تونس تحت هاجس «الخلايا الإرهابية النائمة» مجدداً

إثر الهجوم الانتحاري الأخير في العاصمة

وجود أمني بشارع الحبيب بورقيبة بوسط العاصمة التونسية عقب الهجوم الانتحاري الأسبوع الماضي (رويترز)
وجود أمني بشارع الحبيب بورقيبة بوسط العاصمة التونسية عقب الهجوم الانتحاري الأسبوع الماضي (رويترز)
TT

تونس تحت هاجس «الخلايا الإرهابية النائمة» مجدداً

وجود أمني بشارع الحبيب بورقيبة بوسط العاصمة التونسية عقب الهجوم الانتحاري الأسبوع الماضي (رويترز)
وجود أمني بشارع الحبيب بورقيبة بوسط العاصمة التونسية عقب الهجوم الانتحاري الأسبوع الماضي (رويترز)

خلافاً للهجة التطمين التي اعتمدتها الأجهزة التونسية الرسمية حول سيطرتها على الوضع الأمني واستباق العمليات الإرهابية والقبض على المنتسبين للتنظيمات الإرهابية قبل الشروع في مخططات إرهابية وتراجع المخاطر الإرهابية، فإن تنفيذ عملية إرهابية بالشارع الرئيسي للعاصمة التونسية أعاد التساؤل إلى البداية وبلغة أكثر حدة حول حقيقة التنظيمات الإرهابية، وهل أن ما يتم القبض عليهم من عناصر، وتفكيك لخلايا وشبكات إرهابية بين الحين والآخر يمثل حقيقة ظاهرة الإرهاب والحاضنة الاجتماعية للإرهابيين في المجتمع التونسي.

في حين يعتبر الكثير من المتابعين للوضع الأمني في تونس أن ما يظهر على سطح الأحداث لا يعكس ما يدور داخل المجتمع التونسي من تفاعلات واجتذاب التنظيمات الإرهابية فئات شابة من التونسيين، كثيراً ما تظهر خلال التحقيقات الأمنية من خلال الإسناد وتقديم المعلومات حول تحركات أجهزة الأمن والجيش وإيصال الغذاء والأغطية بمقابل مالي إلى الإرهابيين المتحصنين في الجبال الغربية لتونس. وكل هذه المعطيات تؤكد أن الخلايا الإرهابية النائمة في تونس مستيقظة في حقيقة الأمر، وغالباً ما تظهر نتائج عملها من خلال عمليات إرهابية خفت قليلاً خلال السنتين الماضيتين، لكنها ما زالت تمثل تهديداً كبيراً على استقرار تونس وأمنها.

