيادين على شواطئ الخليج منذ الألف السادسة قبل الميلاد، وهنا تدلنا كشوف أثرية في مواقع بدولة الإمارات العربية المتحدة، مثل أم القوين ومروح، على نمط عيش هذه المجتمعات القديمة واستفادتها من الموارد البحرية. ويستدل الباحثون على نشاط سكان هذه المجتمعات بأنواع الأسماك التي كانوا يستهلكونها والتي توجد بأعماق البحار؛ وهو ما يعبر عن مجازفة للصيادين بالذهاب لأعالي البحار. أيضاً، تعكس تجارة المزهريات والأواني الملونة المصنوعة في بلاد ما وراء النهرين وجود الطرق الملاحية الأولى في الخليج. وتثبت المعروضات الموجود الكثير من المعلومات التاريخية فنجد في خزائن العرض قِطعاً مكتشفة من مروح وأم القوين والأكعاب، مثل الأواني الفخارية، وحبات اللؤلؤ التي كانت سلعاً للتبادل وأوعية تعود لأكثر من ألفين عام قبل الميلاد من الإمارات العربية المتحدة.
من القطع النادرة أيضاً، هناك حجر مزيّن بنقش نافر على هيئة جمل يعود لـ1800 إلى 2300 عام قبل الميلاد عثر عليه فريق من علماء الآثار الدنماركيين في منطقة أم النار بالإمارات عام 1959، إضافة إلى قطع أخرى وجدت في مناطق إماراتية أخرى مثل أم القوين تعود لحضارة أم النار (2000 - 2500 قبل الميلاد)، منها إناء جلب من وادي السند ومشط من آسيا الوسطى؛ وهو ما يدل على الحركة التجارية والملاحة وقتها.
- طرق البخور
القاعة التالية تأخذنا لتجارة البخور وطرقها التي تضم واحداً من جنوب شبه الجزيرة العربية وحتى غزة بفلسطين وطرق أخرى تربط الجنوب ببلاد ما وراء النهرين مروراً بالسواحل الشرقية لشبه الجزيرة العربية. وغني عن القول، أن السيطرة على تلك الطرق التجارية كانت تعد تفوقاً سياسياً؛ فهي من أكثر الوسائل المربحة في ذلك الزمن وكانت الممالك العربية في جنوب شبه الجزيرة العربية تسيطر على هذه الطرق التي تقلص حجم التبادل التجاري عبرها بعد بسط الرومان سيطرتهم ونفوذهم على الطرق البحرية في البحر الأحمر ما كان أثره قاسيا على المبادلات البرية.
ومن محطات القوافل التي كانت تحمل البخور نجد عدداً من القطع الأثرية، منها شاهد قبر يحمل نقوشاً بالآرامية، ويحمل اسم «النصب ذو العينين»، ويعود إلى تيماء بالمملكة العربية السعودية من عام 400 - 600 قبل الميلاد.
وهنا تبدو أهمية مدينة تيماء التي تقع عند تقاطع طريق البخور وتربط بين الخليج العربي بالبحر الأحمر، ولازدهارها أثارت تيماء أطماع جيرانها الأقوياء فخضعت لسيطرة المملكة الآشورية، ثم المملكة البابلية، ونرى هنا عدداً من القطع التي تحمل نقوشاً تدل على تلك الممالك.
- مدائن صالح (الحجر)
المدينة الثانية في مملكة الأنباط بعد عاصمتها بتراء بالأردن، وكانت محطة رئيسية على طرق القوافل المتجهة من جنوب الجزيرة العربية وحتى الأردن وسواحل البحر المتوسط،. وتعرض القاعة عدداً من القطع المكتشفة في موقع مدائن صالح، منها عدد من الجرار ولوح من الحجر الرملي يحمل نقوشاً باللغة اللاتينية تصف عملية إصلاح سور المدينة يعود إلى الفترة (175 - 177 قبل الميلاد) هناك أيضا تاج عمود نبطي.
ومن الماضي البعيد للماضي القريب يربط المعرض بين آثار المواقع الأثرية في مدائن صالح بصور فوتوغرافية نادرة وممتعة سجلت عمليات البعثة الأثرية في الجزيرة العربية في مارس (آذار) - مايو (أيار) من عام 1907 إلى الحجاز، الحجر (مدائن صالح) وهي مستعارة من المكتبة الوطنية الفرنسية بباريس.
يستمر المعرض في إلقاء الضوء على محطات قوافل البخور، مثل الفاو ونجران، ويدعم السرد بقطع متنوعة ما بين التماثيل الضخمة والقطع الخزفية إلى القطع البرونزية، مثل قطعة تمثل رأس ومخالب أسد من نجران تعود إلى 100 - 200 ميلادي.
- طرق الحج والتبادل التجاري
تحولت الطرق التجارية التي تجتاز شبه الجزيرة العربية منذ العصور القديمة إلى مسارات يسلكها الحجاج الذين يتوافدون على مكة والمدينة، وتمتد من الشام والعراق ومصر واليمن، وكانت تحظى بالصيانة وزودت بمحطات للتموين والاستراحات، والشيء نفسه حدث مع موانئ البحر الأحمر، حيث تمر سفن الحجاج. ومن تلك المدن على طرق الحج نجد مدينة الربذة، التي تقع على بعد 200 كلم إلى الشرق من المدينة المنورة، وكانت محطة رئيسية على طريق الحج العراقية. وازدهرت المدينة في القرن التاسع الميلادي وكشفت الحفريات الأثرية فيها عن أسواق ومناطق سكنية وخزانات مياه وآبار. نرى هنا عدداً من القطع التي عثر عليها في الربذة منها إناء ملون ووعاء يحمل رسم أرنب.
- مبخرة ومفتاح لباب الكعبة وقطع أثرية من المسجد النبوي
يقدم المعرض عدداً من القطع الأثرية المهمة التي أهديت للمسجد النبوي والحرم المكي، منها مبخرة تحمل اسم والدة السلطان العثماني مراد الرابع وجدت في حجرة الحرم النبوي بالمدينة المنورة. هناك أيضاً قفل ومزلاج نقش عليهما اسم السلطان العثماني أحمد الأول (1603 - 1617) أيضاً من حجرة الحرم النبوي. ويبرز في العرض باب الكعبة المشرفة مكسواً بأوراق من الفضة المذهبة، وظل باباً للكعبة على مدى ثلاثة قرون (القرن الـ17 - القرن الـ20).
هناك أيضاً مفتاح للكعبة يرجح أن يكون تاريخه 804 هجرية (1402م)، وهو عبارة عن سبيكة نحاسية منحوتة ومطعّمة بالذهب، وهي من ممتلكات متحف اللوفر بباريس.
- دروب الحداثة الوحدة والاستقلال
في نهاية المعرض، نصل إلى مرحلة تاريخية جدية في تاريخ الجزيرة العربية شهدت توحيدها وتأسيس المملكة العربية السعودية، وتعرض القاعة عدداً من المتعلقات الشخصية بالملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، منها عباءته وقفاز لصيد الصقور.
روائع آثار السعودية تحط الرحال في اللوفر بأبوظبي
في محطته الخامسة عشرة... معرض «طرق التجارة في الجزيرة العربية» يضيف 16 قطعة من الإمارات
روائع آثار السعودية تحط الرحال في اللوفر بأبوظبي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة