تحقيقات الأنساب الجينية تنجح في حل الجرائم السابقة

نجحت السلطات الأميركية المختصة منذ أبريل (نيسان) الماضي، في حلّ 15 قضية لجرائم قتل واغتصاب بمساعدة موقع واحد متخصص في علم الأنساب. وبهذا تحوّل موقع «جي إي دي ماتش» من مشروع جانبي عادي للأنساب العائلية إلى أداة ثورية للكشف عن جرائم سابقة.
- جرائم سابقة
في ليلة الهالويين (31 أكتوبر «تشرين الأول») من عام 1996، قرع رجل يرتدي قناع هيكل عظمي باب منزل في منطقة مارتينز، كاليفورنيا، وقيّد يدي المرأة التي رحّبت به، ثم اغتصبها. وبعد أسبوعين، هاتف المجرم عيادة طبّ الأسنان التي كانت الضحية تعمل فيها. حاول المحققون أن يتعقّبوه من خلال سجلات الهاتف، ولكنّهم لم يصلوا إلى نتيجة. كما أنّهم ورغم حصولهم على بقايا من سائله المنوي، لم يجدوا تطابقاً بين حمضه النووي، وبين الأحماض النووية المخزونة في أي قاعدة بيانات جنائية.
وفي شهر سبتمبر (أيلول) الفائت، أي بعد نحو عقدين على الجريمة، جرّب مكتب المدّعي العام في مقاطعة ساكرامنتو شيئاً جديداً لفكّ لغز قضية هذا المغتصب المتسلسل الذي هاجم 10 نساء على الأقلّ في منازلهن. إذ حوّل المحققون حمض المعتدي النووي إلى ملف شخصي من النوع الذي ترتكز عليه مواقع التاريخ العائلي كـ«23 أند مي» (الذي يوفر تحاليل للجينات)، وحمّلوه في موقع «جي إي دي ماتش. كوم GEDmatch»، الجانبي المفتوح للجميع والمحبوب من قبل الباحثين المتخصصين في علم الأنساب الذين يسعون للعثور على أقرباء بيولوجيين أو إلى رسم صورة واضحة للأشجار العائلية.
وخلال الدقائق الخمس الأولى من الاطلاع على النتائج، تمكّن المحقّقون من تحديد واحد من أقرباء الجاني من بين ملايين الملفات الموجودة في قاعدة البيانات. وخلال ساعتين، أصبح لديهم مشتبه به، تمّ اعتقاله بعد وقت قصير، هو روي تشارلز والر، المتخصص في السلامة في جامعة كاليفورنيا، بيركلي.
هذا الاعتقال كان المرة الخامسة عشرة التي يوفّر فيها موقع «جي إي دي ماتش» أدلّة أساسية قادت إلى مشتبه به في قضية جريمة قتل أو اعتداء جنسي، بدءاً من اعتقال جوزيف جايمس دي آنجلو في أبريل، وهو شرطي سابق ارتكب جرائم قتل واغتصاب في أنحاء كاليفورنيا بين السبعينات والثمانينات والمعروف بـ«قاتل الولاية الذهبي».
- موقع عائلي
ولكنّ أحداً لم يفاجأ بهذه النتائج أكثر من مؤسسَي الموقع رجل الأعمال المتقاعد كورتيس رودجرز (80 عاماً)، ومهندس المواصلات جون أولسون (67 عاماً) من تكساس. فقد أحدث موقعهما الصغير، الذي بدأ كمشروع جانبي، بشكل غير متعمّد، تحوّلاً في الطريقة التي يعتمدها المحققون في جميع أرجاء البلاد لحلّ أكثر القضايا القديمة.
وتشير دراسة حديثة نشرتها دورية «ساينس»، إلى أنّه سيكون بالإمكان خلال ثلاث سنوات، التعرّف على الحمض النووي الخاص بكلّ أميركي متحدّر من أصول شمالية أوروبية (وهم الشريحة الأكثر استخداماً للموقع) من خلال أقارب لهم موجودين في قاعدة بيانات «جي إي دي ماتش».
وقال رودجرز الذي انجرّ إلى البحث في علم الأنساب من خلال تفتيشه عن تاريخ عائلته، في حديث إلى وسائل إعلام أميركية: «إن الطريقة التي تطوّرت بها الأمور شكّلت صدمة لنا جميعاً. فجّأة، برزت كلّ هذه الشهرة». ووافقه أولسون الرأي.
منذ اعتقال آنجلو، أخذت المؤسسات المسؤولة عن إنفاذ القانون من واشنطن وصولاً إلى فلوريدا، تلجأ إلى هذا الموقع لحلّ قضايا باردة حصلت قبل عقود من الزمن. كما أنّها بدأت تعتمد عليه بشكل متزايد لحل القضايا الحديثة.
في البداية، شعر السيد رودجرز بالغضب من استخدام المؤسسات المسؤولة عن إنفاذ القانون موقعه الذي يقع مقرّه في لايك وورث في فلوريدا، لكنه الآن يشعر بالفخر.
وقال: «أظنّ أنّه خلال سنة سيصبح مقبولاً على نطاق واسع». وجد بعض علماء الأنساب أنّ فكرة القبول هذه مثيرة للجدل بعد خروج الكثير من المسائل المرتبطة بالأخلاقيات والخصوصية إلى الضوء إثر اعتماد المحققين على موقع متخصص في الشجرة العائلية تملكه جهة خاصة لحلّ الجرائم.
- الأنساب وتحديد الهوية
ويشير تحليلان حديثان قدمهما باحثون متخصصون في علم الوراثة إلى أنّ قاعدة بيانات الموقع تستخدم اليوم لتحديد هوية 60 في المائة على الأقلّ من الأميركيين المتحدرين من أصول أوروبية عن طريق أقاربهم.
ولكنّ على عكس «23 أند مي» ومواقع أخرى كبيرة متخصصة في الجينات وفي علم الأنساب، لا يملك «جي إي دي ماتش» مختبراً، بل يقدّم خدماته كمكتب صغير يستطيع الأشخاص الذين حللوا حمضهم النووي في مكان آخر، من خلاله أن يحددوا مواقع أقارب لهم وأن يغوصوا بعمق أكبر للتعرّف على أصولهم.
يتوزّع مستخدمو «جي إي دي ماتش» على الشكل التالي: بعض المهووسين بالأشجار العائلية الذين يجمعون أقاربهم كما يجمع آخرون بطاقات اللعب، وبعض آخر من المتقاعدين الذين يبحثون عميقاً في غموض عائلاتهم، بالإضافة إلى بعض علماء الأنساب الذين يساعدون أشخاصاً تمّ تبنيهم في العثور على آبائهم البيولوجيين.
استخدم نحو 10000 شخص هذا الموقع لهذه الغاية على مدار السنوات الثماني الماضية، بسب ما أفاد باحثان يساعدان الناس في تعلّم كيفية القيام بأبحاث مشابهة.
تحتوي قواعد البيانات الخاصة بعلم الأنساب على أكثر من 17 مليون ملف حمض نووي، ولكنّ غالبية المواقع الكبرى تضع قيوداً على ما يمكن نشره، إذ إنها لا تمنع نشر الأدلة من مسارح الجرائم فحسب، بل تمنع نشر أي شيء تمت معالجته في مختبر خارجي أيضاً. إلّا أنّ موقع «جي إي دي ماتش» يقبل بكلّ ما يقدّم له... من عينة الدمّ المحلّل في مختبر غامض، إلى اللعاب المعالج في مختبرات «23 أند مي»، مجاناً، ما دام الملف كان مقدماً بالصيغة الصحيحة.
- مهارة المحققين
وفي معظم الأحيان، يستطيع محقق جيني ماهر تركيب صورة لهوية فرد معيّن عبر تطابق البيانات الجينية التي تحتفظ بها الشرطة مع قريب من الدرجة الثالثة يعثر عليه من بين ملايين الملفات الشخصية المتوافرة في الموقع. وتَعتبر باربرا راي - فينتر، عالمة أنساب جينية استخدمت الموقع للمساعدة في حلّ قضية «قاتل الولاية الذهبي»، «أنّه لا يوجد موقع آخر مثل (جي إي دي ماتش)».
إن استخدام «جي إي دي ماتش» بهذه الطريقة ليس سهلاً. إذ إن معظم المحققين الذين يحمّلون دلائل من مسارح الجريمة في الموقع يضطرون إلى طلب المساعدة من علماء أنساب مهرة كالدكتورة راي - فينتر.
ويعد الحمض النووي هو الدليل الأول فقط؛ وبعده، يجب ملء الشجرة العائلية بأنواع أخرى من البيانات كملفات مواقع التواصل الاجتماعي وسجلات الولادة.
ورغم ذلك، يستطيع الأشخاص المهرة في هذا المجال تحديد هوية مشتبه به في قضية قتل أو العثور على الآباء البيولوجيين لشخص متبنَّى في أقلّ من يومين.
وتملك المؤسسات المعنية بإنفاذ القانون قاعدة بياناتها الخاصة للتحقيقات الجنائية تُعرف باسم «كوديس»، التي تحتوي على أكثر من 16 مليون ملف حمض نووي شخصي. ولكن الملفات الجنائية تحتوي على جزء صغير فقط من مئات آلاف العلامات الجينية التي تعتمد عليها المواقع المتخصصة في الأنساب.
وفي حال عجز المحققون عن العثور على تطابق دقيق في «كوديس»، يصبح تعقب المشتبه بهم عن طريق أقاربهم عبر موقع «جي إي دي ماتش» الخيار التالي.