هي أسطوانتها الثانية، وقد اختارت لها عنواناً «إلى أجل غير مسمى». وها هي يارا لابيدوس تقتحم المجال الموسيقي مدعومة من مواطنها اللبناني الأصل غابرييل يارد، المنتج والموسيقار الحائز على «الأوسكار» عام 1997 عن موسيقاه لفيلم «المريض الإنجليزي». ومنذ بداياتها في الغناء، لفت صوت يارا الآذان بنبرته المميزة التي تحمل شجناً شرقياً وإيحاءات إيقاعية من البلاد التي جاءت منها صاحبته. صوت كتب عنه ناقد فني فرنسي أنه عذب رخيم يجمع بين انثيال العسل وصلابة الصخر، دون نسيان لكنتها المليئة بشمس لا توجد سوى على سواحل المتوسط.
ولدت يارا لابيدوس في بيروت أثناء الحرب. وقد أطلق عليها أبوها اسما اشتهر في لبنان بفضل قصيدة للشاعر سعيد عقل وردت في ديوان بالعامية حمل الاسم نفسه. وهي ما زالت تذكر بيت العائلة في صور، حيث نشأ والدها في مدينة كانت واحة للسلام. وبعد طفولة لبنانية قلقة بإيقاعات الحرب، تنقلت البنت للدراسة في أكثر من مدينة: باريس والقاهرة ولندن وبوسطن، بحسب تنقلات والدها الذي قادته مهنته كمهندس معماري إلى العمل في أكثر من قارة. وهي ما زالت تذكر كيف كانت، مع شقيقها، يبكيان في الطائرات التي تأخذهما بعيداً عن رفاق توطدت معهم صداقات جديدة. وبالإضافة إلى اقتراب مهنة الأب من آفاق الفن، فإن الأم كانت ترسم، أيضاً، وتعزف الموسيقى. وفي سن السادسة تعلمت يارا العزف على «الغيتار» في «كزنزرفاتوار» بيروت لأنها كانت تعتبر والدتها مثالاً لها وتريد أن تكون شبيهة بها. وتقول: «أردت تقليدها، تتكلم عدة لغات وترسم وتلون وتقرأ وتعرف كيف تكون وحيدة. كانت ملهمتي».
في عمر 18 سنة وصلت يارا إلى باريس وسكنت في منزل لراهبات آيرلنديات. استهوتها تلك اليوميات التي تجمع ما بين الأنظمة المتشددة للدير وبين ما كانت العاصمة الفرنسية توحي به من انطلاق وآفاق رحيبة. صار في إمكانها أن تحدد طريقها ما بين اهتمامها بالموضة من جهة، وبالعروض الفنية من جهة ثانية. ووجدت ضالتها في مدرسة لتصميم الثياب في النهار، والانتظام مساء في دورات «فلوران»، أشهر معهد لتدريب الممثلين. ومن بعد، تكفلت شخصيتها ومواهبها في تمهيد الطريق لها للعمل مساعدة مع المصمم المعروف أوسكار دو لا رينتا. وفي الوقت نفسه تعرفت على دومينيك بينار، وكيل الفنانين الذي يقف وراء إطلاق معظم الأسماء الساطعة في السينما الفرنسية. تأرجحت الشابة اللبنانية بين هذين العالمين إلى أن حسم قلبها الأمر. اختارت الأزياء لأنها تعرفت على شاب وسيم ويحمل اسما لامعاً. وكان ذلك هو أوليفييه، النجل الوحيد للمصمم تيد لابيدوس.
بدأ أوليفييه العمل مع أبيه بينما كانت هي تمضي دورة تدريبية لدى دار «بالمان» للأزياء، في الحي ذاته والنافذة مقابل النافذة. وسرعان ما انتهت الحكاية نهاية سعيدة وتزوج الاثنان. لكنها كانت مجبرة على التوقف عن العزف بسبب عملية جراحية تسببت لها في شلل في الذراع اليسرى وابتعاد عن الأضواء. مع هذا، وبدعم زوجها لها، واصلت يارا إصرارها على تحريك أناملها وتدريبها من خلال مداعبة أوتار «الغيتار» وهي تدرك أن إصابتها لن تسمح لها ببلوغ مستوى مقبولا من الإداء الموسيقي.
ثم جاء صوتها لينقلها إلى ضفة قريبة تناسب حالتها وترضي مواهبها الفنية. اكتشفت أن لها حنجرة قادرة على الغناء. وراحت تتمرن في السر بعد أن أصبحت أماً لابنتين، شقراء وسمراء. كانت تربي طفلتيها وتكتب نصوصاً جميلة عن الحب، والشوق، والحنين. وفي 2009 وضعت الخطوط الأولى لمشروع أسطوانة تتضمن الأغنيات التي تمرنت على إدائها وتكتمت عليها. ولما وصلت تلك الأغنيات بكلماتها التي صاغتها بنفسها إلى أسماع غابرييل يارد، وجد فيها خاصيتين قويتين: بصمة الصوت المميزة وصفاء النصوص الشعرية. ثم إنها من أولئك الذين يشبهونه في الطبع، تسعى لتقديم الأفضل والأكمل ولا ترضى بما هو دون ذلك. وقد تبنى يارد موهبتها وتولى إخراج الأسطوانة وتسجيلها في استوديو «آبي رود» في لندن. كان ذلك أجمل حلم يمكن أن يراود موهبة جديدة. أي العمل بتوجيهات موسيقار كبير محترف وبمصاحبة أوركسترا مؤلفة من 43 عازفاً. وهنا لا بد من التوقف عند عبارة وصفت فيها يارا لابيدوس تعاونها من ابن بلدها ذي الشهرة العالمية حيث قالت: «معه انتقلت من الثياب الجاهزة إلى تلك المفصّلة على المقاس». لقد ثبتت قدمها على السلم ولم تعد تخشى الخطوات التالية. وانعكست هذه الفكرة في أغنية كتبتها وجاء فيها: «لا، لم أعد أخاف من الغد». إن نصوصها تعيد البراءة والشاعرية والأمل إلى وسط غنائي طغت عليه الكلمات القاسية والمكشوفة والبذيئة. أما هي فكانت مثل الجوهرة الخام التي شاء لها حسن الحظ أن تقع في يد جواهرجي تولى تلميعها وإظهار بريقها. وها هي أسطوانتها الثانية مع يارد تؤكد جاذبية تجربتها التي تؤاخي في موسيقاها ما بين الشرق والغرب، حيث ما زال العالم يحتمل الحالمين ببلوغ مطرح بعيد في أجل لا متناه وغير مُسمّى. وقد جد النقاد في الشخصية الفنية ليارا لابيدوس صورة جديدة من المطربة الفرنسية فرنسواز هاردي. وكانت هاردي قد سحرت الشبيبة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي قبل زحف الموسيقى الإلكترونية والإيقاعات المجنونة.
أسطوانة جديدة للبيروتية الباريسية مع الموسيقار غابرييل يارد
يارا لابيدوس تكتب نصوصها وتغنيها بصوت ملغوم بشجن شرقي
أسطوانة جديدة للبيروتية الباريسية مع الموسيقار غابرييل يارد
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة