عالم الكبار كما يؤوله الأطفال

«ما لا تعرفه عن الأميرات» للكويتية سعداء الدعاس

عالم الكبار كما يؤوله الأطفال
TT
20

عالم الكبار كما يؤوله الأطفال

عالم الكبار كما يؤوله الأطفال

في معظم قصصها القصيرة التي ضمتها مجموعتها «ما لا تعرفه عن الأميرات»، تتلبس القاصّة والروائية الكويتية سعداء الدعاس شخصية صبية في سن الطفولة، فيكون سرد الحكاية بضمير الغائب، لكنه بشكل ما يقترب من صوت البطلة نفسها. كذلك سيتلمس القارئ البناء المسرحي للمشهد واستثمار بعض الأعمال المسرحية في إدخال بعض تفاصيلها ضمن النص القصصي نفسه، وهذا بالتأكيد بفضل اختصاص الكاتبة الدعاس في مجال الإخراج المسرحي. العنصر الثالث الذي يميز قصص هذه المجموعة هو تنوع الخلفية المحلية؛ فهناك قصة تدور أحداثها في حلب اليوم داخل جحيم الحرب الأهلية، وأخرى في القاهرة، وثالثة في ريف بأفغانستان، ورابعة في العراق. وهناك قصص قابلة لأن تكون في أكثر من مدينة عربية مثل «الحارس السادس».
جذبتني قصة «المشهد الأخير» التي أراها أكثر النصوص تماسكا وخلوا من النهايات المأساوية المفاجئة، كذلك خلوها من القصدية، فالطفلة «فرح» ابنة بواب قصر الثقافة في مدينة البدرشين التابعة لمحافظة الجيزة، تنجذب إلى موظفة تعمل في هذه المؤسسة اسمها «أميرة»، فتقدم لها كل الخدمات خلال ساعات عملها، عن حب صافٍ، وعن تأويل يناسب عمرها: فالصغيرة «فرح» ربطت بخيالها بين القصر و«أميرة» التي تعمل فيه، وصاغت منهما «أميرة القصر»، وبذلك تحولت هذه الموظفة العادية إلى شخصية أسطورية بالنسبة إليها.
وما يعمق هذا الانتماء لعالم القصر السحري تلك العروض المسرحية التي تقدم على خشبته، ثم تأتي الصدمة حين تسترق «فرح» السمع لحديث يدور بين الموظفة «أميرة» والممثلة التي أدت دور «أوفيليا» بمسرحية هاملت، فيصدمها ما تقوله الأولى للثانية عنها: إنها ليست سوى ابنة البواب التي تأتي لتخدمها مقابل ما تقدمه الموظفة «أميرة» لها من مساعدة! وكأن عالم الكبار الذي قُتل الحلم فيه لا يتورع عن قتل الحلم في نفوس الصغار أيضا، حين تنسحب «فرح» من هذه المملكة الوهمية لتعود إلى سكنها الصغير المخصص لبواب المبنى، هاجرة إلى الأبد القصر وأميرته المسحورة.
هذا التأويل المختلف للأشياء بين الكبار والصغار يتكرر في القصة الأولى التي تدور في حلب (من دون ذكر اسم المدينة) حيث يُقنع الكبار صغارهم بأن من يُقتل منهم يصبح عصفورا في الجنة، والصغيرة بطلة القصة تغبط أولئك الصغار الذين أصبحوا عصافير، وعلى الرغم من الطابع المباشر في القصة، فإنها تبتعد عن السقوط بمطب التسييس للحدث، بل يظل الإيقاع محافظا بخيط من الدعابة السوداء التي قد يختلط بفضلها ضحك المتلقي بدموعه. إنها قصة تدين الحروب ومشعليها عبر زاوية نظر الصغار، فأولئك الصغيرات لا ينظرن إلى الموت إلا بوصفه معبرا إلى عالم العصافير واللعب معا هناك في عالم خال من العنف والبشاعة.
يبدو لي أن القاصة سعداء الدعاس تهيئ الحكاية التي تسمعها أو تقرأ عنها في مخيلتها على أنها سيناريو قصير ثم تبدأ على ضوئه صياغة أجزاء القصة وإقحام أقصى ما يمكن من تفاصيل تخدم نمو الحدث. في حكاية «أسرار الحارس السادس» نتابع مسار حياة فتاة منذ طفولتها حيث يتركز السرد حول علاقتها بأصبعها السادسة.
وإذا كانت أمها أقنعتها في سن مبكرة جدا بأنه موجود لحراسة الأصابع الخمس الأخرى، فإن هذا التبرير يتغير من مرحلة إلى أخرى. وإذا كانت مضايقات الآخرين تتلازم معها في كل مراحل حياتها حتى حين إكمالها الدراسة الجامعية، فإن القارئ قد يلمس أن هذه الأصبع الزائدة التي تثير الغرابة في نفوس الآخرين وتجذب أنظارهم إليها منحت صاحبتها قوة مقاومة أكبر وإرادة أصلب لتحقيق تميزها واعتراف الآخرين بها.
هناك قصص أخرى شديدة السنتمنتالية، وهي أقرب إلى الخواطر منها إلى معمار القصة القصيرة، مثل تلك التي تدور في «المشهد الأخير» وهي نوع من إعادة حكاية مقتل أولئك البنات في أرياف أفغانستان وبعض مناطق باكستان بسبب إصرارهن على الذهاب إلى المدارس، لكن القصة القصيرة لا تسعى إلى تصفية حسابات بقدر ما تكشف عن زوايا ما في التجربة الإنسانية.
قتل البنات في سن الطفولة يكاد تكون سمة في كثير من قصص المجموعة، وغالبا ما يكون القتل مفاجئا كأنه أقرب إلى قدر مرسوم مسبقا. في القصة المذكورة آنفا تُقتل البطلة المصرّة على التعلم «شبانا» على يد شخص مجهول، وفي «لعبة الموت» تموت الطفلة ذات الثمانية أعوام بعد تزويجها من رجل في سن الثمانين، ويبدو كأن الحدث يدور في مخيم للاجئين السوريين، وبالتالي فهو تحويل لحوادث مشابهة من الواقع إلى نص قصصي متخيل.
يتغير صوت الراوي في قصة «الذين أرغب في قتلهم» ليصبح صوت البطل نفسه، والبطل جندي أميركي مكلف مداهمة بيت ما (وهو من دون ذكر المكان يشير إلى العراق) والمبرر لذلك وجود «إرهابي» فيه. بعد قتل الأب والأم يفاجأ هذا الجندي بوجود طفلين في غرفة؛ بنت في سن الخامسة، وولد في سن الثالثة. وعلى الرغم من أن مشهدهما يثير في نفسه تعاطفا ما معهما لإثارة ذكرى طفلته في أميركا وطفله المتوفى، فإنه في المقابل يعطي أوامره بتفجير البيت.
وحال الانتهاء من ذلك، يطلق النار على نفسه. لعل هذه القصة مبنية على قصة حقيقية، لكن عند نقلها إلى الورق بوصفها قصة متخيلة فقدت حقيقتها الفنية إذا جاز القول، لأن أدب الخيال معني بنقل ما هو قابل للحدوث والتكرار؛ أكثر مما هو قابل للحدوث مرة واحدة ووفق صدفة ما.
«ما لا تعرفه عن الأميرات» إضافة لأدب القصة القصيرة في المكتبة العربية؛ فحبكة نصوصها بارعة، إضافة إلى ما تتضمنه من تجريب في الجمع بين الحوار العامي المكثف واللغة الفصحى في السرد، وتجريب في اختيار الموضوعات، وربطها في أغلب القصص ببنات في سن الطفولة.


