بروفايل: الدبلوماسية سهلي - ورق زودي أول سيدة تترأس إثيوبيا

«حسناوات الهضبة» يمسكن بزمام السلطة في أديس أبابا

بروفايل: الدبلوماسية سهلي - ورق زودي أول سيدة تترأس إثيوبيا
TT

بروفايل: الدبلوماسية سهلي - ورق زودي أول سيدة تترأس إثيوبيا

بروفايل: الدبلوماسية سهلي - ورق زودي أول سيدة تترأس إثيوبيا

انتخب البرلمان الإثيوبي يوم 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي سهلي - ورق زودي رئيسةً للدولة بغالبية ساحقة، ليجعل منها أول امرأة تتقلد المنصب الرفيع في تاريخ إثيوبيا الحديث، وذلك خلفاً للرئيس السابق مولاتو تشيومي الذي تقدم باستقالته فجأة ومن دون مقدمات. فمنذ الإمبراطورة توتا بتول، زوجة الإمبراطور الإثيوبي منليك الثاني، التي شاركت في قيادة جيوش الإمبراطورية في معركة عدوة، التي هزم فيها الاستعمار الإيطالي، لم تجلس امرأة إثيوبية على منصب بهذه الأهمية.
وعلى الرغم من أن منصب «رئيس الدولة» في إثيوبيا يعد منصباً بروتوكولياً؛ لأن الدستور الإثيوبي يعطي الصلاحيات التنفيذية الواسعة لرئيس الوزراء، فيتيح له نفوذاً سياسياً كبيراً، فإن اختيار زودي للرئاسة ينتظر أن يعطي المنصب الكثير من الديناميكية والتأثير، وأن تنفح فيه من «روح المرأة الإثيوبية»، لتحقيق المساواة بين الجنسين.

بدت الدبلوماسية سهلي - ورق زودي «مزهوّة» بتحقيق حلم والدها بأن تصبح ذات شأن، ويا له من شأن، فقد احتلت منصب السيدة الإثيوبية الأولى التي تتولي منصب رئيس الدولة.
وقالت زودي في كلمتها إلى البرلمان غداة انتخابها رئيسة للدولة بغالبية كاسحة «نحن أربع شقيقات، كان والدي يقول دائماً وبفخر إنه أب للإناث، تنبأ لنا بأن نكون أفضل من الرجال بالعلم». وأبدت امتنانها لجهود والدها التي أثمرت بنيلها المنصب الكبير، بقولها: «أنا أقف اليوم لأشكر والدي، وأقول له إنني وصلت إلى هذا المنصب وحققت رؤيتك... أقول لكل امرأة ولكل أب وأم لإناث، إننا تساوينا ولم يعد هناك فرق بين الرجال والنساء بعد اليوم».
أكدت سهلي - ورق في كلمتها للبرلمان، إنها ستركز على قضايا المرأة ودعم مواصلة الجهود الإصلاحية التي يقودها رئيس الوزراء آبي أحمد، وتابعت في تصريحات «يمكن أن يحافظ التغيير الذي تشهد إثيوبيا على زخمه، إذا كان يتزعمه الرجال والنساء بالتساوي، ويمكن أن يؤدي إلى إثيوبيا مزدهرة خالية من التمييز الديني والعرقي والجنسي؛ لذلك أؤكد أن أعمل خلال فترة ولايتي على تعزيز دور المرأة، وحفظ السلام من أجل النساء». ثم أضافت: «إذا كانت الإصلاحات التي بدأناها يقودها بنفس القدر من الرجال والنساء على حد سواء، فإن البلاد ستنسى في وقت قريب الفقر والتخلف وتتحرك نحو الازدهار... إن الإثيوبيين في حاجة إلى بناء مجتمع يرفض اضطهاد المرأة».
في الواقع، جاء اختيار زودي رئيسةً إكمالاً لحزمة إصلاحات يقودها رئيس الوزراء آبي أحمد، الذي ظل يعمل منذ انتخابه في مارس (آذار) الماضي، على سياسة جديدة وغير معهودة في البلد الذي ظل يتبع تقاليد صارمة بشأن الحكم. وهزت خطواته الجريئة أسس وتقاليد الحكم المتوارثة في «الإمبراطورية» القديمة، بتكوينه حكومة من عشرين وزيراً نصفهن من النساء، ومنحهن في تلك التشكيلة مناصب وزارية سيادية رفيعة، لم تكن متاحة للنساء من قبل.
إذ اختار رئيس الوزراء عائشة محمد وزيرة للدفاع، وباتت أول امرأة تتولّى هذا المنصب الحساس الذي كان حكراً على الرجال، ضارباً بذلك أسس المحاصصة العرقية التي ظل الحكم في إثيوبيا يقوم عليها منذ وصول التحالف الحاكم لأديس أبابا، وزيرة الدفاع من عرقية «العفر» الصغيرة المسلمة. وأكمل آبي أحمد ثورته في هزّ قيم الحكم الإثيوبي باستحداث «وزارة السلام» واختار لها الوزيرة الشابة مفريات كامل على رغم من حساسية المنصب الذي يدير قوات الشرطة والأمن وغيرها. ثم اختتم «ثورته الجندرية» بتعيينه يوم الخميس الماضي السيدة مآزا أشنافيفي في منصب رئيسة المحكمة العليا لتغدو أول سيدة تتولى المنصب هي الأخرى. وبحسب مصادر صحافية، كان آبي قد قال بعيد إعلان حكومته: «المرأة ستساعد في محاربة الفساد، لأنها أكثر كفاءة وأقل فساداً من الرجل»، بينما نقلت عنه «العربية نت» قوله «وزيراتنا سيحطمن المقولة القديمة بأن النساء لا يصلحن للقيادة».
وفي العاصمة السودانية الخرطوم، علّق رئيس البعثة الدبلوماسية الإثيوبية أمسالو هيتي لـ«الشرق الأوسط»، على انتخاب زودي قائلاً: إن «خبرات السيدة سهلي - ورق الكبيرة، المحلية والدولية، ستسهم بشكل كبير في تطور البلاد وتنميتها وترسيخ الديمقراطية والسلام والوحدة في البلاد». وأردف: «كامرأة يمكن أن تسهم بشكل كبير؛ لأن النساء هن اللاتي ينعكس عليهن تطور المجتمع سلباً وإيجاباً»، وتابع: «الرئيسة سهلي - ورق كامرأة يمكن أن تحشد النساء في اتجاه تحقيق التنمية، وفي تطور البلاد».
وإضافة إلى خبرات الرئيسة الجديدة، ولكونها امرأة يمكن أن تحشد جهود النساء من أجل التنمية، يرى الدبلوماسي الإثيوبي أن بلاده ستستفيد كثيراً من علاقات الرئيسة الدولية والإقليمية»... بل ويمكنها توظيف هذه العلاقات لخدمة إثيوبيا...أنا مقتنع بذلك، إنها ستفعل».
من جهته، يقول محمد حامد جمعة، الصحافي السوداني المتخصص في الملف الإثيوبي، إن منصب رئيس الجمهورية كان قد استحدث لخلق توازن بين القوميات الإثيوبية، وإرضاءً للمحاصصات القبلية التي كان الحكم في إثيوبيا يقوم عليها. وأوضح جمعة، أن رئيس الوزراء آبي أحمد بعد مجيئه للسلطة خالف المتعارف عليه، واعتمد طريقة جديدة في اختيار معاونيه ووزرائه، تعتمد على الكفاءة وتتجاوز العرق والإثنية والقومية، وتقوم على الكفاءة والشباب.
ورأى جمعة، أن اختيار سهلي - ورق زودي رئيسةً جاء لإكمال سلسلة حلقة ومفاهيم «جندرية»، هي «إكمال تمكين النساء الذي بدأه بإعطاء نصف الحقائب الوزارية في الحكومة الإثيوبية للنساء، وتمكينهن من وظائف مثل وزارتي الدفاع والسلام اللتين تعدان من أخطر الوزارات وأكثرها حساسية».
ويوضح جمعة، أن الرئيس الشاب اعتمد على الشباب كلياً في إدارته الجديدة، واختار المؤهلات بديلاً للمحاصصات، مستطرداً «لقد عيّن الرجل 55 وزير دولة من الشباب دون مراعاة لأي جوانب إثنية، فقط لأنهم مؤهلون». وهو يقطع بأن رئيس الوزراء يسعى لتغيير الموازنة السياسية التقليدية في إثيوبيا، معتمداً على «الجندر» والمساواة بين الرجال والنساء، والشباب للتخلي عن المحاصصات الإثنية. ثم يوضح «هو يريد خلق هذه المناسبة لتحقيق هدفين، أولها إرسال رسالة يخاطب بها العالم بأن شيئاً إيجابياً وجديداً يحدث، ورسالة للداخل تكسب النساء وتحشدهن من أجل الإصلاحات التي يقوم بها».
وعلى الرغم من مراسمية منصب رئيس الدولة في إثيوبيا ورمزيته، فإن جمعة يقطع بإمكان إحداث الرئيسة سهلي - ورق اختراقاً يتيح لرئيس الوزراء إيكال بعض الملفات لها، ويشرح «إنها سيدة مقبولة في المجتمع الدولي، وخبراتها المتراكمة تتيح لها تولي بعض ملفات رئيس الوزراء خاصة في الجانب الدبلوماسي... ولقد كانت كلمتها في احتفال جنوب السودان بتوقيع اتفاقية السلام في العاصمة جوبا، في أول مشاركة خارجية لها بعد انتخابها رئيسة، في غاية الدقة والدبلوماسية».
أيضاً يوضح جمعة، أن اختيار الرئيسة الجديدة للدولة الإثيوبية سيعزز من توجهات آبي أحمد الغربية التي قد تتجاوز دول الجوار والإقليم، ويضيف: «سهلي - ورق لم تكن طرفاً في الفساد، فأبوها كان جنرالاً كبيراً في الجيش الإثيوبي، وهي تؤمن بقيم المساواة بين الجنسين وتمكين الشباب من الحكم».
وبالتالي، يتوقع جمعة أن يحدث انتخابها، وجهود رئيس الوزراء في قيادته لتيار تجديدي على مستوى الأفكار والأشخاص والكتل التي يمثلونها، طفرة في إثيوبيا... طفرة تتجاوز المفاهيم التقليدية للسياسية الإثيوبية القديمة. ويتابع: «لم يتبع أحمد سياسية الترضيات الإثنية، ولم يجنح لترضية المعارضين العائدين للبلاد، بل اتبع سياسة الكفاءة والشباب وتمكين المرأة وتبني الأفكار الجديدة، وهي سياسة يمكن أن تلعب الرئيسة سهلي - ورق زودي دوراً مميزاً في دعمها».
من جهة ثانية، على صفحته في موقع التراسل «تويتر» قال فيستم أريغا، مدير مكتب رئيس الوزراء، معلقاً على اختيار زودي رئيسة «المجتمع الإثيوبي مجتمع بطريركي (ذكوري – أبوي) محافظ، وفي مجتمع مثيل فإن تعيين رئيسة أنثى، لن يحدد معايير المستقبل وحدها، بل يشير إلى إمكان تحويل النساء إلى صانعات أدوار في الحياة العامة في إثيوبيا».

