هل يمضي الفن البشري إلى نهايته؟

بينما العالم غارق في المماحكات السياسية والأخبار العاجلة، تحلقت مجموعة من خبراء الفنون التشكيلية وجامعي اللوحات في صالة كريستي الفارهة للمزادات بنيويورك، حول ما اعتبر أول عمل فني أنتجته ووقعته لوغاريتمات الذكاء الصناعي. وبرغم تثمينات الخبراء المتدنية للقيمة المادية التي قد يجنيها هذا العمل المنسوب زوراً إلى الفن، فإنه فاجأ الجميع عندما بيع بـ432.500 دولار أميركي لحظة اعتلائه المنصة في مزاد عام علني وكأنه طاووس متبختر، مما أثار جدالات واسعة بين الأكاديميين والمعنيين معيداً طرح الأسئلة الأولى عن معنى العمل الفني من حيث المبدأ: أين يبدأ الفن وأين ينتهي، وما الذي يجعل شيئاً مادياً عملاً يستحق التبجيل وربما المتاجرة بقيمة مفترضة له في أسواق الفن العالمية.
اللوحة المعروضة في إطار فخم سميت بـ«إدموند دي بيلامي»، أنتجتها شركة فرنسية صغيرة تبيع كثيراً من أعمالها «اللوغاريتمية» مباشرة للمقتنين، لم تثر في بداية المزاد كبير حماس بين جامعي اللوحات التقليديين، الذين رأوا فيها عملاً دون المستوى لا يستحق الاستثمار قبل أن تحقق ذلك الرقم الخيالي. لكن أشد الانتقادات جاءت من أجواء منتجي الأعمال الفنية عبر تقنيات الذكاء الصناعي - فنانين وأكاديميين - الذين اعتبروا أن دار كريستي للمزادات أقدمت على مغامرة غير محسوبة بعرضها لعمل بدائي المستوى أنتج من قبل لوغاريتمات بسيطة متوفرة في المجال العام ويمكن أن يستخدمها طالب مدرسة نابه، ضاربة بعرض الحائط أعمالاً أكثر تعقيداً اعتمدت على قدرات متقدمة للذكاء الصناعي وقعها فنانون عالميون معروفون. ولم تلجأ الدار في تصريحات أدلى بها أمين المزاد للصحافة الأميركية إلى الدفاع عن اختيارها غير الموفق أقله من الناحية الأكاديمية، معتبرة أنها كانت مجرد تجربة لاستكشاف ردود أفعال السوق، وأنها لوحة واحدة عرضت مع عدة مئات من اللوحات التقليدية التي رسمها فنانون من البشر. تعتمد الأعمال التي تنتجها اللوغاريتمات على منظومات ذكاء اصطناعي متطور تستعرض مجموعة من الأعمال الفنية يختارها مشغل المنظومة ومن ثم تنتج عملاً على نسقها جميعاً معاً. ويبدو أن اللوحة التي عرضتها كريستي للمزادات شبيهة بأسلوب الفنان الشهير رامبراندت وزيتيات القرن السابع عشر تحديداً رغم أن الشركة الفرنسية تقول إن برنامج اللوغاريتمات اطلع على آلاف البورتريهات التي رُسمت خلال عدة مئات من السنوات بين القرنين الرابع عشر والعشرين.
وبالتأكيد، فإن دار كريستي التي هي درة الفن الرأسمالي النيوليبرالي المعولم ومثيلاتها لن تتوانى عن الترويج أو المتاجرة بأعمال كهذه منسوبة للفن ما دامت تدر أرباحاً، وهي عرضت في مناسبات سابقة أعمالاً توافق البعض على قبول تصنيفها تحت لافتة الفن أنتجت باستعمال تقنيات ذكاء اصطناعي معقدة تقدم تجربة بصرية تمزج بين الفيديو الرقمي والواقع الافتراضي وقعتها أسماء فنانين عالميين. لكن «إدموند دي بيلامي» برمزيتها كأول عمل يخترق قلاع تجارة الفن التقليدي فيُطبع ويوضع في إطار فخم تبدو بمثابة بوابة أخرى تتهاوى أمام زحف الذكاء الصناعي الذي لم يعد ممكناً إيقاف سيوله في مجالات الحياة المختلفة، وهو اليوم قادر نظرياً على ابتلاع آلاف المقطوعات الموسيقية ومن ثم تلحين شيء على نسقها، كما يمكنه موازاة النصوص ومعرفة نسبة تأثر بعضها ببعض، ولا يستبعد أن ينتج نصوصه الخاصة المستوحاة مما يَقرأ سواء في الشعر - أقله نماذجه الحديثة - أو في نتاجات أدبية أخرى تليق بمتلقي المعلومات على أدوات الميديا المعاصرة ومنصات التواصل الاجتماعي.
