بروفايل: الدبلوماسية سهلي - ورق زودي أول سيدة تترأس إثيوبيا

«حسناوات الهضبة» يمسكن بزمام السلطة في أديس أبابا

بروفايل: الدبلوماسية سهلي - ورق زودي أول سيدة تترأس إثيوبيا
TT

بروفايل: الدبلوماسية سهلي - ورق زودي أول سيدة تترأس إثيوبيا

بروفايل: الدبلوماسية سهلي - ورق زودي أول سيدة تترأس إثيوبيا

انتخب البرلمان الإثيوبي يوم 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي سهلي - ورق زودي رئيسةً للدولة بغالبية ساحقة، ليجعل منها أول امرأة تتقلد المنصب الرفيع في تاريخ إثيوبيا الحديث، وذلك خلفاً للرئيس السابق مولاتو تشيومي الذي تقدم باستقالته فجأة ومن دون مقدمات. فمنذ الإمبراطورة توتا بتول، زوجة الإمبراطور الإثيوبي منليك الثاني، التي شاركت في قيادة جيوش الإمبراطورية في معركة عدوة، التي هزم فيها الاستعمار الإيطالي، لم تجلس امرأة إثيوبية على منصب بهذه الأهمية.
وعلى الرغم من أن منصب «رئيس الدولة» في إثيوبيا يعد منصباً بروتوكولياً؛ لأن الدستور الإثيوبي يعطي الصلاحيات التنفيذية الواسعة لرئيس الوزراء، فيتيح له نفوذاً سياسياً كبيراً، فإن اختيار زودي للرئاسة ينتظر أن يعطي المنصب الكثير من الديناميكية والتأثير، وأن تنفح فيه من «روح المرأة الإثيوبية»، لتحقيق المساواة بين الجنسين.

