مبدعون كتبوا روائعهم بين جدران المعتقلات

من بينهم المتنبي والماغوط ودرويش وسرفانتس ووايلد

محمود درويش
محمود درويش
TT

مبدعون كتبوا روائعهم بين جدران المعتقلات

محمود درويش
محمود درويش

«الحبس للرجال» قولٌ شاع في بعض بلدان المشرق العربي إبّان مراحل الاستعمار والانتداب الأجنبي، عندما كان المناضلون من أجل الحريّة والاستقلال يُزَجّون في السجون لتحدّيهم إرادة المستعمرين وقوانينهم. وغالباً ما كانت معتقلات الحكّام «تستضيف» أصحاب الرأي المشاكس أو المعاكس، أو أولئك الذين تُعد أفكارهم خروجاً عن المعتقد السائد أو خطراً على النظام القائم.
لكن الحبس أيضاً «استقبل» شعراء كثيرين وكتاباً وضعوا بين جدرانه كثيراً من روائعهم وأعمالهم الخالدة، أو كانت الإقامة فيه مُلهِمةً لآخرين وجدوا في العزلة القسريّة والاختلاء بالنفس مدخلاً إلى التأمل والإبداع.
كُثُرٌ هم الشعراء العرب الذين أمضوا فترات من حياتهم في السجون. ولا عجب أن يكون أشهرهم أبو الطيب المتنبّي الذي دخله للمرة الأولى في حمص، على يد أميرها لؤلؤ، عندما ادّعى النبوّة، ثم في مصر بأمر من كافور الإخشيدي، حيث ما كاد يُفرَج عنه حتى عاد إلى فخره الذي كان بلا حدود مخاطباً السجن بقوله:
لو كان سُكْنَاي فيكَ مَنْقصَةً
لم يَكُنِ الدُّرُّ ساكِنَ الصَّدَفِ
ومن لا يذكر لاميّة أبي فراس الحمداني الشهيرة التي وضعها وراء قضبان زنزانته، ومطلعها «أقول وقد ناحت بقربي حمامةٌ..».
شعراء الأندلس أيضاً كان نصيبهم من السجون وافراً، وأبرزهم ابن حزم، وابن زيدون الذي رأى نفسه في السجن «نجماً على الأرض لا في السماء.. وقمراً أصابه الخسوف أو شمساً ألمّ بها الكسوف». وفي العصر الحديث، كانت معتقلات الاحتلال الإسرائيلي والسجون العربية مضيافة مع كبار الشعراء، من بدر شاكر السيّاب إلى أدونيس، مروراً بسميح القاسم ومحمد الماغوط ومحمود درويش.
الآداب العالمية قضى كثير من أربابها ردحاً من أعمارهم في السجون، حتى أن بعض الروائع الأدبية شهد النور بين جدران المعتقلات، حيث تفتقّت عبقريّة كثير من كبار الروائيين والشعراء والكتّاب السياسيين.
«الكيخوتي»، إحدى قمم الأدب العالمي، وبين الكتب الخمسة الأكثر رواجاً في التاريخ، بدأ ميغيل دي سرفانتس بوضعه في سجن الجزائر، حيث اقتاده خاطفوه، برفقة شقيقه، عام 1575، بعد أن هاجم القراصنة السفينة التي كان مسافراً على متنها من نابولي عائداً إلى إسبانيا. أمضى سرفانتس خمس سنوات في سجن العاصمة الجزائرية الذي حاول الهرب منه أربع مرّات، قبل أن يُطلَق سراحه، وفيه باشر بوضع رائعته حول مغامرات الفارس الكئيب وخادمه سانتشو.
ومن المؤلفات العالمية ذائعة الصيت، التي لا يكاد يوجد سياسي واحد لا يقتبس منه في الخطب والمهرجانات، «الأمير» لنيكولا ماكيافيلّي، الذي لا تعرف سوى قلّة أنه كتبه في سجن «سان كاسيشتانو»، حيث كان معتقلاً بتهمة التآمر على دوق عائلة «ميديتشي» الحاكمة في فلورانسا. وكان الهدف من وراء وضع ذلك الكتاب، الذي عُثِر على نسخة منه في عربة نابليون بعد هزيمة واترلو، التودد إلى الدوق لكي يعفو عنه، وليس نشر تلك الأفكار التي صارت فيما بعد مرجعاً لأهل الحكم والسياسة.
أدولف هتلر أيضاً بدأ بكتابة مؤلفه المعروف «كفاحي»، الذي قامت عليه الحركة النازّية، في سجن «لاندسبيرغ» عام 1924، عندما كان معتقلاً بتهمة التخطيط لمحاولة الانقلاب الفاشلة في ميونيخ. وقد أمضى أشهراً في ذلك السجن، كرّس معظم وقته خلالها لوضع أفكاره الهدّامة التي ما لبثت أن أدّت إلى نشوب الحرب العالمية الثانية.
ومن الكتاب العالميين الكاتب المسرحي الشاعر أوسكار وايلد، الذي لم تَحُلْ شهرته الواسعة ومكانته المرموقة في العصر الفيكتوري من دخوله السجن بسبب من سلوكه الاجتماعي الفاضح يومذاك، وأمضى عامين معتقلاً يتنقلّ بين بنتونفيل وواندوارث، ثم في سجن ريدينغ، حيث وضع إحدى أجمل مجموعاته الشعرية، بعنوان «De Profundis»، المهداة لصديقه اللورد ألفريد دوغلاس الذي كانت علاقته به سبب اعتقاله.
أما الشاعر الإسباني الكبير ميغيل هرنانديز، فقد كتب أجمل قصائده في سجن «اليكانتي»، حيث توفّي إثر سنوات من الاعتقال والتعذيب على يد نظام الجنرال فرنكو بعد الحرب الأهلية. والكاتب النيجيري وول سوجينكا، الحائز على جائزة نوبل، قضى هو أيضاً سنوات في السجن، قال إنه أمضاها في كتابة الشعر تخفيفاً لوطأة العزلة وظروف الاعتقال الصعبة.
المفكّر والفيلسوف الفرنسي فولتير كان من نزلاء سجن الباستييل الباريسي الشهير أكثر من مرة بسبب انتقاداته للحكومة وللكنيسة الكاثوليكية، وفيه وضع رائعته «أوديب». أما مواطنه الشاعر الكبير «بول فيرلين»، فقد أمضى في السجن سنوات بعد إطلاقه النار في ذروة نوبة غيرة على صديقه الشاعر رامبو الذي أصيب بجراح في يده.
شاعر فرنسي كبير آخر، هو جان جينيه، كانت علاقته بالسجن أقرب إلى علاقة مجرم منها إلى علاقة شاعر. فبعد أن طُرد من الكتيبة الأجنبية بسبب سلوكه، عاد إلى باريس حيث دخل السجن مرات، تارة بتهمة السرقة، وطوراً بتهمة التزوير أو السلوك الاجتماعي الفاضح. وفي السجن، تفتحّت عبقريّة جينيه على كتابة الشعر، وقدّم بعضاً من كتاباته إلى جان كوكتو الذي أُعجب بها إعجاباً شديداً، وساعده على نشرها فيما كان يقضي عقوبة بالسجن المؤبد. ثم تعاون كوكتو مع صديقيه جان بول سارتر وبابلو بيكاسو على توجيه رسالة مشتركة إلى رئيس الجمهورية طلباً للعفو عن جينيه، فتجاوب الرئيس مع طلبهم.
الماركيز دي ساد وضع مؤلفه الشهير «جوستين» في سجن الباستييل. وفي السجون الستالينية، أمضى ألكسندر سولسينيتجين سنوات وضع فيها رائعته «أرخبيل غولاغ»، التي حملته إلى جائزة نوبل. دوستويفسكي أيضاً دخل السجن عام 1849 بتهمة التآمر على القيصر نيكولاس الأول، وحكم عليه بالإعدام، لكن قبل تنفيذ الحكم بلحظات صدر عفو بحقه، وبُدِّلت العقوبة بالسجن 5 سنوات، قال بعدها إنها كانت أخصب سنين حياته.



«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
TT

«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)

يجيب معرض «الجمل عبر العصور»، الذي تستضيفه مدينة جدة غرب السعودية، عن كل التساؤلات لفهم هذا المخلوق وعلاقته الوطيدة بقاطني الجزيرة العربية في كل مفاصل الحياة منذ القدم، وكيف شكّل ثقافتهم في الإقامة والتّرحال، بل تجاوز ذلك في القيمة، فتساوى مع الماء في الوجود والحياة.

الأمير فيصل بن عبد الله والأمير سعود بن جلوي خلال افتتاح المعرض (الشرق الأوسط)

ويخبر المعرض، الذي يُنظَّم في «مركز الملك عبد العزيز الثقافي»، عبر مائة لوحة وصورة، ونقوش اكتُشفت في جبال السعودية وعلى الصخور، عن مراحل الجمل وتآلفه مع سكان الجزيرة الذين اعتمدوا عليه في جميع أعمالهم. كما يُخبر عن قيمته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لدى أولئك الذين يمتلكون أعداداً كبيرة منه سابقاً وحاضراً. وهذا الامتلاك لا يقف عند حدود المفاخرة؛ بل يُلامس حدود العشق والعلاقة الوطيدة بين المالك وإبله.

الجمل كان حاضراً في كل تفاصيل حياة سكان الجزيرة (الشرق الأوسط)

وتكشف جولة داخل المعرض، الذي انطلق الثلاثاء تحت رعاية الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة؛ وافتتحه نيابة عنه الأمير سعود بن عبد الله بن جلوي، محافظ جدة؛ بحضور الأمير فيصل بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»؛ وأمين محافظة جدة صالح التركي، عن تناغم المعروض من اللوحات والمجسّمات، وتقاطع الفنون الثلاثة: الرسم بمساراته، والتصوير الفوتوغرافي والأفلام، والمجسمات، لتصبح النُّسخة الثالثة من معرض «الجمل عبر العصور» مصدراً يُعتمد عليه لفهم تاريخ الجمل وارتباطه بالإنسان في الجزيرة العربية.