لا شك بأننا نعيش أزمنة تشهد تحولات ثورية متسارعة يقودها الذكاء الصناعي وستكون لها في وقت قصير تأثيرات هائلة على مناحي النتاج البشري كافة بما فيها الفنون التشكيلية، وستغير على نحو دراماتيكي الطريقة التي نفهم بها العالم من حولنا، وستعيد تعريف الإبداع والخبرة البصرية بطريقة مختلفة تماماً عما عهدناه في آلاف السنين الأخيرة من عيشنا على هذا الكوكب، وهي تحولات لا يمكن مواجهتها بالتجاهل أو الاستغراب، إذ إنها ما تلبث تتوسع وتنتشر وتمسك بزمام المزيد من أدوات التعبير الإنساني على نحو يصعب الرجوع عنه.
لكن هذا التقدم الفائر المتدفق - إذا توافقنا على وصفه بالتقدم - يأتي محملاً بمخاطر كلية وجودية الطابع ليست مقتصرة على الفن بوصفه أرقى التعبيرات عن تجربة العيش البشري. الأمر الذي يدركه مطورو الذكاء الصناعي أنفسهم قبل جميع الآخرين، وحفز مجموعة رائدة منهم للتلاقي فيما أسموه أكاديمية مستقبل الأتمتة، للتداول والتحذير من الأبعاد الديستوبية الطابع التي قد تترافق مع تعاظم دور الذكاء الصناعي في إدارة المجتمعات البشرية المعاصرة كالرقابة، وتصنيع الأخبار الكاذبة، والإيحاء بالأوهام البصرية، والتلاعب بعقول المجموعات البشرية.
وجه المخاطرة هنا يتأتى من حقيقة أن صناعة تطوير الذكاء الصناعي تخضع بشكل شبه كامل لسلطان أنظمة وشركات رأسمالية الطابع لا يبدو أنها تمتلك من الأدوات التشريعية والتنظيمية أو الروادع الأخلاقية أو النظرية مما يمنعها من إساءة استخدام تطبيقات الذكاء الصناعي لتحقيق أهدافها في استدامة الهيمنة على مقدرات العالم أو تعظيم الأرباح، الأمر الذي يعني حتمية تحول هذا الذكاء بشكل أو بآخر إلى خادم لمجموعات نخبوية على حساب المجموع البشري، وهذه مخاطرة واقعية وخطر ماثل لا تستدعي مرجعيات يسارية أو يمينية للبحلقة فيها رأي العين.
الوجه الآخر للمخاطرة يتأتى من حقيقة أن التحولات الجذرية التي تعصف متسارعة بالطرائق المألوفة لنوعنا البشري في استيعاب العالم لا ترافقها تطورات موازية في إنتاج الدراسات النظرية، والأفكار الفلسفية التي لا بد منها لوضع تلك التصورات عن العالم داخل أنساق تكسبها معانٍ تاريخية أو أطراً معرفية. وليس انعزال الفلسفة المعاصرة في أبراجها الأكاديمية العاجية اليوم وتحولها إلى مجرد فرع نظري جاف آخر من العلوم الإنسانية - وهي السياسة التي تسببت بها جهود متراكمة لذات المنظومة الرأسمالية عبر عقود - سوى جزء من المشكلة. إذ إن بنيوية التسارع المتصاعد في طاقة الذكاء الصناعي تجعل التنظير والتفلسف بشأنها أمراً شبه مستحيل، وهي الأنشطة المرتبطة أساساً بقدرة البشر على التأمل الهادئ لمسارات تقدم الأحداث عبر فترات طويلة نسبياً من الزمن لم تعد متوفرة للفلاسفة المعاصرين. وهكذا يخطو بنا الذكاء الصناعي (ومن يقوده إلى الآن على الأقل) خطوات جبارة في المجهول دون امتلاكنا أي أدوات تساعدنا في استيعاب وتنظيم وإعادة تكوين تصوراتنا عن العالم والحياة.
ويتوحد وجها المخاطرة هذه في كونهما يلتقيان على قطع سريع ومفاجئ مع أوجه التجربة البشرية في الإبداع الفني بأشكاله والقائم أساساً على تجربة بصرية متراكمة وإحساس فردي محض، فتضمحل تلك السلسلة المتصلة عبر آلاف السنين من المهارة البشرية في الموسيقى والرسم والعمارة وخطوط الكتابة والنحت وغيرها لمصلحة التقنيات الرقمية واللوغاريتمات التي ستحتكر بشكل متزايد طرائق إنتاج تلك الفنون وعرضها. الشركة الفرنسية التي تدير اللوغاريتمات المنتجة لـ«إدموند دي بيلامي»، ومشتري اللوحة المنسوبة ظلماً إلى الفن بـ432.500 دولار أميركي ودار كريستي للمزادات، شركاء ساذجون ثلاثة، لكنهم شرعوا متضامنين في إطار سعيهم الحثيث لتعظيم الربح، بوابة رمزية ستتدفق من ورائها أزمنة وتنانين ومتاهات لا ندري إلى أين ستمشي بنا في القادم من الأيام. إنها الرأسمالية التي تتغذى على النوع البشري ولا تشبع.