اضطرابات تعمّ مدن باكستان ومشاورات لاستدعاء الجيش

على خلفية تبرئة امرأة من تهمة التجديف

مظاهرات في كراتشي ضد قرار المحكمة العليا (رويترز)
مظاهرات في كراتشي ضد قرار المحكمة العليا (رويترز)
TT

اضطرابات تعمّ مدن باكستان ومشاورات لاستدعاء الجيش

مظاهرات في كراتشي ضد قرار المحكمة العليا (رويترز)
مظاهرات في كراتشي ضد قرار المحكمة العليا (رويترز)

واصلت الجماعات الدينية الباكستانية التظاهر في شوارع المدن الباكستانية وإغلاق الكثير من الشوارع ومداخل المدن الرئيسية احتجاجا على قرار المحكمة العليا ورئيسها ميان ثاقب ناصر بتبرئة امرأة نصرانية اسمها آسيا بيبي اتهمت بإهانة القرآن وشتم الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد أغلقت الطرق المؤدية إلى العاصمة إسلام آباد ومدن لاهور وكراتشي وراولبندي فيما قام محتجون على قرار المحكمة بإضرام النيران في عدد من الحافلات على مداخل المدن، حيث قُتل اثنان من المواطنين كانا ذاهبين للمشاركة في الاجتماع السنوي لجماعة التبليغ التي لا تمارس السياسة في باكستان.
وهددت جماعة «لبيك يا رسول الله» الصوفية باللجوء إلى العنف مطالبة رئيس المحكمة العليا بالاستقالة من منصبه، كما طالب أحد قادة الجماعة الجيش الباكستاني بإقالة قائده الجنرال قمر جاويد باجوا. وقال أحد قادة الحركة في خطاب أمام أنصاره بحضور زعيم الحركة خادم حسين رضوي إن «على جنرالات الجيش الذين فيهم إيمان أن يقيلوا قائد الجيش الجنرال باجوا أو يقتلوه، وعلى رئيس المحكمة العليا ثاقب ناصر أن يقدم استقالته من منصبه أو أن يواجه العواقب الوخيمة جراء قراره بإطلاق سراح المتهمة وتبرئتها بعد أن أدانتها كافة المحاكم الابتدائية، والاستئناف والتمييز في باكستان وقضت بإعدامها».
وقدم وزير الشؤون الدينية الباكستانية استقالته احتجاجا على الطريقة التي تعاملت بها الحكومة مع المحتجين على قرار المحكمة العليا، كما قرر رئيس الوزراء عمران خان تشكيل لجنة من خمسة وزراء للتفاوض مع المحتجين. ومن بين أعضاء اللجنة وزير الإعلام فؤاد تشودري ووزير الداخلية شهريار أفريدي ووزير الشؤون الدينية المستقيل نور الحق قادري، وقد بدأت اللجنة العمل على التواصل مع خادم حسين رضوي زعيم جماعة «لبيك يا رسول الله» لوقف الاحتجاجات في المدن الباكستانية.
وقد اشتبك متظاهرون من كافة الجماعات الدينية مع قوات الشرطة في عدد من المدن الباكستانية، حيث نقل العشرات من المتظاهرين المصابين إلى المشافي التي أعلنت حالة الطوارئ القصوى فيها؛ تحسبا لنقل إصابات كثيرة إليها.
وقد أعلنت جمعية علماء الإسلام وجماعة الدعوة وجماعات دينية أخرى الإضراب الشامل يوم الجمعة وتنظيم المظاهرات العارمة، رغم تهديد عمران خان رئيس الحكومة باستخدام القوة لمنع أي شخص في باكستان من تحدي سلطة الحكومة، وذلك في خطاب ألقاه عبر محطات التلفزة المحلية. وقد انطلقت المظاهرات في بيشاور وكوهات وراولبندي ولاهور وكراتشي وبقية المدن مباشرة عقب خطاب عمران خان الذي وصفته هذه الجماعات بأنه مخيب للآمال.
