بغداد والعصر الذهبي للعرب

كتاب جديد للمدير السابق لمركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون

المدرسة المستنصرية في بغداد تأسست في زمن الدولة العباسية عام 1233
المدرسة المستنصرية في بغداد تأسست في زمن الدولة العباسية عام 1233
TT

بغداد والعصر الذهبي للعرب

المدرسة المستنصرية في بغداد تأسست في زمن الدولة العباسية عام 1233
المدرسة المستنصرية في بغداد تأسست في زمن الدولة العباسية عام 1233

نحن نعلم أن التحقيب السائد لتاريخ البشرية يقسم فترات العالم إلى 3 عصور متتالية: العصور اليونانية - الرومانية القديمة، فالعصور الوسطى، فالعصور الحديثة. وقد شغلت العصور المسيحية تلك الفترة الممتدة من القرن الخامس بعد الميلاد إلى القرن الخامس عشر بعد الميلاد، أي طيلة ألف سنة. ولكن الشيء المزعج في هذا التحقيب الغربي هو أنه داخل هذه الفترة القروسطية المظلمة، تتموضع الحضارة العربية الإسلامية التي شهدت عصرها الذهبي طيلة القرون الستة الأولى من عمر الإسلام، أي حتى موت ابن رشد عام 1198. وبالتالي، فإن هذا التحقيب لا ينطبق علينا. إنه ظالم لنا، ولذلك نرفضه. فنحن عشنا عصر تنويرنا في وقت كان الغرب غاطساً في ظلامياته. ولذلك، أطلق ريجيس دوبريه أخيراً هذه الفكرة الذكية، قائلاً: مشكلة العرب هي أنهم شهدوا عصورهم الوسطى بعد عصر تنويرهم، وليس العكس، كما حصل في أوروبا. ولكن بدءاً من القرن السادس عشر، ابتدأت العصور الحديثة في الغرب، مجسدة بعصر النهضة. وفي هذا الكتاب الجماعي الضخم، نجد صورة متكاملة عن عالم القرون الوسطى. وقد أشرف عليه المؤرخ الشهير جورج دوبي، وساهم في تأليفه كثير من الاختصاصيين في شتى الفروع والحضارات. فبعضهم تحدث عن الغرب المسيحي، وبعضهم عن الشرق الأقصى الآسيوي، وبعضهم الآخر عن الحضارة العربية الإسلامية، إلخ.
وقد تحدث عن هذه الأخيرة الدكتور بول بالطا الذي كان مديراً لمركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون. يقول هذا الباحث ما معناه: في وسط القرن الثامن الميلادي، حصل شجار داخلي جديد أدى إلى زعزعة العالم العربي. فقد تغلب العباسيون على الأمويين، واستولوا على السلطة بعد أن أعملوا المجازر فيهم. وظلت السلطة في أيدي العباسيين مدة 5 قرون. والواقع أنه بعد وفاة النبي الأكرم عام 632، ما انفكت الصراعات العائلية أو القبلية أو السياسية على السلطة تتوالى فصولاً. وهكذا، انتقلت السلطة من الجزيرة العربية إلى سوريا، ومن سوريا إلى العراق، ومن العراق إلى إيران، أو إلى المغرب الأقصى، فإسبانيا. وكانت الأطراف المتصارعة كلها تزعم أنها تحارب من أجل الإسلام الصحيح الذي انحرفت عنه الأطراف الأخرى. كل طرف كان يتهم الطرف السابق بالانحراف عن نهج العقيدة القويمة المستقيمة، لكي يزيحه عن السلطة، ويحل محله. والواقع أن العباسيين استخدموا هذا الأسلوب لكي يسفهوا الأمويين ويشوهوا صورتهم. فقد أشاعوا عنهم أنهم خرجوا على قانون القرآن الكريم والشريعة، وأنهم منافقون لا أثر للإيمان في قلوبهم. ونجحت الإشاعة وانتشرت في كل الأمصار الإسلامية، الشيء الذي أدى إلى سحق الأمويين عام 750، وحلول العباسيين محلهم على رأس الإمبراطورية العربية الإسلامية المترامية الأطراف. وهذا ما يدعوه المؤرخون بالثورة العباسية. فقد ابتدأت ببث الدعاية المضادة للأمويين، قبل استخدام الرجال والسلاح لإسقاطهم. ومعلوم أن سقوط مشروعيتك الدينية شرط مسبق لإسقاط مشروعيتك السياسية.
وقد استطاع العباسيون ترسيخ نظام قوي استمر عدة قرون، بعد أن نقلوا العاصمة من دمشق إلى بغداد، أي من سوريا إلى العراق. وشهدت الحضارة العربية - الإسلامية عصرها الذهبي عندئذ بين القرنين الثامن والثاني عشر الميلادي. فقد أدت حركة الترجمة عن الإغريق إلى ازدهار العلم والفلسفة. وأصبح علماء الإسلام هم منارات البشرية في ذلك الزمان. فأوروبا كانت تغط في نوم عميق: أي في دياجير العصور الوسطى، والتعصب الديني، والجهل والانغلاق، وتكفير الفلسفة والعلم. وكما تحدث بعضهم عن «المعجزة الإغريقية» أيام أرسطو وأفلاطون وسقراط، فإنه يمكننا أن نتحدث عن «المعجزة العربية» أيام الكندي والجاحظ والمأمون والحسن بن الهيثم والتوحيدي والفارابي والبيروني وابن سينا وابن رشد والمتنبي والمعري، وبقية عباقرة العرب والإسلام. والسؤال المطروح الآن هو التالي: هل ستعيد بغداد سابق مجدها، وتصنع العصر الذهبي للعرب مرة أخرى، بعد أن أخذت تتعود على اللعبة الديمقراطية، وإن بصعوبة وتعثر؟ إن هذا الشيء لم يعد مستبعداً، ولكن لكي يتحقق ذلك ينبغي أن تصبح بغداد مركزاً للإشعاع الفلسفي والإبداع الأدبي، كما كانت في العصور الخوالي. وهذا ما نأمله لعاصمة الرشيد والمأمون العظيم ونرجوه.
على أي حال، بين عامي 750 و1100، كان جميع العلماء إما عرباً، وأما فرساً، وإما أتراكاً من آسيا الوسطى، وإما بربراً أمازيغاً في الأندلس وشمال أفريقيا. وكانوا إما يهوداً أو مسيحيين، أو في الأغلب مسلمين بطبيعة الحال. ولكن كانت هناك خاصية مشتركة بينهم جميعاً، وهي أنهم كلهم كانوا يكتبون ويؤلفون ويحاضرون باللغة العربية. صحيح أنهم كانوا يتحدثون بلغتهم الأم عندما يعودون إلى منازلهم وأهاليهم، ولكن لغة العلم والفلسفة والمناقشات الكبرى في ذلك الزمان كانت العربية، ولا شيء غيرها. لقد كانت لغة الحضارة العالمية آنذاك، تماماً كالإنجليزية حالياً. من يصدق ذلك الآن؟
ولهذا السبب، جرى استخدام تعبير «الحضارة العربية»، وتفضيله على تعبير «الحضارة الإسلامية». لماذا؟ لأن كثيراً من العلماء والمترجمين ما كانوا مسلمين، ولكن كلهم كانوا يتقنون العربية، ويؤلفون كتبهم الأساسية بها. فمثلاً الفيلسوف اليهودي الكبير ابن ميمون ألف رائعته الكبرى «دلالة الحائرين» بالعربية، وبعدئذ ترجمت إلى العبرية. وبالتالي، فنحن نعتبره فيلسوفاً عربياً، حتى ولو كان يهودي الديانة، لأنه أبدع بلغة الضاد. وقس على ذلك كثير (بين قوسين سيوران الذي أبدع بالفرنسية يعتبر فرنسياً، حتى ولو كان ذا أصل روماني. وقل الأمر ذاته عن الآيرلندي صموئيل بيكيت، بل وحتى الكاتب المبدع أمين معلوف يعتبر كاتباً فرنسياً، وإن بروح لبنانية عربية. وقل الأمر ذاته عن الطاهر بن جلون، وآخرين كثيرين. اللغة هي الأساس، وأكاد أقول إن تغيير اللغة أصعب من تغيير الدين)!
لكي يبرر العباسيون استئصال أسلافهم الأمويين، راحوا يستخدمون المحاجة الدينية، كما قلنا. وقالوا عنهم إنهم انحرفوا عن مبادئ الدين والصراط المستقيم. لقد انحرفوا عن مبادئ الإسلام، وأسرفوا في الفسق والمجون والبطر واتباع الشهوات والآثام. ولكن ماذا فعلوا هم بعد أن وصلوا إلى السلطة؟ الشيء ذاته! فالواقع أنهم لم يقصروا في هذا المجال، بعد أن استتبت الأمور لهم.
