«اقتصادات للأكثرية» يثير جدلاً في مجلس العموم البريطاني

مطالبات باعتذار تيريزا ماي عن قراءة مغلوطة للنص

جون ماكدونيل
جون ماكدونيل
TT

«اقتصادات للأكثرية» يثير جدلاً في مجلس العموم البريطاني

جون ماكدونيل
جون ماكدونيل

ليست بريطانيا دولة فاضلة، ولا هي بأي مقياس يوتوبيا مثقفين، لكن حادثة وقعت خلال جلسة للبرلمان البريطاني أخيراً أعادت بعضاً من أمل موهوم في أن تتحول صراعات الهوية والمواقف السياسيّة المصلحيّة قصيرة النّظر - التي أفرغت العمليّة الديمقراطيّة الغربيّة من مضمونها أو كادت - إلى صيغة تبادل أفكار وجدل بين مثقفين تحكمها منطقيّة وعقلانيّة وبحث متزن عن الطريق المثلى للغد.
الحادثة تمحورت حول كتاب اقتصادي صدر حديثاً في السوق البريطانية بعنوان «اقتصادات للأكثريّة» حرره وقدّم له جون ماكدونيل وزير الماليّة في حكومة الظلّ العمالية، إذ إن تيريزا ماي رئيسة الوزراء الحاليّة لوّحت بنسختها الشخصيّة منه، بينما كانت تشن هجوماً قاسياً على السياسات الاقتصاديّة التي يطرحها حزب العمّال، مستشهدة بنصٍ من إحدى مقالات الكتاب، قالت إنه يتهم الأرقام التي تضمنها مانيفستو الحزب الذي خاض على أساسه الانتخابات العامة الماضية بأنها ليست بدقيقة ولا يمكن الارتكان إليها، وشرعت في قراءة عدة أسطر لتؤكد ذلك. ولم تمضِ دقائق قليلة حتى كان سايمون وورين - لويس كاتب المقالة التي قرأت منها ماي، وهو بروفسور اقتصاد بارز يدرّس في جامعة أكسفورد العريقة، يعلّق حانقاً من خلال موقعه على «تويتر» متهماً رئيسة الوزراء بـ«الكذب»، وبـ«إساءة قراءة النص عمداً لتحقيق غايات سياسيّة». وما لبث أن نشر مقالة على موقعه الشخصي الذي يتابعه كثير من المهتمين بعلوم الاقتصاد عنونها بـ«اليوم الذي كذبت فيه تيريزا ماي في البرلمان حول ما كتبت»، تضمنت هجوماً لاذعاً عليها واصفاً إياها بانعدام المسؤوليّة، إن كانت اعتمدت على أحد مساعديها في انتقاء النص، أو بانعدام القدرة على فهم تعبيرات بسيطة في اللغة الإنجليزيّة مثل قولنا «على سبيل الافتراض». واعتبر عدم اعتذارها منه رغم مطالبته حزب المحافظين الحاكم بذلك شخصياً - وفق كتاب رسمي أرسله إلى مقر الحزب - مثالاً على تأمرك السياسة البريطانيّة خلال العهد الحالي.
تسببت هذه الحادثة في جدالات داخل البرلمان وعلى أعمدة الصحف كما مطالبات بالاعتذار، وامتنع مقر رئاسة الوزراء رسميّاً عن التعليق، بينما اكتفت متحدثة مساعدة في البرلمان بالقول إن تلك الهفوة «لم تكن حتماً بسوء نيّة»، وقللت من أهميتها. لكن ناشر الكتاب كان كثير الابتهاج بعد تلك الحادثة، إذ إن الطلب على نسخ «اقتصادات للأكثريّة» تصاعد على نحو فلكي خلال الأيام القليلة الماضية بعد أن كانت المبيعات مقتصرة بالعادة على حلقة ضيقة من المعنيين بالسياسة ورجالات يسار حزب العمال.
وللحقيقة، فإن «اقتصادات للأكثرية» يقدّم مرافعة كينزية الطابع تتوسط الفضاء بين النقيضين؛ الرأسمالية والاشتراكيّة، عبر مجموعة مقالات شارك بها اقتصاديون مرموقون من الأكاديميات البريطانيّة مؤيدون لجيريمي كوربين الزعيم الحالي لأكبر أحزاب المعارضة، حزب العمال، وتطرح وجهات نظر بشأن بدائل ممكنة للاقتصاد النيوليبرالي المعولم الذي أخذ بزمام البلاد منذ عهد السيدة الحديدية الرّاحلة مارغريت تاتشر، وتسبب في تلك الحالة البائسة التي انتهى إليها الاقتصاد البريطاني بعد عقود من سياسات اليمين الحاكم ضاعفت من انعدام المساواة بين المواطنين، وأوصلت نسَب العوز والفقر إلى مستويات غير مسبوقة في واحدة من أغنى أمم العالم، وهي سياسات لم يعد انتقادها مقتصراً على اليسار فحسب، بل أصبحت مثار حنق المجتمع ككل.