مقالات ذات صلة

محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

ثقافة وفنون محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

كل قراءة أو «إعادة» قراءة لشاعر هي قراءة جديدة. ما مِن إعادة بمعنى التكرار إزاء النصوص المخترقة لزمنها، المتقدمة عليه.

باسم المرعبي
ثقافة وفنون متاهة سردية وبطل يعاني من التهميش

متاهة سردية وبطل يعاني من التهميش

يهدي محمد فرج مجموعته القصصية «شيء ما أصابه الخلل» - دار «المرايا» بالقاهرة - «الكازّين على أسنانهم أثناء النوم»، في تهيئة مُبكرة لما يواكب عالم المجموعة

منى أبو النصر (القاهرة)
يوميات الشرق جانب من افتتاح جناح مدينة الرياض في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب 2025 (واس)

افتتاح جناح «الرياض» في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب 2025 بالأرجنتين

نطلقت، أمس، فعاليات الدورة الـ49 من معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب 2025، الذي تنظمه مؤسسة الكتاب في الأرجنتين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب رواية «صلاة القلق» للكاتب المصري محمد سمير ندا (صورة من صفحة الكاتب على «إنستغرام»)

فوز «صلاة القلق» للمصري محمد سمير ندا بجائزة الرواية العربية

فاز المصري محمد سمير ندا بالجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الثامنة عشرة اليوم الخميس عن روايته (صلاة القلق) الصادرة عن منشورات ميسكلياني.

