استراتيجية الإليزيه في القارة السمراء

كتاب فرنسي عن «العملاء الأعزاء» في أفريقيا

استراتيجية الإليزيه في القارة السمراء
TT

استراتيجية الإليزيه في القارة السمراء

استراتيجية الإليزيه في القارة السمراء

لا تزال القوى العظمى تتكالب على أفريقيا، ليس طمعاً في ثرواتها وخيراتها، وحفاظاً على مصالحها هناك، فحسب، وإنما لتعزيز مساحة النفوذ والقوة، وسط التغيرات التي طرأت على منظومة الصراع في العالم.
في إطار هذا التكالب، صدر بالمكتبات الفرنسية مؤخراً كتاب «عملاؤنا الأعزاء في أفريقيا» عن دار النشر الفرنسية الكبيرة «فيار» ليكشف النقاب عن أحد الجوانب التي استخدمتها القوى الغربية لتعزيز سيطرتها على القارة الأفريقية وهو الجانب الاستخباراتي.
يتناول هذا الكتاب عبر 240 صفحة من القطع المتوسط ملفاً خاصاً وحساساً، ينصب على العناصر الاستخباراتية السرية لفرنسا والمنتشرة في جميع ربوع القارة الأفريقية بين صحرائها وضواحيها ومدنها المختلفة، وكذلك أروقة المكاتب الرسمية المنتشرة في المدن الرئيسية بالقارة الأفريقية، وهو الأسلوب الذي نجح من خلاله الفرنسيون في بسط نفوذهم بالقارة الأفريقية، خاصة في شطرها الغربي ليوجهوا من خلال هذا الوجود الاستخباراتي السياسة الأفريقية الجديدة التي ترغب فرنسا في تنفيذها بأفريقيا، إضافة إلى ذلك، فإن النشاط الاستخباراتي الفرنسي في أفريقيا لم يتوقف عند هذا الحد، بل وصل إلى تدريب العناصر الاستخباراتية الأفريقية، الأمر الذي مكن فرنسا من تعزيز وجودها في القارة السمراء وبسط يدها هناك، بل بلغ الأمر مداه أن العناصر الاستخباراتية وصلت إلى حد معرفة بعض الملفات والمناطق الأفريقية أكثر من الأفارقة أنفسهم، وهو وضع سهل للفرنسيين الكثير في أفريقيا وأطلق أيديهم هناك، ليرسموا وينفذوا بذلك استراتيجية الإليزيه في أفريقيا.
وعلى جانب آخر، يؤكد مؤلفا الكتاب توماس هوفننج، وأنطوان جلاسير، على أن هذا الوضع لم يعد قائما في أفريقيا في القرن الواحد والعشرين، فلم يعد العملاء الفرنسيون يسيطرون وحدهم على القارة الأفريقية، فقد دخلت عناصر أخرى جديدة تزاحمهم الميدان مثل العناصر الاستخباراتية الصينية والإسرائيلية والروسية، بل وصل الأمر إلى دخولها في سباق محموم وشرس فيما بينها لدى الرؤساء الأفارقة لإمدادهم بالمعلومات الاستراتيجية التي تمكن القادة الأفارقة من البقاء في السلطة.
يكشف مؤلفا الكتاب النقاب عن التبادلات المدهشة بين القادة الأفارقة والعملاء الفرنسيين، حيث يستنطق المؤلفان بعض العناصر السرية السابقة التي كانت تتحلى بالصمت المعتاد لتوضح إلى أي مدى كانت للحروب التي خاضتها الاستخبارات الباريسية نتائج وخيمة في الميدان الأفريقي، ويؤكدان عبر صفحات كثيرة أن القارة الأفريقية لا تزال مطمعاً للقوى العظمى لما تتمتع به من مواد أولية فريدة وموارد بشرية هائلة. ولذلك، يدافع الكتاب عن ما تبقى من مصالح لفرنسا هناك من خلال شبكة فرنسا من العملاء السريين الذين يعملون في الظل في واحدة من أهم المناطق بالعالم بالنسبة للسياسة الفرنسية، ولذلك تصنف منطقة الغرب الأفريقي بالنسبة لفرنسا على أنها منطقة «دفاع سري» بالنسبة للإليزيه.