بدت الدبلوماسية سهلي - ورق زودي «مزهوّة» بتحقيق حلم والدها بأن تصبح ذات شأن، ويا له من شأن، فقد احتلت منصب السيدة الإثيوبية الأولى التي تتولي منصب رئيس الدولة.
وقالت زودي في كلمتها إلى البرلمان غداة انتخابها رئيسة للدولة بغالبية كاسحة «نحن أربع شقيقات، كان والدي يقول دائماً وبفخر إنه أب للإناث، تنبأ لنا بأن نكون أفضل من الرجال بالعلم». وأبدت امتنانها لجهود والدها التي أثمرت بنيلها المنصب الكبير، بقولها: «أنا أقف اليوم لأشكر والدي، وأقول له إنني وصلت إلى هذا المنصب وحققت رؤيتك... أقول لكل امرأة ولكل أب وأم لإناث، إننا تساوينا ولم يعد هناك فرق بين الرجال والنساء بعد اليوم».
أكدت سهلي - ورق في كلمتها للبرلمان، إنها ستركز على قضايا المرأة ودعم مواصلة الجهود الإصلاحية التي يقودها رئيس الوزراء آبي أحمد، وتابعت في تصريحات «يمكن أن يحافظ التغيير الذي تشهد إثيوبيا على زخمه، إذا كان يتزعمه الرجال والنساء بالتساوي، ويمكن أن يؤدي إلى إثيوبيا مزدهرة خالية من التمييز الديني والعرقي والجنسي؛ لذلك أؤكد أن أعمل خلال فترة ولايتي على تعزيز دور المرأة، وحفظ السلام من أجل النساء». ثم أضافت: «إذا كانت الإصلاحات التي بدأناها يقودها بنفس القدر من الرجال والنساء على حد سواء، فإن البلاد ستنسى في وقت قريب الفقر والتخلف وتتحرك نحو الازدهار... إن الإثيوبيين في حاجة إلى بناء مجتمع يرفض اضطهاد المرأة».
في الواقع، جاء اختيار زودي رئيسةً إكمالاً لحزمة إصلاحات يقودها رئيس الوزراء آبي أحمد، الذي ظل يعمل منذ انتخابه في مارس (آذار) الماضي، على سياسة جديدة وغير معهودة في البلد الذي ظل يتبع تقاليد صارمة بشأن الحكم. وهزت خطواته الجريئة أسس وتقاليد الحكم المتوارثة في «الإمبراطورية» القديمة، بتكوينه حكومة من عشرين وزيراً نصفهن من النساء، ومنحهن في تلك التشكيلة مناصب وزارية سيادية رفيعة، لم تكن متاحة للنساء من قبل.
إذ اختار رئيس الوزراء عائشة محمد وزيرة للدفاع، وباتت أول امرأة تتولّى هذا المنصب الحساس الذي كان حكراً على الرجال، ضارباً بذلك أسس المحاصصة العرقية التي ظل الحكم في إثيوبيا يقوم عليها منذ وصول التحالف الحاكم لأديس أبابا، وزيرة الدفاع من عرقية «العفر» الصغيرة المسلمة. وأكمل آبي أحمد ثورته في هزّ قيم الحكم الإثيوبي باستحداث «وزارة السلام» واختار لها الوزيرة الشابة مفريات كامل على رغم من حساسية المنصب الذي يدير قوات الشرطة والأمن وغيرها. ثم اختتم «ثورته الجندرية» بتعيينه يوم الخميس الماضي السيدة مآزا أشنافيفي في منصب رئيسة المحكمة العليا لتغدو أول سيدة تتولى المنصب هي الأخرى. وبحسب مصادر صحافية، كان آبي قد قال بعيد إعلان حكومته: «المرأة ستساعد في محاربة الفساد، لأنها أكثر كفاءة وأقل فساداً من الرجل»، بينما نقلت عنه «العربية نت» قوله «وزيراتنا سيحطمن المقولة القديمة بأن النساء لا يصلحن للقيادة».
وفي العاصمة السودانية الخرطوم، علّق رئيس البعثة الدبلوماسية الإثيوبية أمسالو هيتي لـ«الشرق الأوسط»، على انتخاب زودي قائلاً: إن «خبرات السيدة سهلي - ورق الكبيرة، المحلية والدولية، ستسهم بشكل كبير في تطور البلاد وتنميتها وترسيخ الديمقراطية والسلام والوحدة في البلاد». وأردف: «كامرأة يمكن أن تسهم بشكل كبير؛ لأن النساء هن اللاتي ينعكس عليهن تطور المجتمع سلباً وإيجاباً»، وتابع: «الرئيسة سهلي - ورق كامرأة يمكن أن تحشد النساء في اتجاه تحقيق التنمية، وفي تطور البلاد».
وإضافة إلى خبرات الرئيسة الجديدة، ولكونها امرأة يمكن أن تحشد جهود النساء من أجل التنمية، يرى الدبلوماسي الإثيوبي أن بلاده ستستفيد كثيراً من علاقات الرئيسة الدولية والإقليمية»... بل ويمكنها توظيف هذه العلاقات لخدمة إثيوبيا...أنا مقتنع بذلك، إنها ستفعل».
من جهته، يقول محمد حامد جمعة، الصحافي السوداني المتخصص في الملف الإثيوبي، إن منصب رئيس الجمهورية كان قد استحدث لخلق توازن بين القوميات الإثيوبية، وإرضاءً للمحاصصات القبلية التي كان الحكم في إثيوبيا يقوم عليها. وأوضح جمعة، أن رئيس الوزراء آبي أحمد بعد مجيئه للسلطة خالف المتعارف عليه، واعتمد طريقة جديدة في اختيار معاونيه ووزرائه، تعتمد على الكفاءة وتتجاوز العرق والإثنية والقومية، وتقوم على الكفاءة والشباب.
ورأى جمعة، أن اختيار سهلي - ورق زودي رئيسةً جاء لإكمال سلسلة حلقة ومفاهيم «جندرية»، هي «إكمال تمكين النساء الذي بدأه بإعطاء نصف الحقائب الوزارية في الحكومة الإثيوبية للنساء، وتمكينهن من وظائف مثل وزارتي الدفاع والسلام اللتين تعدان من أخطر الوزارات وأكثرها حساسية».
ويوضح جمعة، أن الرئيس الشاب اعتمد على الشباب كلياً في إدارته الجديدة، واختار المؤهلات بديلاً للمحاصصات، مستطرداً «لقد عيّن الرجل 55 وزير دولة من الشباب دون مراعاة لأي جوانب إثنية، فقط لأنهم مؤهلون». وهو يقطع بأن رئيس الوزراء يسعى لتغيير الموازنة السياسية التقليدية في إثيوبيا، معتمداً على «الجندر» والمساواة بين الرجال والنساء، والشباب للتخلي عن المحاصصات الإثنية. ثم يوضح «هو يريد خلق هذه المناسبة لتحقيق هدفين، أولها إرسال رسالة يخاطب بها العالم بأن شيئاً إيجابياً وجديداً يحدث، ورسالة للداخل تكسب النساء وتحشدهن من أجل الإصلاحات التي يقوم بها».
وعلى الرغم من مراسمية منصب رئيس الدولة في إثيوبيا ورمزيته، فإن جمعة يقطع بإمكان إحداث الرئيسة سهلي - ورق اختراقاً يتيح لرئيس الوزراء إيكال بعض الملفات لها، ويشرح «إنها سيدة مقبولة في المجتمع الدولي، وخبراتها المتراكمة تتيح لها تولي بعض ملفات رئيس الوزراء خاصة في الجانب الدبلوماسي... ولقد كانت كلمتها في احتفال جنوب السودان بتوقيع اتفاقية السلام في العاصمة جوبا، في أول مشاركة خارجية لها بعد انتخابها رئيسة، في غاية الدقة والدبلوماسية».
أيضاً يوضح جمعة، أن اختيار الرئيسة الجديدة للدولة الإثيوبية سيعزز من توجهات آبي أحمد الغربية التي قد تتجاوز دول الجوار والإقليم، ويضيف: «سهلي - ورق لم تكن طرفاً في الفساد، فأبوها كان جنرالاً كبيراً في الجيش الإثيوبي، وهي تؤمن بقيم المساواة بين الجنسين وتمكين الشباب من الحكم».
وبالتالي، يتوقع جمعة أن يحدث انتخابها، وجهود رئيس الوزراء في قيادته لتيار تجديدي على مستوى الأفكار والأشخاص والكتل التي يمثلونها، طفرة في إثيوبيا... طفرة تتجاوز المفاهيم التقليدية للسياسية الإثيوبية القديمة. ويتابع: «لم يتبع أحمد سياسية الترضيات الإثنية، ولم يجنح لترضية المعارضين العائدين للبلاد، بل اتبع سياسة الكفاءة والشباب وتمكين المرأة وتبني الأفكار الجديدة، وهي سياسة يمكن أن تلعب الرئيسة سهلي - ورق زودي دوراً مميزاً في دعمها».
من جهة ثانية، على صفحته في موقع التراسل «تويتر» قال فيستم أريغا، مدير مكتب رئيس الوزراء، معلقاً على اختيار زودي رئيسة «المجتمع الإثيوبي مجتمع بطريركي (ذكوري – أبوي) محافظ، وفي مجتمع مثيل فإن تعيين رئيسة أنثى، لن يحدد معايير المستقبل وحدها، بل يشير إلى إمكان تحويل النساء إلى صانعات أدوار في الحياة العامة في إثيوبيا».