لوحة فنية متكاملة تحكي في جزئياتها عن الجمل وأهميته (الشرق الأوسط)

وفي لحظة، وأنت تتجوّل في ممرات المعرض، تعود بك عجلة الزمن إلى ما قبل ميلاد النبي عيسى عليه السلام، لتُشاهد صورة لعملة معدنية للملك الحارث الرابع؛ تاسع ملوك مملكة الأنباط في جنوب بلاد الشام، راكعاً أمام الجمل، مما يرمز إلى ارتباطه بالتجارة، وهي شهادة على الرّخاء الاقتصادي في تلك الحقبة. تُكمل جولتك فتقع عيناك على ختمِ العقيق المصنوع في العهد الساساني مع الجمل خلال القرنين الثالث والسابع.

ومن المفارقات الجميلة أن المعرض يقام بمنطقة «أبرق الرغامة» شرق مدينة جدة، التي كانت ممراً تاريخياً لطريق القوافل المتّجهة من جدة إلى مكة المكرمة. وزادت شهرة الموقع ومخزونه التاريخي بعد أن عسكر على أرضه الملك عبد العزيز - رحمه الله - مع رجاله للدخول إلى جدة في شهر جمادى الآخرة - ديسمبر (كانون الأول) من عام 1952، مما يُضيف للمعرض بُعداً تاريخياً آخر.

عملة معدنية تعود إلى عهد الملك الحارث الرابع راكعاً أمام الجمل (الشرق الأوسط)

وفي حديث لـ«الشرق الأوسط»، قال الأمير فيصل بن عبد الله، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»: «للشركة رسالة تتمثّل في توصيل الثقافة والأصالة والتاريخ، التي يجهلها كثيرون، ويشكّل الجمل جزءاً من هذا التاريخ، و(ليان) لديها مشروعات أخرى تنبع جميعها من الأصالة وربط الأصل بالعصر»، لافتاً إلى أن هناك فيلماً وثائقياً يتحدّث عن أهداف الشركة.

ولم يستبعد الأمير فيصل أن يسافر المعرض إلى مدن عالمية عدّة لتوصيل الرسالة، كما لم يستبعد مشاركة مزيد من الفنانين، موضحاً أن المعرض مفتوح للمشاركات من جميع الفنانين المحليين والدوليين، مشدّداً على أن «ليان» تبني لمفهوم واسع وشامل.

نقوش تدلّ على أهمية الجمل منذ القدم (الشرق الأوسط)

وفي السياق، تحدّث محمد آل صبيح، مدير «جمعية الثقافة والفنون» في جدة، لـ«الشرق الأوسط» عن أهمية المعرض قائلاً: «له وقعٌ خاصٌ لدى السعوديين؛ لأهميته التاريخية في الرمز والتّراث»، موضحاً أن المعرض تنظّمه شركة «ليان الثقافية» بالشراكة مع «جمعية الثقافة والفنون» و«أمانة جدة»، ويحتوي أكثر من مائة عملٍ فنيّ بمقاييس عالمية، ويتنوع بمشاركة فنانين من داخل المملكة وخارجها.

وأضاف آل صبيح: «يُعلَن خلال المعرض عن نتائج (جائزة ضياء عزيز ضياء)، وهذا مما يميّزه» وتابع أن «هذه الجائزة أقيمت بمناسبة (عام الإبل)، وشارك فيها نحو 400 عمل فني، ورُشّح خلالها 38 عملاً للفوز بالجوائز، وتبلغ قيمتها مائة ألف ريالٍ؛ منها 50 ألفاً لصاحب المركز الأول».

الختم الساساني مع الجمل من القرنين الثالث والسابع (الشرق الأوسط)

وبالعودة إلى تاريخ الجمل، فهو محفور في ثقافة العرب وإرثهم، ولطالما تغنّوا به شعراً ونثراً، بل تجاوز الجمل ذلك ليكون مصدراً للحكمة والأمثال لديهم؛ ومنها: «لا ناقة لي في الأمر ولا جمل»، وهو دلالة على أن قائله لا يرغب في الدخول بموضوع لا يهمّه. كما قالت العرب: «جاءوا على بكرة أبيهم» وهو مثل يضربه العرب للدلالة على مجيء القوم مجتمعين؛ لأن البِكرة، كما يُقال، معناها الفتيّة من إناث الإبل. كذلك: «ما هكذا تُورَد الإبل» ويُضرب هذا المثل لمن يُقوم بمهمة دون حذق أو إتقان.

زائرة تتأمل لوحات تحكي تاريخ الجمل (الشرق الأوسط)

وذُكرت الإبل والجمال في «القرآن الكريم» أكثر من مرة لتوضيح أهميتها وقيمتها، كما في قوله: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ» (سورة الغاشية - 17). وكذلك: «وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ» (سورة النحل - 6)... وجميع الآيات تُدلّل على عظمة الخالق، وكيف لهذا المخلوق القدرة على توفير جميع احتياجات الإنسان من طعام وماء، والتنقل لمسافات طويلة، وتحت أصعب الظروف.