بالإضافة إلى ذلك، فإن كتاب «عملاؤنا الأعزاء في أفريقيا» يكتسب بعداً خاصاً ليس فقط لحساسية الملف الذي يتناوله، ولكن أيضاً لأن مؤلفي الكتاب متخصصان في الملف الأفريقي، فأنطوان جلاسير متخصص في الملف الأفريقي، وله خبرة فريدة في هذا الشأن، أما توماس هوفننج فهو مسؤول عن الملف الأفريقي بصحيفة «ليبراسيون» الفرنسية، وأجرى سلسلة تحقيقات مطولة حول القارة الأفريقية، خاصة منذ عمليات التمرد التي شهدها ساحل العاج في سبتمبر (أيلول) 2002، إضافة إلى مؤلفاته الكثيرة حول أفريقيا، خاصة فيما يتعلق بثرواتها غير المستغلة بالقدر الكافي.
تاريخ النشاط الاستخباراتي الفرنسي:
يؤكد الكتاب على أن تاريخ النشاط الاستخباراتي الفرنسي في أفريقيا يعود إلى عهد الجنرال شارل ديغول الذي عهد بمهمة الاستخبارات الفرنسية في أفريقيا إلى رجله القوي جاك فوكارت الذي نجح في زرع أفراد شبكته الخاصة في أفريقيا لدى الحلفاء من الرؤساء الأفارقة، وهي الشبكة التي نجحت في بسط يدها على القارة الأفريقية إلى حدٍ كبير، لدرجة أنه انتشرت على إثرها مقولة «لا يمكن لذبابة أن تمر على أفريقيا دون جاك فوكارت». وبهذه الطريقة أضحى الرؤساء الأفارقة أنفسهم يمثلون مصدر معلومات هاماً للاستخبارات الفرنسية التي أحسنت بدورها استغلال هذا الوضع من خلال تمكين الرؤساء الأفارقة الموالين لها عبر ما تمدهم من معلومات استراتيجية تمكنهم من البقاء في السلطة، الأمر الذي عزز ولاءهم للإليزيه. وكانت هذه العناصر تتمتع بإفراط في المعلومات يؤهلها لتعزيز نظام أو إجهاضه أو صناعة المعارضين والموالين له، وهي موضوعات كانت تمثل جوهر حوارات بين هذه العناصر الاستخباراتية والقادة الأفارقة داخل أروقة القصور الرئاسية... وفيما يتعلق بالملفات الحساسة للغاية، فإن مدير جهاز الخدمة الخارجية بالاستخبارات الفرنسية هو الذي يتوجه شخصياً أو أحد مساعديه إلى أفريقيا، خاصة عندما تتعقد العلاقات الدبلوماسية مع بعض الدول الأفريقية مثل السودان على سبيل المثال، حيث تتولى الاستخبارات الفرنسية وحدها هناك الملفات الهامة مثل الإرهاب والهجرة، إضافة إلى المعرفة الدقيقة لشبكات العناصر الاستخباراتية في دول الجوار.
وفيما يتعلق بالدول الصديقة لباريس مثلما الحال في أفريقيا الوسطى، فيتولى عقيد من جهاز الخدمة السرية التابع للمخابرات الفرنسية ملف العلاقات بين الجانبين ويلتقي يومي الثلاثاء والخميس من كل أسبوع بشكل دوري ومعتاد مع الرئيس تواديرا، رئيس أفريقيا الوسطى، وقبل الموعد المحدد بشكل دائم يؤكد لسكرتيره «سأتناول الفستق مع تواديرا». في إشارة منه إلى اعتيادية اللقاء.
وفيما يتعلق بالكوادر الدبلوماسية الفرنسية المتجهة نحو أفريقيا، فيتم اختيارها بعناية فائقة، محددها الأساسي في الاختيار يكمن في طابعها وميولها الاستخباري، بالإضافة إلى أن الرجل الذي يشغل منصب المستشار الثاني بالسفارة يكون تابعاً للاستخبارات. وفيما يتعلق بالسفير الفرنسي في أي من الدول الأفريقية، فيجب أن يتمتع بسيرة ذاتية ذات أبعاد استخباراتية. طبيعة الوجود:
من الواضح أن الاستخبارات الفرنسية تتمتع بقوة نافذة في كثير من الأحيان في قلب القارة الأفريقية، إلا أن هناك بعض الدول التي تتمتع بخصوصية، ومن ثم خرجت عن هذه القاعدة مثل الجزائر التي تمثل دائماً معضلة كبرى بالنسبة لفرنسا، ففي الوقت الذي كانت تتحرك فيه العناصر الاستخباراتية الفرنسية في الجزائر، كانت العناصر الجزائرية تتحرك هي الأخرى على الأراضي الفرنسية، أي أنها تعمل في اتجاه مضاد من أجل إجهاض عمل جهاز الخدمة الخارجية الفرنسية، وهو وضع لم يُسهل من شأنه من طبيعة العلاقات المركبة والمعقدة بين الجانبين في ظل الوجود العسكري الفرنسي في مالي.
ويرصد الكتاب معاقل تاريخية كثيرة للاستخبارات الفرنسية في أفريقيا مثل جيبوتي وأفريقيا الوسطى، ففيما يتعلق بجيبوتي، يعد الرئيس إسماعيل عمر جيلاه أول رئيس دوله أفريقي يُدعى من قبل الرئيس الصيني نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، عقب إعادة انتخابه على رأس الحزب الشيوعي الصيني ليقع الضيف الأفريقي في سحر العاصمة الصينية بكين. ويعود الاختيار الصيني لجيبوتي كونها تمثل نقطة الاختراق الأولى لأفريقيا، ولذلك تتمتع الصين هناك بـ«شبكة عملاء سريين قوية للغاية» أكثر نشاطاً من برلين أيام الحرب الباردة.
وفيما يتعلق بالجابون، فتمثل أهمية استراتيجية كبرى لباريس ليس فقط من أجل مصالحها في القارة الأفريقية، ولكن أيضاً من أجل علاقات فرنسا السرية مع بعض دول الجوار في هذه الاستراتيجية مثل إيران لتحقيق هدف ثلاثي الإبعاد، فاليورانيوم الجابونى يُسلم لمصنع تخصيب يوروديف التي تساهم فيه إيران منذ عهد الشاه في سبعينات القرن الماضي وبالتالي، فمع وصول الرئيس عمر بونجو لسدة الحكم لم يكن يتمتع بوضعية الرئيس التقليدي، ليس فقط لأنه يمول رجال السياسة الفرنسيين، ولكن أيضاً كونه حافظ أسرار دفاعية واستراتيجية كثيرة، هذا بالإضافة إلى علاقته الوثيقة بالاستخبارات الفرنسية.
ويخلص الكتاب إلى أن أفريقيا في القرن الواحد والعشرين بدأت تشهد الكثير من التغيرات، لا سيما ما يتعلق بعالم الجاسوسية الغربية على أراضيها، وإذ بدأ يتوارى الاحتكار الفرنسي في هذا الشأن، وبدأت الصين تدخل هي الأخرى نطاق تدريب وتأهيل ضباط الاستخبارات في كثير من الدول الأفريقية وعلى رأسها جيبوتى. وفيما يتعلق بأفريقيا الوسطى، فقد كان العقيد جون كلود مانتيون التابع للاستخبارات الفرنسية يتمتع بنفوذ كبير يتجاوز نطاق اختصاصاته الأمنية، وكذلك نطاق عمله خاصة في الفترة من 1982 حتى 1993، إلا أن هذا الوضع لم يستمر حتى الآن، لتنقلب الأمور لصالح موسكو التي تحمي بدورها الرئيس تواديرا، بل وصل الأمر إلى أنه محمي من نحو 50 فرداً من القوات الخاصة الروسية، في إطار تسليم سلاح محظور من قبل الأمم المتحدة. كما تم توقيع اتفاق عسكري بين موسكو وبانجي نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2017، فالروس، الذين يؤهلون فرقتين من القوات بآسيا الوسطى يقدر قوامهم بـ1300 فرد، قد أقاموا رئاسة أركانهم في قلب قصر بيرنجو التابع للإمبراطور الأسبق لأفريقيا الوسطى جون بيدل بوكاسا.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو
TT