كتب الشباب العربي يريد قائداً قوياً ودوراً أكبر للدين

الشباب العربي يريد قائداً قوياً ودوراً أكبر للدين

مفاجآت عدّة وإجابات غير متوقعة، تحملها الدراسة التي أجرتها مؤسسة «فريدريش إيبرت» الألمانية على 12 ألف شاب وشابة من العالم العربي

سوسن الأبطح (بيروت)

«مراسم رشيد» تستعيد مشروع «وصف مصر» تشكيلياً

لوحة للفنانة أماني زهران تستعيد شخصية «زبيدة» (الشرق الأوسط)
لوحة للفنانة أماني زهران تستعيد شخصية «زبيدة» (الشرق الأوسط)
TT
20

«مراسم رشيد» تستعيد مشروع «وصف مصر» تشكيلياً

لوحة للفنانة أماني زهران تستعيد شخصية «زبيدة» (الشرق الأوسط)
لوحة للفنانة أماني زهران تستعيد شخصية «زبيدة» (الشرق الأوسط)

بمشاركة 17 فناناً يمثلون مختلف المدارس والأجيال الفنية في مصر، افتتح الفنان طارق الكومي، نقيب الفنانين التشكيليين، معرض «ملتقى مراسم رشيد للرسم والتصوير» الذي يضم 36 لوحة، ضمن مشروع «وصف مصر» الذي انطلق عام 2019 ليقدم رؤية تشكيلية معاصرة توثق ملامح وتاريخ المحافظات المصرية.

وقالت الفنانة فيفيان البتانوني، مديرة عام الفنون التشكيلية بهيئة قصور الثقافة، (الجهة المنظمة للمراسم) بوزارة الثقافة المصرية، إن المراسم تعتمد على خطة طموحة تشمل جميع محافظات مصر، وجارٍ حالياً الإعداد لاستكمال الجولات هذا العام في محافظات سوهاج، وأسيوط، والغربية، والشرقية.

لوحات متعددة شهدها المعرض تُعبّر عن مدينة رشيد (وزارة الثقافة المصرية)
لوحات متعددة شهدها المعرض تُعبّر عن مدينة رشيد (وزارة الثقافة المصرية)

وعدّت اختيار مدينة رشيد (شمال مصر) لتنفيذ فعاليات الملتقى؛ كونها تتمتع بموقع جغرافي متميز، وتجمع بين ثقافات مختلفة، الأمر الذي أتاح للفنانين فرصة تقديم أعمال ثرية بصرياً وموضوعياً. وفق بيان لوزارة الثقافة.

وشارك في المعرض الذي يستمر حتى 27 أبريل (نيسان) الحالي بمركز الهناجر في محيط الأوبرا المصرية، الفنانون صباح نعيم، وعماد إبراهيم، وهاني رزق، وفرح عمرو سلامة، ورشا سليمان، وأماني زهران، ويارا حاتم شافعي، وعمر الفيومي، وطارق الشيخ، ومحمد دسوقي، ومحمد غالب، وسيف الإسلام، وسمت سامي، وغادة النجار، وفاطمة عادل، وأميرة العطار، والقوميسير العام للمراسم الفنان عماد أبو زيد.

الفنان عماد أبو زيد قدم لوحة عن مراكب رشيد (الشرق الأوسط)
الفنان عماد أبو زيد قدم لوحة عن مراكب رشيد (الشرق الأوسط)

وأكد أبو زيد اختيار أسماء بارزة من أجيال مختلفة للمشاركة في الفعاليات من أجل توثيق تراث مدينة رشيد، مما ساعد على وجود تفاعل ثقافي وبصري.

وأوضح أن «الأعمال الفنية المقدمة جاءت لتعبر عن روعة العمارة الإسلامية بالمدينة التراثية مثل مسجد أبو مندور الواقع على ربوة عالية، وهناك أيضاً الطاحونة القديمة الموجودة التي تمثل نموذجاً نادراً في العمارة المصرية التقليدية، وغيرها من الأعمال التي جمعت مفردات بصرية متنوعة مثل شخصية (غادة رشيد) التي برزت خلال فترة الحملة الفرنسية».