كانت هذه السياسات قد تكثفت إثر الأزمة الماليّة العالميّة الأخيرة عام 2008، إذ لجأت الحكومات البريطانيّة المتعاقبة إلى فرض برامج تقشف وتقليص في الدفوعات الاجتماعيّة، رافقها جمود نمو مداخيل أغلب أفراد المجتمع، وجعلت من موضوع شراء منزل أو مجرّد الاحتفاظ بوظيفة مستقرّة أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة. ولذا فإن معظم الصحف البريطانيّة الكبرى، رغم ميولها اليمينية التي لا تخفى، رحبت بكتاب «اقتصادات للأكثريّة» لدى صدوره قبل عدّة أسابيع بوصفه يقدم ملامح حلول جريئة للتعامل مع الأوضاع الاقتصاديّة الخانقة والتخفيف من آثار الرأسماليّة المتأخرة دون الوقوع في رطانة الماركسيين المعهودة عن التحوّل «الجذريّ» إلى نظام اشتراكي ولو ببرنامج الحد الأدنى. ولعل كفاءة الكُتّاب ومهنيّتهم وسمعتهم الأكاديميّة الرفيعة في كبريات الجامعات البريطانيّة ومراكز الأبحاث الرصينة منحته رصيداً آخر منع عنه الاتهامات التي تطلقها صحف لندن على عواهنها عند نقدها كتب اليسار بوصفها أعمالاً مؤدلجة لا تؤخذ بالجديّة التي تستحق سوى في دوائر ثقافيّة محدودة.
«اقتصادات للأكثريّة» يدفع القارئ للتفاؤل بمزيد من عدالة مجتمعيّة عبر أفكار متفاوتة لتعديل أنظمة ملكيّة الشركات بمنح حصص ولو ضئيلة للعاملين فيها، والتخفيف من الآثار السلبيّة المترتبة على سياسات النفس القصير في إدارة الاستثمارات والمؤسسات الماليّة عموماً، واستعادة ملكيّة مؤسسات الخدمات العامة كالنقل والقطارات والبريد إلى القطاع العام مجدداً، كما تنفيذ أوسع برامج لاستثمارات خضراء بغرض تحسين كفاءة شبكات البنية التحتيّة المتردية في البلاد، ومدّ نطاق اللامركزيّة إلى حدود قصوى.
وعلى الرغم من أن إحدى مقالات الكتاب عددت منافع اقتصاديّة في حال تمّت عمليّة الخروج من عضوية الاتحاد الأوروبي وفق ما تسعى إليه الحكومة البريطانيّة، فإن أخرى اقترحت تضامناً أوروبياً شاملاً ونوعاً من فيدراليّة عريضة تُمنح سلطات واسعة عبر الحدود لمواجهة تهرّب الشركات المعولمة الكبرى من دفع الضرائب في الأسواق المحليّة واستفادتها غير العادلة من الجنان الضريبيّة لتعظيم الأرباح على حساب المستهلكين.
على أهميته البالغة في صياغة فكر اقتصادي بديل لبريطانيا، فـ«اقتصادات للأكثريّة» يظلّ مع ذلك دون مستوى مانيفستو لبرنامج اقتصادي متكامل، إذ لا حلول محددة فيه لإدارة مشكلات الإسكان المستعصية، أو ارتفاع معدلات الشيخوخة بين المواطنين، أو حتى كيفيّة إدارة مؤسسات التعليم والصحة والأمن العام، ناهيك بالتعامل مع القوّات المسلحة أو صناعة معدات القتال، وهو أمر لم ينكره محرر الكتاب الذي اعتبره مجرد نموذج مختصر للأنساق المعرفيّة التي يستلهم منها حزب العمال سياساته الاقتصادية والاجتماعية. كما أن انتقادات كثيرة وجهت إلى مقاطع محددة منه بوصفها لا تمتلك إسناداً علميّاً كافياً، وبأنه كله لا يتمتع بالتماسك والانسجام معاً في طروحاته أو حتى لغته. وقد اعتبرته إحدى المجلات السياسية الأسبوعيّة «سبكتاتور» كأنه يستهدف التمايز مع تيار يمين حزب العمّال أكثر من كونه نقيضاً تاماً لسياسات حزب المحافظين.
مع ذلك، فإن تيريزا ماي بهفوتها العلنيّة أثناء استعراضها غير الموفّق لقراءاتها، منحت دونما قصد قطاعاً عريضاً من المواطنين الفرصة لتذوّق سلّة طازجة متخمة بأفكار اليسار الجديد في بريطانيا التي تكتسب مؤيدين آخرين كل يوم بين جمهور الغاضبين والمتضررين من النموذج الاقتصادي الذي يدعمه المحافظون، وهي بذلك تسببت في كسر الرّهبة من مغبة التعاطي مع الفكر الاشتراكي عموماً، وهي رهبة بنتها عقود الحرب الباردة في أذهان المواطنين العاديين، بوصف ذلك الفكر رجزاً من عمل الكرملين، مهما احتوى طروحات قد تهم القطاع الأوسع منهم، وهي بالهفوة ذاتها منحت طاقم كوربين ورفاقه نافذة أعرض لمخاطبة المثقفين والأكاديميين على الجانب الآخر من خط الانقسام بين اليمين واليسار.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.