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

في روايتها «عشبة ومطر» دار «العين» للنشر بالقاهرة - تختار الكاتبة الإماراتية وداد خليفة الثقافة العربية سؤالاً مركزياً حائراً بين واقع مشوّش ومستقبل مجهول، حيث تبدو اللغة والتاريخ وكأنهما ينازعان أنفاسهما الأخيرة للصمود داخل قِلاعها العربية نفسها.

وتعتمد الروائية على تقنية الأصوات المتعددة لتعميق صراعات أبطالها مع عالمهم الخارجي، حيث تتشارك كل من بطلة الرواية «عشبة» وابنها «مطر» في نزعة تراثية جمالية يتفاعلان من خلالها مع دوائرهما التي يبدو أنها تتنصّل من تلك النزعة في مقابل الانسحاق في مدّ «الثقافة العالمية» المُعلبّة، ولغة التواصل «الرقمية»، فتبدو بطلة الرواية التي تنتمي إلى دولة الإمارات وكأنها تُنازِع منذ أول مشاهد الرواية من أجل التواصل مع محيطها الأسري بأجياله المتعاقبة، حيث تُقاوم النزعة «السائدة» في ذلك المجتمع العربي الذي بات أفراده يتحدثون الإنجليزية داخل بيوتهم، ولا سيما أجيال الأحفاد وسط «لوثة من التعالي»، «فهؤلاء الأبناء لا يعرفون من العربية سوى أسمائهم التي يلفظونها بشكل ركيك»، في حين تبدو محاولات «عشبة» استدراك تلك التحوّلات التي طرأت على المجتمع الإماراتي أقرب لمحاربة طواحين الهواء، فتأتيها الردود من محيطها العائلي مُثبِطة؛ على شاكلة: «لا تكبّري المواضيع!».

صناديق مفتوحة

يتسلل هذا الصوت النقدي عبر شِعاب الرواية، فتبدو «عشبة» مهمومة بتوثيق العلاقة مع الماضي بذاكرته الجمعية التي تتقاطع مع سيرتها الشخصية منذ تخرجها في معهد المعلمات بإمارة الشارقة وحتى تقاعدها، لتعيد تذكّر تفاعل جيلها مع كبريات التغيّرات السياسية سواء المحلية، وعلى رأسها المخاض الطويل لاتحاد الإمارات العربية المتحدة، وحتى سياقات الحروب والنكبات العربية منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وصولاً لمجازر «صبرا وشاتيلا» الدامية في لبنان 1982 والنزف الفلسطيني المُستمر، في محطات تجترها البطلة بعودتها إلى قصاصات الأخبار التي ظلّت تجمعها وتحتفظ بها من مجلات وصحف عربية لتؤرشفها وتُراكمها عبر السنوات داخل صناديق، ليصبح فعل تقليبها في هذا الأرشيف بمثابة مواجهة شاقّة مع الماضي، بينما تبدو الصناديق والقصاصات الورقية مُعادلاً للحفظ الإلكتروني والملفات الرقمية التي قد تتفوق في آلياتها وبياناتها، وإن كانت تفتقر إلى حميمية الذكرى، وملمس المُتعلقات الشخصية التي تنكأ لديها جراح الفقد مع كل صندوق تقوم بفتحه: «أعدت غطاء الصندوق الذي يحتاج مني إلى جرأة أكبر لنبشه، ففي الصندوق ثوب فلسطيني طرَّزته أمٌ ثكلى من بئر السبع... أم صديقتي سميرة أخت الشهيد، ودفتر قصائد نازقة دوّنته صديقتي مها من غزة... صورٌ لزميلاتي بالعمل من جنين ونابلس ورام الله... رسائل من صديقتي ابتسام المقدسية... ومن حيفا مفارش مطرزة من صديقة العائلة أم رمزي».