ويشارك أبو زيد بلوحتين إحداهما توثق منظراً طبيعياً يجمع مسجد مندور وصناعة المراكب، والأخرى تتناول عناصر من المشربيات والأسقف الخشبية والزخارف الإسلامية الفريدة الموجودة في بيوت رشيد، بالإضافة إلى الطوب الأحمر المحروق الذي اشتهرت به رشيد على وجه الخصوص.

وقدمت الفنانة أميرة العطار، مشرفة الملتقى، لوحات فنية تعكس الطابع المعماري للمدينة، من خلال التركيز على بعض العناصر كالمشربيات، إلى جانب الترسانة والمراكب لكونهما جزءاً أصيلاً من هوية البيئة المحلية.

لوحات المعرض وثقت تراث مدينة رشيد (وزارة الثقافة المصرية)
لوحات المعرض وثقت تراث مدينة رشيد (وزارة الثقافة المصرية)

وقالت الفنانة أماني زهران، إنها شاركت في الملتقى بلوحتين: الأولى تجسّد الشخصية التاريخية المعروفة «زبيدة»، التي تزوجت من الجنرال مينو، خلال الحملة الفرنسية على مصر. وأضافت لـ«الشرق الأوسط» أنها سعت لتقديم الروح المصرية الأصيلة التي تمثلها مدينة رشيد عبر تفاصيل مختلفة، واهتمت بملامح الشخصية المصرية، بعد أن زارت منزل والد زبيدة، و«استعنت بزخارف حجر رشيد في التصميم، مع إبراز صورة مسجد أبو مندور في خلفية المشهد من خلال النوافذ المصنوعة من الأرابيسك».

وأوضحت أن التجربة الثانية بعد العودة رسمت فيها «صيادي رشيد» ويظهر فيها مجموعة من الصيادين بجوار سور الكورنيش، مع خلفية المنازل والمراكب التقليدية، بما يعكس روح المدينة وجمالها المتفرد. ولفتت إلى التنوع الكبير في الأجيال والمدارس الفنية التي يمثلها الفنانون المشاركون في «مراسم رشيد».

وشارك الفنان محمد دسوقي، بلوحتين جسد فيهما مشاهد الصيد والمراكب، بالإضافة إلى أجواء الطبيعة الخلابة التي تتميز بها المدينة.

الفنان محمد دسوقي اهتم بمجتمع الصيادين (الشرق الأوسط)
الفنان محمد دسوقي اهتم بمجتمع الصيادين (الشرق الأوسط)

وأشارت الفنانة رشا سليمان، إلى مشاركتها بلوحتين عبَّرت خلالهما عن الطبيعة والتراث المعماري للمدينة، مستعينة بعدد من الرموز منها المراكب، والصيادين، والمسجد الموجود في المدينة، بالإضافة إلى الأبنية القديمة التي لا تزال تحتفظ بعبق التاريخ، والطاحونة بكل تفاصيلها الدقيقة من تروس وزخارف، وغيرها.

وشاركت الفنانة يارا حاتم، بلوحة عن بيت زبيدة (المتحف القومي للمدينة حالياً)، ضمت عدة عناصر منها المسجد المعلق بما يشمله من زخارف مميزة.

وشارك الفنان عمر الفيومي، بلوحة بانوراما بعنوان «الطريق إلى رشيد»، أوضح خلالها أهم معالم المدينة.

وقدمت الفنانة فاطمة عادل لوحتين؛ الأولى لعدد من العازفين على العود وآلات موسيقية أخرى، بينما تتابع النساء المشهد من النوافذ العلوية للمنازل.

أما الثانية فحملت عنوان «لقمة عيش» عبّرت خلالها عن حياة أهل المدينة وسعيهم لطلب الرزق، من خلال المركب والسمكة الملونة باللون الأصفر الذي ساعد على وجود تباين بصري مع الخلفية.

وتقع مدينة رشيد على البحر الأبيض المتوسط، أقصى الشمال الغربي لدلتا مصر، وهي مصب لأحد أفرع نهر النيل، واشتهرت خلال الحملة الفرنسية، حيث استوطنتها الحملة لفترة، وتم اكتشاف أحد أهم الآثار التي انطلق منها العالم الفرنسي شامبليون لفك رموز اللغة الهيروغليفية والتعرف على تاريخ الحضارة المصرية، من خلال حجر رشيد.

ونظمت هيئة قصور الثقافة من قبل مراسم متنوعة في محافظات مختلفة، من بينها مراسم بني حسن في محافظة المنيا، خلال نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، استلهم فيها 15 فناناً الحضارة المصرية القديمة من معابد ومقابر وآثار مختلفة في أعمالهم الفنية.