- بطاقة هوية
أبصرت الرئيسة سهلي - ورق زودي النور يوم 21 فبراير (شباط) 1950 في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وهي ابنة عائلة: «عسكرية»؛ إذ كان والدها جنرالاً كبيراً في عهد»الإمبراطور هيلي سيلاسي». وحقاً، أوردت الرئيسة في كلمتها للبرلمان غداة انتخابها رئيسة، إن والدها الجنرال زودي خلّف أربع فتيات ولم يرزق بذكور، وكان مهموماً بتربيتهن وتعليمهن على أرفع مستوى.
تعلمت زودي في مدارس بلادها حتى المرحلة الجامعية؛ إذ درست في جامعة أديس أبابا. وبعد ذلك حصلت على منحة لدراسة العلوم الطبيعية في جامعة مونبيلييه الفرنسية العريقة، وأقامت في فرنسا زهاء تسع سنوات أتقنت خلالها اللغتين الفرنسية والإنجليزية إضافة إلى جانب اللغة الأمهرية، لغتها الأم، قبل أن تعود لخدمة بلادها.
عملت زودي، بعد عودتها من فرنسا، في وزارة التربية والتعليم بقسم إدارة العلاقات العامة، ثم ترقّت لتصبح رئيسة للقسم، ثم اختيرت لتشغل وظيفة دبلوماسية في وزارة الخارجية.
وفي وزارة الخارجية تدرّجت في الوظائف الدبلوماسية، حتى تم تعيينها سفيرة مقيمة في السنغال، والوقت نفسه عيّنت سفيرة غير مقيمة في كل من مالي والرأس الأخضر وغينيا بيساو وغامبيا وغينيا، خلال الفترة بين 1989–1993. وفي أعقاب تلك الحقبة، نقلت سفيرة لبلادها في دولة جيبوتي المجاورة، وشغلت المنصب طوال الفترة 1993 – 2002، وإلى جانبه كانت تشغل منصب الممثلة الدائمة لإثيوبيا في «الهيئة الحكومية للتنمية في شرق أفريقيا» (إيقاد) التي تتخذ من جيبوتي مقراً لها.
من جيبوتي انتقلت زودي سفيرة لإثيوبيا لدى فرنسا، وخلال فترة شغل منصب السفير في باريس بين 2002 - 2006، شغلت أيضاً منصب الممثل الدائم لبلدها في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، وإلى جانب ذلك عملت سفيرة غير مقيمة لدى كل من المغرب وتونس.
وشغلت بعد ذلك منصب الممثل الدائم لإثيوبيا في الاتحاد الأفريقي، ثم لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية في أفريقيا (ECA)، وعملت مديرة عامة للشؤون الأفريقية في وزارة الخارجية، قبل اختيارها من قبل الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون ممثلاً خاصاً له لبناء السلام في جمهورية أفريقيا الوسطى عام 2011 .وفي العام ذاته، اختارها الأمين العام الحالي للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش مديراً عاماً لمكتب الأمم المتحدة في العاصمة الكينية نيروبي، بمستوى وكيل الأمين العام للأمم المتحدة.
واكتملت مراحل ترقي سهلي – ورق زودي، أخيراً، بانتخابها من قبل البرلمان الإثيوبي رئيسة للدولة. وبالتالي، صارت الرئيس الرابع لإثيوبيا منذ وصول «ائتلاف الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية» إلى السلطة، بعد كل من نيغاسو غاديد، وقيرما ولد غيورغيس، ومولاتو تيشومي الذي استقال قبل إكمال دورته الرئاسية. وينتظر أن تعمل زودي في منصبها لفترتين مدتهما ست سنوات.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.