تونس تحت هاجس «الخلايا الإرهابية النائمة» مجدداً

إثر الهجوم الانتحاري الأخير في العاصمة

وجود أمني بشارع الحبيب بورقيبة بوسط العاصمة التونسية عقب الهجوم الانتحاري الأسبوع الماضي (رويترز)
وجود أمني بشارع الحبيب بورقيبة بوسط العاصمة التونسية عقب الهجوم الانتحاري الأسبوع الماضي (رويترز)
TT

تونس تحت هاجس «الخلايا الإرهابية النائمة» مجدداً

وجود أمني بشارع الحبيب بورقيبة بوسط العاصمة التونسية عقب الهجوم الانتحاري الأسبوع الماضي (رويترز)
وجود أمني بشارع الحبيب بورقيبة بوسط العاصمة التونسية عقب الهجوم الانتحاري الأسبوع الماضي (رويترز)

خلافاً للهجة التطمين التي اعتمدتها الأجهزة التونسية الرسمية حول سيطرتها على الوضع الأمني واستباق العمليات الإرهابية والقبض على المنتسبين للتنظيمات الإرهابية قبل الشروع في مخططات إرهابية وتراجع المخاطر الإرهابية، فإن تنفيذ عملية إرهابية بالشارع الرئيسي للعاصمة التونسية أعاد التساؤل إلى البداية وبلغة أكثر حدة حول حقيقة التنظيمات الإرهابية، وهل أن ما يتم القبض عليهم من عناصر، وتفكيك لخلايا وشبكات إرهابية بين الحين والآخر يمثل حقيقة ظاهرة الإرهاب والحاضنة الاجتماعية للإرهابيين في المجتمع التونسي.

في حين يعتبر الكثير من المتابعين للوضع الأمني في تونس أن ما يظهر على سطح الأحداث لا يعكس ما يدور داخل المجتمع التونسي من تفاعلات واجتذاب التنظيمات الإرهابية فئات شابة من التونسيين، كثيراً ما تظهر خلال التحقيقات الأمنية من خلال الإسناد وتقديم المعلومات حول تحركات أجهزة الأمن والجيش وإيصال الغذاء والأغطية بمقابل مالي إلى الإرهابيين المتحصنين في الجبال الغربية لتونس. وكل هذه المعطيات تؤكد أن الخلايا الإرهابية النائمة في تونس مستيقظة في حقيقة الأمر، وغالباً ما تظهر نتائج عملها من خلال عمليات إرهابية خفت قليلاً خلال السنتين الماضيتين، لكنها ما زالت تمثل تهديداً كبيراً على استقرار تونس وأمنها.

انتحارية شارع بورقيبة

وبعد تجنيد التنظيمات الإرهابية التي أوجدت لها مكاناً واستقراراً في تونس، الشباب من الرجال جاء الدور على الفئات النسائية وهو ما ترجمته الإرهابية منى قبلة يوم 27 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، من خلال هجوم إرهابي بشارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة التونسية على بعد أمتار من مقر وزارة الداخلية التونسي، وقد أسفر الهجوم عن إصابة 15عنصراً أمنياً وخمسة مدنيين، من بينهم طفلان، بجراح متفاوتة الخطورة.
ولعل إشارة مصادر الأمن في تونس إلى أن منفذة الهجوم الانتحاري ليست مسجلة في قوائم الأشخاص المتهمين بالإرهاب، يرجح فرضية انتمائها إلى «الخلايا الإرهابية النائمة». وما زالت التساؤلات تحوم حول هذه الانتحارية؛ إذ إن عائلتها والجيران والأصدقاء المقربين منها استغربوا تنفيذها عملاً إرهابياً، وبدت عبارات الاستغراب مكررة على أفواههم.
وما جعل الغموض يلف هذه العملية الانتحارية أكثر، أن سفيان السليطي، المتحدث باسم القطب القضائي لمكافحة الإرهاب، قد أكد في تصريح إعلامي على أن أجهزة الأمن التونسية المختصة في مكافحة الإرهاب، لم تلقِ القبض على أي عنصر إرهابي على صلة بالعملية الإرهابية التي نفذتها الإرهابية التونسية منى قبلة.
في هذا الشأن، تقول المحللة السياسية التونسية آسيا العتروس: إن أغلب ما دوّن عن الإرهابيات والانتحاريات طوال عقد ونصف العقد من الزمن كان باللغة الإنجليزية التي تتقنها الإرهابية منى قبلة. وقد تكون اهتمامات الانتحارية التونسية قد بدأت من خلال متابعتها عناصر إرهابية نسائية انتمين في الغرب إلى التنظيمات الإرهابية، وضمنت شهادات حول مشاركتهن ضمن تلك التنظيمات من خلال اللغة الإنجليزية. وأشارت العتروس إلى شهادة والدة الانتحارية التونسية واتخاذها قراراً ببيع بعض أشجار الزيتون لاقتناء حاسوب، حتى تواصل ابنتها بحوثها العلمية وإعداد رسالة ماجستير في اختصاصها.
ومع ما تقدمه العائلات من تحاليل ومعلومات حول نمط عيش من نفذوا عمليات إرهابية، فإن الواقع يؤكد على وجود حاضنة اجتماعية وبيئة مناسبة لدخول الأفكار المتطرفة إلى أذهان الشباب التونسي، وتؤكد على أن العائلة والأبناء غالباً ما يكون كل طرف منهما يعيش في عالم منعزل عن الآخر؛ فانغماس الأبناء وهجرتهم لأفراد العائلة لأشهر متتالية، من بين المؤشرات على حصول تغييرات على شخصية المرشح للانضمام إلى التنظيمات الإرهابية.
ورجّح مختصون في الجماعات الإرهابية في تونس، على غرار علية العلاني وفيصل الشريف، أن تكون الانتحارية من الخلايا الإرهابية النائمة المتعاطفة مع التيارات المتطرفة الداعمة لتنظيم داعش الإرهابي أو تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب العربي».
وأشاروا إلى أن تونس تنتشر بها ما بين 300 و400 خلية «إرهابية نائمة»، وقد تم إلقاء القبض على كثير منها خلال السنوات الماضية، وللتأكيد على رجاحة هذه المقاربة أكدوا أن تنظيم «أنصار الشريعة» الذي يتزعمه التونسي «أبو عياض» سيف الله بن حسين، جمع ما لا يقل عن 40 ألف مناصر خلال تنظيم ملتقى له في مدينة القيروان سنة 2012، وأن المتعاطفين مع هذا التنظيم قد اندثروا إثر حظر أنشطته بالكامل في تونس وتصنيفه ضمن التنظيمات الإرهابية، لكن أين ذهبوا وهل تراجعوا فعلياً عن أفكارهم المتطرفة، أم أنهم خيروا الصمت والسبات ضمن الخلايا الإرهابية النائمة أو المستيقظة على وجه الدقة؟
في هذا السياق، قال علية العلاني، الخبير التونسي في الجماعات الإرهابية: إن العملية التي عرفتها العاصمة التونسية تحمل بصمات تنظيم داعش الإرهابي، لكن قد تحصل المفاجأة ونجد من نفذتها غير مدرجة في ضمن أي تنظيم إرهابي وعملت بمفردها ضمن ما يعرف بالذئاب المنفردة بعد أن قضت فترة طويلة تتشبع بالأفكار المتطرفة لتلك التنظيمات.
وأكد على أن الهجوم الانتحاري الذي جد قبل أيام في الشارع الرئيسي للعاصمة سيدفع السلطات الأمنية إلى إدخال تعديل جذري على أساليب عمل المخابرات التونسية، فقد استطاعت الإرهابية التنقل من مدينة إلى أخرى (نحو 280 كلم من المهدية إلى العاصمة التونسية)، وحملت معها مواد متفجرة على مسافة كبيرة من مكان إقامتها على مقربة من مكان الهجوم (باب سويقة، وفق التحريات الأولية) وصولاً إلى شارع بورقيبة دون أن تنتبه إليها السلطات الأمنية.
وأشار إلى ضرورة تحديث سجلات الأشخاص المتهمين بالإرهاب؛ فقد اتضح أن التنظيمات الإرهابية باتت تعتمد على أشخاص غير مسجلين؛ وهو ما يستدعي بذل جهود إضافية لإدراج المشتبه بهم الجدد ضمن سجلات المتهمين بالإرهاب، وسد النقص الذي قد يكون حصل خلال السنوات الأخيرة، على حد قوله.