بالتوازي مع تنقّل السرد من حكايات صندوق إلى آخر، يتصاعد الصراع الدرامي لبطل الرواية «مطر» الخبير في تقييم التُحف، الذي يقوده شغفه بمجال «الأنتيك» والآثار القديمة لتتبع مساراتها في مزادات أوروبية تقترب به من عالم عصابات مافيا القطع الأثرية، كما تقوده إلى الاقتراب من حكايات أصحاب القطع الأثرية التي تُباع بالملايين في صالات الأثرياء، كحكاية «مرآة دمشقية» ظلّ صاحبها يتتبعها حتى وصلت لقاعة مزادات «كريستيز» حاملاً معه ذكرى حكاية جدته وأسرته وتشريدهم، وتصنيعهم تلك المرآة بأُبهتها الزخرفية والفنية في غضون ظروف تاريخية استثنائية خلال فترة سيطرة الحكم العثماني في دمشق.

نهب ممنهج

تبدو الرواية التي تقع في 350 صفحة، وكأنها تمنح حضوراً سردياً للقطع الأثرية المفقودة، والمنهوبة، بصفتها شواهد تاريخية تتعقب «تُجار الممتلكات الثقافية»، ودور المزادات، وأمناء المتاحف، وسط متاهات تزوير الوثائق الخاصة بالقِطع وشهادات المنشأ، وتهريب القطع من بلادها، ولا سيما بعد الربيع العربي والحروب الأهلية التي أعقبته، لتفتح ساحات السرقة الممنهجة للآثار في المواقع الأثرية العربية، كما في تونس ومصر وسوريا والعراق، في حين تبدو قصص القطع المفقودة أُحجيات تتبعها الرواية وتحيكها بخيوط نوستالجية تمدّها الكاتبة على امتداد السرد.

تعتني لغة الرواية بالوصف الدقيق للتفاصيل الجمالية التي تبدو في صراع متواتر مع تيار محو أعنف، كقطع السجاد الأصيل وأنواله التقليدية، والزخارف الغرناطية العتيقة على الأسطح، في مقابل ثقافة «الماركات» الاستهلاكية التي تُميّع الذوق العام، والحروف اللاتينية التي تُناظر الحروف العربية وتُغيّبها في لغة الحياة اليومية.

وقد حازت رواية «عشبة ومطر» أخيراً جائزة «العويس للإبداع»، ومن أجواء الرواية نقرأ:

«كنتُ قصيراً، أقفز كي تلمس أطراف أصابعي مطرقة الباب، وبعد أن كبرت قليلاً، وأصبحت أمسكها بيدي، استوقفني شكلها الذي صُنع على هيئة يد بشرية، ثم أدركت أن هناك مطرقتين فوق بعضهما، تعجبت، وسألت أمي عن السبب فقالت: (كانت لدروازتنا مطرقة واحدة، لكن والدك أبهرته فنون بغداد، فجلب منها مطرقتين، مثبتاً المطرقة الأكبر في الأعلى للرجال والمطرقة الأصغر أسفل منها للنساء، ليختصر بذلك السؤال عن هُوية الطارق، فكنا نُميّز الطارق رجلاً أم امرأة من صوت المطرقة)... بِتُ أنصت للطَرق، كنت أعرف طرقات أمي الثلاث، وتعرف أمي طرقاتي المتسارعة، كان هناك طَرقٌ مُبشر، وطرقٌ يخلع القلب، طرق هامس مُدلل، وطرق يُشبه كركرة الأطفال».