- بطاقة هوية
أبصرت الرئيسة سهلي - ورق زودي النور يوم 21 فبراير (شباط) 1950 في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وهي ابنة عائلة: «عسكرية»؛ إذ كان والدها جنرالاً كبيراً في عهد»الإمبراطور هيلي سيلاسي». وحقاً، أوردت الرئيسة في كلمتها للبرلمان غداة انتخابها رئيسة، إن والدها الجنرال زودي خلّف أربع فتيات ولم يرزق بذكور، وكان مهموماً بتربيتهن وتعليمهن على أرفع مستوى.
تعلمت زودي في مدارس بلادها حتى المرحلة الجامعية؛ إذ درست في جامعة أديس أبابا. وبعد ذلك حصلت على منحة لدراسة العلوم الطبيعية في جامعة مونبيلييه الفرنسية العريقة، وأقامت في فرنسا زهاء تسع سنوات أتقنت خلالها اللغتين الفرنسية والإنجليزية إضافة إلى جانب اللغة الأمهرية، لغتها الأم، قبل أن تعود لخدمة بلادها.
عملت زودي، بعد عودتها من فرنسا، في وزارة التربية والتعليم بقسم إدارة العلاقات العامة، ثم ترقّت لتصبح رئيسة للقسم، ثم اختيرت لتشغل وظيفة دبلوماسية في وزارة الخارجية.
وفي وزارة الخارجية تدرّجت في الوظائف الدبلوماسية، حتى تم تعيينها سفيرة مقيمة في السنغال، والوقت نفسه عيّنت سفيرة غير مقيمة في كل من مالي والرأس الأخضر وغينيا بيساو وغامبيا وغينيا، خلال الفترة بين 1989–1993. وفي أعقاب تلك الحقبة، نقلت سفيرة لبلادها في دولة جيبوتي المجاورة، وشغلت المنصب طوال الفترة 1993 – 2002، وإلى جانبه كانت تشغل منصب الممثلة الدائمة لإثيوبيا في «الهيئة الحكومية للتنمية في شرق أفريقيا» (إيقاد) التي تتخذ من جيبوتي مقراً لها.
من جيبوتي انتقلت زودي سفيرة لإثيوبيا لدى فرنسا، وخلال فترة شغل منصب السفير في باريس بين 2002 - 2006، شغلت أيضاً منصب الممثل الدائم لبلدها في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، وإلى جانب ذلك عملت سفيرة غير مقيمة لدى كل من المغرب وتونس.
وشغلت بعد ذلك منصب الممثل الدائم لإثيوبيا في الاتحاد الأفريقي، ثم لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية في أفريقيا (ECA)، وعملت مديرة عامة للشؤون الأفريقية في وزارة الخارجية، قبل اختيارها من قبل الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون ممثلاً خاصاً له لبناء السلام في جمهورية أفريقيا الوسطى عام 2011 .وفي العام ذاته، اختارها الأمين العام الحالي للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش مديراً عاماً لمكتب الأمم المتحدة في العاصمة الكينية نيروبي، بمستوى وكيل الأمين العام للأمم المتحدة.
واكتملت مراحل ترقي سهلي – ورق زودي، أخيراً، بانتخابها من قبل البرلمان الإثيوبي رئيسة للدولة. وبالتالي، صارت الرئيس الرابع لإثيوبيا منذ وصول «ائتلاف الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية» إلى السلطة، بعد كل من نيغاسو غاديد، وقيرما ولد غيورغيس، ومولاتو تيشومي الذي استقال قبل إكمال دورته الرئاسية. وينتظر أن تعمل زودي في منصبها لفترتين مدتهما ست سنوات.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.