محاصرة الأفكار المتطرفة

ووجدت هذه الأفكار المتطرفة طريقها إلى الشباب التونسي بصفة واضحة منذ بداية هذا القرن، وهو ما كان مطية لسنّ قانون مكافحة الإرهاب من قبل النظام السياسي السابق وبالتحديد سنة 2003، لكن طريقة تعامل نظام الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي مع التيارات المتطرفة، على وجه العموم كانت معتمدة على المحاصرة والتضييق وتجفيف المنابع، وقد اتضح أن تلك الطريقة لم تعطِ نتائج إيجابية؛ إذ عرفت تونس هجوماً إرهابياً كان فارقاً في التعامل مع المجموعات الإرهابية ونعني به «أحداث سليمان» الإرهابية التي جدت نهاية سنة 2006، وأشارت إلى وجود تطورات كبرى على مستوى مواجهة السلطة القائمة؛ وذلك بالاعتماد على حمل السلاح في وجه الدولة.
في هذا الشأن، أكد سمير بن عمر، المحامي التونسي المختص في الجماعات الأصولية، على أن النظام السابق زج بنحو ثلاثة آلاف شاب تونسي في السجون، وفي بعض الحالات لمجرد الشبهة، وقلصت هذه السياسة من قوة تلك التنظيمات المتطرفة، لكنها لم تقض عليها وتحولت طوال حكم بن علي إلى «خلايا نائمة» تنتظر الوقت المناسب للاستيقاظ، وكانت ثورة 2011، وظهور مفهوم الفوضى الخلاقة مناسبة لإطلاق عنان تلك المجموعات التي تحولت إلى تنظيمات دموية.
وراجعت السلطة التونسية قانون 2003 المتعلق بمكافحة الإرهاب، وأصدرت سنة 2015 قانوناً جديداً لمكافحة لإرهاب، وضمنته عقوبة الإعدام ضد المتهمين بالإرهاب ممن أدت أعمالهم إلى مقتل أشخاص، لكن ذلك لم يغير الكثير من خريطة الالتحاق بالتنظيمات الإرهابية؛ فنحو ثلاثة آلاف تونسي التحقوا بها وفق إحصائيات حكومية رسمية.

الحاضنة الاجتماعية

واعتبر أكثر من عالم اجتماع، على غرار منيرة الرزقي وفاتن مبارك، أن السلطات التونسية مطالبة بصفة عاجلة بالبحث عن الأسباب المؤدية لدخول الشباب التونسي إلى عالم الإرهاب وأن تبحث في الوقت ذاته عن الحاضنة الاجتماعية للإرهاب فبعض العائلات التونسية - وهذا من باب المفارقة - لا تنظر إلى العملية الإرهابية على أنها إرهاب يجب مقاومته وعدم السكوت عنه، بل بكونها عملية «استشهاد»؛ وهو ما يجعل ميزان النظر إلى ظاهرة الإرهاب مختلفاً بين أفراد يعيشون على الأرض نفسها ويحملون التاريخ نفسه.
وخلال السنوات الماضية، لم تتوانَ التنظيمات الإرهابية المختلفة عن استقطاب الشباب التونسي؛ مما جعله في مراتب أولى في الالتحاق بتنظيم داعش الإرهابي واحتلاله مناصب قيادية في هذا التنظيم. وعلى المستوى المحلي، وبشأن عدد المتهمين في قضايا إرهابية ويقبعون في السجون التونسية، فقد أكد سفيان السليطي، المتحدث باسم القطب القضائي لمكافحة الإرهاب، على أن العدد الإجمالي في حدود 1500 متهم بالإرهاب. وتشير جمعية آفاق للأمن والديوانة (جمعية مستقلة) إلى أن نحو ألف شاب تونسي على الأقل يتم استقطابهم من قبل المجموعات الإرهابية.
وتشير إحصائيات بعض مراكز الدراسات المهتمة بقضايا الإرهاب إلى أن نحو 32 في المائة من المتهمين بالإرهاب هم من بين طلبة الجامعات وتلاميذ المدارس، وتتوزع نسبة الإرهابيين التونسيين الملتحقين بالتنظيمات الإرهابية على العاصمة التونسية (32 في المائة)، ومن مناطق الساحل التونسي (28 في المائة)، ومن الجنوب (23 في المائة)، ونحو 9 في المائة من الوسط، وينحدر نسبة 8 في المائة من الشمال التونسي؛ وهو ما يجعل مختلف مناطق تونس عرضة لتأثيرات التنظيمات الإرهابية، ولا توجد منطقة بعينها في منأى عن سهام ظاهرة الإرهاب.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.