نعم، لقد عاشوا حياة المستبدين الشرقيين في قصورهم المنيفة. ولكن الفرق بينهم وبين الأمويين هو أن إمبراطوريتهم أصبحت كوسموبوليتية، ولم تعد عربية خالصة، كما كان عليه الحال سابقاً. فالخلفاء العباسيون راحوا يتزوجون نساء غير عربيات، وكان وزراؤهم في الغالب من أصل فارسي، كالبرامكة في عهد هارون الرشيد مثلاً.
وكان أول خلفائهم هو أبو العباس السفاح الذي نصب خليفة عام 749، ولكنه لم يحكم فعلاً إلا عام 750، بعد القضاء الكامل على الأمويين. وهكذا، دشن السلالة العباسية التي أنجبت 37 خليفة، وبقيت في السلطة حتى عام 1250، تاريخ دخول المغول إلى بغداد: أي 5 قرون بالتمام والكمال. ولكن الخليفة العباسي الحقيقي كان هو الشخص الثاني في العائلة. إنه أبو جعفر المنصور الذي تسلم الحكم بعد السفاح بـ4 سنوات فقط (754 - 775). لقد حكم أكثر من 20 سنة، واستطاع بالتالي توطيد دعائم السلطة العباسية، وهو الذي أسس مدينة بغداد عام 762، وجعل منها عاصمة له. وسوف تظل عاصمة العراق حتى يومنا هذا. وبالتالي، فالرجل له أهميته الكبرى في تاريخ الإسلام، وقد لقبها بمدينة السلام.
وجعل منها ليس فقط عاصمة سياسية وإدارية للإمبراطورية العربية - الإسلامية، وإنما أيضاً عاصمة الشعراء والفنانين. بل وأصبحت، وللمرة الأولى في تاريخ الإسلام، مدينة العلم والعلماء والفلاسفة والمخترعين وباقي المبدعين. والواقع أن الشيء الذي ساهم في عظمة الخلافة العباسية هو تشجيع المنصور والرشيد والمأمون لحركة الترجمة ونقل المعرفة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية. ومعلوم أن العلم الإغريقي ترجم في تلك الفترة، وكذلك الفلسفة الإغريقية، بالإضافة إلى علم الفرس والهند وبقية الأقوام. وهنا تفوق العباسيون على الأمويين بما لا يقاس، ودشنوا العصر الذهبي العظيم.
وفي تلك الفترة، ظهر الكتاب الكبار، من أمثال الجاحظ وابن قتيبة. كما ظهر علماء النحو الذين ثبتوا للعربية قواعدها ونحوها وصرفها وعروضها، كالخليل بن أحمد الفراهيدي وسيبويه والكسائي وغيرهم. وأما في مجال الشعر فقد هيمن على تلك الحقبة الشاعر الكبير المتحرر، إن لم نقل المتحلل: أبو نواس.
ولكن يبقى صحيحاً القول إن المجال الذي برع فيه علماء الإسلام، وجعل من بغداد عاصمة الحضارة، هو مجال العلم والفلسفة والتقنيات، إن لم يكن التكنولوجيا. وفي الفترة الأولى، كان علماء الإسلام مجرد ناقلين لعلم الآخرين أو مترجمين له. ومعلوم أن مرحلة الترجمة تسبق مرحلة الإبداع الذاتي، ثم جاءت المرحلة التالية: مرحلة الإبداع الذاتي، والإضافة إلى كل ما سبق، بعد أن هضموا كل هذه العلوم واستوعبوها.
ويرى بول بالطا أن علماء الإسلام أبدعوا في كل المجالات بين القرنين الثامن والثاني عشر للميلاد. لقد أبدعوا في مجال علم الفلك، والرياضيات، والفيزياء، والطب، وعلم النبات، وعلم الجغرافيا، والفلسفة، والتاريخ، إلخ. وأكبر دليل على إقبال الناس في تلك الفترة على المعرفة ما قاله السندباد في «ألف ليلة وليلة»: «كنت أبحث عن صحبة العلماء». وهذا القول يمثل روح فترة بأسرها، حيث أثبت العرب والمسلمون مقدرتهم على فهم كل العلوم والفلسفات، بل والإضافة إليها وزيادة الإبداع إبداعاً.