وقد بدأت الحكومة وقيادة الجيش الباكستاني مشاورات لاستدعاء اللواء العسكري 111 في الجيش الباكستاني الذي يتخذ من مدينة راولبندي مقرا له، وذلك للحفاظ على الأمن والهدوء في العاصمة إسلام آباد. وكان اللواء 111 هو الذي نفذ كافة عمليات الانقلاب العسكرية التي شهدتها باكستان عبر تاريخها نظرا لأن مقره مجاور للعاصمة إسلام آباد، وهو المنوط به الحفاظ على الأمن والنظام في العاصمة في حالة وقوع أعمال عنف وفوضى.
وبدأت قيادات الحكومة المدنية والقيادة العسكرية سلسلة اجتماعات على مر الساعة، وسط توتر شديد في المدن الباكستانية، حيث أفاد سكان مدينة لاهور بأن المدينة شهدت إضرابا شاملا أغلقت فيه المحلات التجارية والأسواق أبوابها، فيما بدأت قطاعات من اتحادات المحامين الباكستانية التضامن مع المضربين والدعوة إلى تغيير قرار المحكمة العليا في باكستان.
واتهمت جهات باكستانية المحكمة العليا والحكومة بأنهما رضختا مع قيادة الجيش للضغوط الغربية لإطلاق سراح المتهمة آسيا بيبي بعد تهديد الاتحاد الأوروبي بتخفيض وارداته من باكستان، ووضع قيود على الصادرات الباكستانية للاتحاد الأوروبي. كما تخشى حكومة عمران خان من رفض صندوق النقد الدولي الموافقة على طلب تقدمت به الحكومة الباكستانية من أجل الحصول على قرض بقيمة ستة مليارات دولار من أجل تعديل العجز في الميزانية الباكستانية، وعدم وقوع باكستان في دائرة العجز عن سداد فوائد الديون القديمة عليها.
وطالبت الإدارة الأميركية الحكومة الباكستانية بتشريع قانون جديد يحد من عمل الجماعات الدينية ويعمل على تكبيلها، بعد ردود الفعل العنيفة من هذه الجماعات حيال قرار تبرئة آسيا بيبي المتهمة بشتم الرسول صلى الله عليه وسلم وإهانة القرآن الكريم.
وفي موقف يبرز حجم التخوف من تفجر الأوضاع دعا رئيس المحكمة العليا الجماعات الدينية وأنصارها إلى تفهم أسباب قراره بتبرئة آسيا بيبي بالقول إنه لا يمكنه أن يحكم على أي متهم دون أدلة ضده، لكن هذه الجماعات طالبته بالاستقالة، وأسندت قرارها إلى ما اتخذته كافة المحاكم الباكستانية الابتدائية، والاستئناف والتمييز في البنجاب من قرار بإعدام المتهمة بأدلة الشهود الذين أدلوا بشهاداتهم في القضية خلال السنوات الثماني الماضية.
وقررت السلطات الباكستانية وقف العمل بالهواتف الجوالة وإغلاق المدارس والجامعات في يومي الخميس والجمعة للحد من تزايد عدد المتظاهرين، ومنعهم من نقل مجريات الأحداث إلى وسائل التواصل الاجتماعي، كما منعت الحكومة كافة قنوات التلفزيون الباكستانية من نشر صور المظاهرات وتغطية الأحداث حتى لا تزيد التغطية من عدد المشاركين في هذه المظاهرات، ويؤثر ذلك على استقرار الحكومة الحالية. كما تدرس الحكومة والأجهزة الأمنية القيام بحملة اعتقالات واسعة ضد رموز الجماعات الدينية المشاركة في المظاهرات والاعتصامات في محاولة منها للحد من تعاظم عدد المشاركين في هذه الاحتجاجات.
وكان ينظر إلى جماعة «لبيك يا رسول الله» على أنها صنيعة الجيش الباكستاني لإسقاط حكومة رئيس الوزراء السابق نواز شريف، حيث قامت بمحاصرة العاصمة قبل عام احتجاجا على مشروع قانون قدمته الحكومة للبرلمان السابق رأت فيه الجماعة بأنه يسمح «للقاديانيين» تولي مناصب عليا في الدولة، وهو أمر لا يسمح به الدستور الباكستاني نظرا لاعتباره «القاديانية» فئة مرتدة عن الدين الإسلامي، وتعامل معاملة الأقليات الدينية غير المسلمة في باكستان.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