انتحارية شارع بورقيبة

وبعد تجنيد التنظيمات الإرهابية التي أوجدت لها مكاناً واستقراراً في تونس، الشباب من الرجال جاء الدور على الفئات النسائية وهو ما ترجمته الإرهابية منى قبلة يوم 27 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، من خلال هجوم إرهابي بشارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة التونسية على بعد أمتار من مقر وزارة الداخلية التونسي، وقد أسفر الهجوم عن إصابة 15عنصراً أمنياً وخمسة مدنيين، من بينهم طفلان، بجراح متفاوتة الخطورة.
ولعل إشارة مصادر الأمن في تونس إلى أن منفذة الهجوم الانتحاري ليست مسجلة في قوائم الأشخاص المتهمين بالإرهاب، يرجح فرضية انتمائها إلى «الخلايا الإرهابية النائمة». وما زالت التساؤلات تحوم حول هذه الانتحارية؛ إذ إن عائلتها والجيران والأصدقاء المقربين منها استغربوا تنفيذها عملاً إرهابياً، وبدت عبارات الاستغراب مكررة على أفواههم.
وما جعل الغموض يلف هذه العملية الانتحارية أكثر، أن سفيان السليطي، المتحدث باسم القطب القضائي لمكافحة الإرهاب، قد أكد في تصريح إعلامي على أن أجهزة الأمن التونسية المختصة في مكافحة الإرهاب، لم تلقِ القبض على أي عنصر إرهابي على صلة بالعملية الإرهابية التي نفذتها الإرهابية التونسية منى قبلة.
في هذا الشأن، تقول المحللة السياسية التونسية آسيا العتروس: إن أغلب ما دوّن عن الإرهابيات والانتحاريات طوال عقد ونصف العقد من الزمن كان باللغة الإنجليزية التي تتقنها الإرهابية منى قبلة. وقد تكون اهتمامات الانتحارية التونسية قد بدأت من خلال متابعتها عناصر إرهابية نسائية انتمين في الغرب إلى التنظيمات الإرهابية، وضمنت شهادات حول مشاركتهن ضمن تلك التنظيمات من خلال اللغة الإنجليزية. وأشارت العتروس إلى شهادة والدة الانتحارية التونسية واتخاذها قراراً ببيع بعض أشجار الزيتون لاقتناء حاسوب، حتى تواصل ابنتها بحوثها العلمية وإعداد رسالة ماجستير في اختصاصها.
ومع ما تقدمه العائلات من تحاليل ومعلومات حول نمط عيش من نفذوا عمليات إرهابية، فإن الواقع يؤكد على وجود حاضنة اجتماعية وبيئة مناسبة لدخول الأفكار المتطرفة إلى أذهان الشباب التونسي، وتؤكد على أن العائلة والأبناء غالباً ما يكون كل طرف منهما يعيش في عالم منعزل عن الآخر؛ فانغماس الأبناء وهجرتهم لأفراد العائلة لأشهر متتالية، من بين المؤشرات على حصول تغييرات على شخصية المرشح للانضمام إلى التنظيمات الإرهابية.
ورجّح مختصون في الجماعات الإرهابية في تونس، على غرار علية العلاني وفيصل الشريف، أن تكون الانتحارية من الخلايا الإرهابية النائمة المتعاطفة مع التيارات المتطرفة الداعمة لتنظيم داعش الإرهابي أو تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب العربي».
وأشاروا إلى أن تونس تنتشر بها ما بين 300 و400 خلية «إرهابية نائمة»، وقد تم إلقاء القبض على كثير منها خلال السنوات الماضية، وللتأكيد على رجاحة هذه المقاربة أكدوا أن تنظيم «أنصار الشريعة» الذي يتزعمه التونسي «أبو عياض» سيف الله بن حسين، جمع ما لا يقل عن 40 ألف مناصر خلال تنظيم ملتقى له في مدينة القيروان سنة 2012، وأن المتعاطفين مع هذا التنظيم قد اندثروا إثر حظر أنشطته بالكامل في تونس وتصنيفه ضمن التنظيمات الإرهابية، لكن أين ذهبوا وهل تراجعوا فعلياً عن أفكارهم المتطرفة، أم أنهم خيروا الصمت والسبات ضمن الخلايا الإرهابية النائمة أو المستيقظة على وجه الدقة؟
في هذا السياق، قال علية العلاني، الخبير التونسي في الجماعات الإرهابية: إن العملية التي عرفتها العاصمة التونسية تحمل بصمات تنظيم داعش الإرهابي، لكن قد تحصل المفاجأة ونجد من نفذتها غير مدرجة في ضمن أي تنظيم إرهابي وعملت بمفردها ضمن ما يعرف بالذئاب المنفردة بعد أن قضت فترة طويلة تتشبع بالأفكار المتطرفة لتلك التنظيمات.
وأكد على أن الهجوم الانتحاري الذي جد قبل أيام في الشارع الرئيسي للعاصمة سيدفع السلطات الأمنية إلى إدخال تعديل جذري على أساليب عمل المخابرات التونسية، فقد استطاعت الإرهابية التنقل من مدينة إلى أخرى (نحو 280 كلم من المهدية إلى العاصمة التونسية)، وحملت معها مواد متفجرة على مسافة كبيرة من مكان إقامتها على مقربة من مكان الهجوم (باب سويقة، وفق التحريات الأولية) وصولاً إلى شارع بورقيبة دون أن تنتبه إليها السلطات الأمنية.
وأشار إلى ضرورة تحديث سجلات الأشخاص المتهمين بالإرهاب؛ فقد اتضح أن التنظيمات الإرهابية باتت تعتمد على أشخاص غير مسجلين؛ وهو ما يستدعي بذل جهود إضافية لإدراج المشتبه بهم الجدد ضمن سجلات المتهمين بالإرهاب، وسد النقص الذي قد يكون حصل خلال السنوات الأخيرة، على حد قوله.