ففي تلك الفترة التي تمثل العصر الذهبي من حياة العرب والمسلمين، ظهر البيروني (973 - 1048) الذي اخترع الإسطرلاب: وهي آلة قديمة لقياس ارتفاع الشمس والنجوم. وكان العرب يولون أهمية كبيرة للمعرفة بالنجوم أكثر مما كان يفعل الإغريق أو الرومان أو الألمان. لماذا؟ لأن هذه المعرفة تجنبهم خطر الضياع في الصحراء.
ومن أشهر العلماء الذين ظهروا في العالم الإسلامي نذكر ناصر الدين الطوسي (1201 - 1274) الذي بنى مركزاً لمراقبة النجوم. ولم يكن له مثيل في تلك الفترة عند أية أمة من الأمم. وعن طريق تلك الاختراعات والعلوم التقنية، استطاع العرب أن يسيطروا على الملاحة في البحار أكثر من غيرهم.
ولذلك، فإن السندباد البحري أصبح أحد أبطال «ألف ليلة وليلة» لأنه انطلق من البصرة لفتح البحار والمحيطات حتى وصل إلى الصين!! وكل ذلك ناتج عن اختراع العرب لآلات الملاحة البحرية وتحسينها وتطويرها. وقد أخذ العرب عن الصينيين البوصلة التي تفيدهم في تحديد الوجهة في أثناء السفر البري أو الملاحة في البحر، ثم نقلوها إلى الأوروبيين لكي يتعرفوا عليها. وبالتالي، ففضل العرب على أوروبا كبير.
ثم يقول لنا الباحث الفرنسي ما معناه: يصعب علينا هنا أن نستشهد بأسماء جميع العلماء والعباقرة الذين ظهروا في تلك الفترة. نذكر من بينهم فقط الخوارزمي (780 - 850) الذي اخترع علم الجبر أو اللوغاريتم. ومعلوم أنه انتقل باسمه حرفياً إلى اللغات الأوروبية. وقد استفاد منه الفيلسوف ديكارت لبناء نظرياته العلمية والفلسفية.
ونذكر الحسن ابن الهيثم (965 - 1039)، وكان واحداً من أكبر علماء الفيزياء في كل العصور. ومعلوم أنه هو الذي أسس علم البصريات، وذلك قبل العالم الأوروبي روجر بيكون (1220 - 1292) بزمن طويل. كما اكتشف قانون العطالة الذاتية الذي سيصبح أول قوانين الحركة لدى العالم الشهير إسحاق نيوتن.
وأما عن الفلاسفة، فحدث ولا حرج! فالكندي الذي مات عام 873 كان أول من اهتم بالفلسفة ودرسها وكتب فيها، ولذلك لقبوه بفيلسوف العرب الأول. ثم تلاه الفارابي (878 - 950) الذي لقبوه بالمعلم الثاني، بعد أرسطو الذي كان يدعى بالمعلم الأول. ومؤلفات الفارابي في الفلسفة السياسية والأخلاقية لا تزال تدرس في كثير من جامعات العالم.
ثم تلاه الشيخ الرئيس ابن سينا (980 - 1037) الذي تجاوزت شهرته حدود العالم العربي الإسلامي لكي تصل إلى الغرب اللاتيني المسيحي عن طريق الترجمة. ويقال إنه كان عبقري العباقرة. وكان مولعاً أيضاً بالحب والعشق والجمال. ولا داعي لأن نذكر اسم ابن رشد (1126 - 1198) الذي أصبح أستاذاً للغرب طيلة قرون عدة، عندما تحول إلى تيار فكري طويل عريض يدرسونه في جامعات السوربون، وبولونيا بإيطاليا، وكذلك جامعة بادوا، هذا بالإضافة إلى جامعة أوكسفورد، وجامعات ألمانيا، وسواها من البلدان الأوروبية. ومعلوم أن فكره ساهم في تدشين النهضة الأوروبية الأولى. وكانت قرطبة في ذلك الزمان منارة الحضارة العالمية بأسرها. وهذا يعني أن علماءنا وفلاسفتنا هم الذين دشنوا عصر التنوير، قبل أن يظهر في أوروبا بزمن طويل:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.