محاصرة الأفكار المتطرفة

ووجدت هذه الأفكار المتطرفة طريقها إلى الشباب التونسي بصفة واضحة منذ بداية هذا القرن، وهو ما كان مطية لسنّ قانون مكافحة الإرهاب من قبل النظام السياسي السابق وبالتحديد سنة 2003، لكن طريقة تعامل نظام الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي مع التيارات المتطرفة، على وجه العموم كانت معتمدة على المحاصرة والتضييق وتجفيف المنابع، وقد اتضح أن تلك الطريقة لم تعطِ نتائج إيجابية؛ إذ عرفت تونس هجوماً إرهابياً كان فارقاً في التعامل مع المجموعات الإرهابية ونعني به «أحداث سليمان» الإرهابية التي جدت نهاية سنة 2006، وأشارت إلى وجود تطورات كبرى على مستوى مواجهة السلطة القائمة؛ وذلك بالاعتماد على حمل السلاح في وجه الدولة.
في هذا الشأن، أكد سمير بن عمر، المحامي التونسي المختص في الجماعات الأصولية، على أن النظام السابق زج بنحو ثلاثة آلاف شاب تونسي في السجون، وفي بعض الحالات لمجرد الشبهة، وقلصت هذه السياسة من قوة تلك التنظيمات المتطرفة، لكنها لم تقض عليها وتحولت طوال حكم بن علي إلى «خلايا نائمة» تنتظر الوقت المناسب للاستيقاظ، وكانت ثورة 2011، وظهور مفهوم الفوضى الخلاقة مناسبة لإطلاق عنان تلك المجموعات التي تحولت إلى تنظيمات دموية.
وراجعت السلطة التونسية قانون 2003 المتعلق بمكافحة الإرهاب، وأصدرت سنة 2015 قانوناً جديداً لمكافحة لإرهاب، وضمنته عقوبة الإعدام ضد المتهمين بالإرهاب ممن أدت أعمالهم إلى مقتل أشخاص، لكن ذلك لم يغير الكثير من خريطة الالتحاق بالتنظيمات الإرهابية؛ فنحو ثلاثة آلاف تونسي التحقوا بها وفق إحصائيات حكومية رسمية.

الحاضنة الاجتماعية

واعتبر أكثر من عالم اجتماع، على غرار منيرة الرزقي وفاتن مبارك، أن السلطات التونسية مطالبة بصفة عاجلة بالبحث عن الأسباب المؤدية لدخول الشباب التونسي إلى عالم الإرهاب وأن تبحث في الوقت ذاته عن الحاضنة الاجتماعية للإرهاب فبعض العائلات التونسية - وهذا من باب المفارقة - لا تنظر إلى العملية الإرهابية على أنها إرهاب يجب مقاومته وعدم السكوت عنه، بل بكونها عملية «استشهاد»؛ وهو ما يجعل ميزان النظر إلى ظاهرة الإرهاب مختلفاً بين أفراد يعيشون على الأرض نفسها ويحملون التاريخ نفسه.
وخلال السنوات الماضية، لم تتوانَ التنظيمات الإرهابية المختلفة عن استقطاب الشباب التونسي؛ مما جعله في مراتب أولى في الالتحاق بتنظيم داعش الإرهابي واحتلاله مناصب قيادية في هذا التنظيم. وعلى المستوى المحلي، وبشأن عدد المتهمين في قضايا إرهابية ويقبعون في السجون التونسية، فقد أكد سفيان السليطي، المتحدث باسم القطب القضائي لمكافحة الإرهاب، على أن العدد الإجمالي في حدود 1500 متهم بالإرهاب. وتشير جمعية آفاق للأمن والديوانة (جمعية مستقلة) إلى أن نحو ألف شاب تونسي على الأقل يتم استقطابهم من قبل المجموعات الإرهابية.
وتشير إحصائيات بعض مراكز الدراسات المهتمة بقضايا الإرهاب إلى أن نحو 32 في المائة من المتهمين بالإرهاب هم من بين طلبة الجامعات وتلاميذ المدارس، وتتوزع نسبة الإرهابيين التونسيين الملتحقين بالتنظيمات الإرهابية على العاصمة التونسية (32 في المائة)، ومن مناطق الساحل التونسي (28 في المائة)، ومن الجنوب (23 في المائة)، ونحو 9 في المائة من الوسط، وينحدر نسبة 8 في المائة من الشمال التونسي؛ وهو ما يجعل مختلف مناطق تونس عرضة لتأثيرات التنظيمات الإرهابية، ولا توجد منطقة بعينها في منأى عن سهام ظاهرة الإرهاب.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».