قبل أن يستقر المخرج لوكا غوادانينو على الممثلة داكوتا جونسون لقيادة فيلمه الجديد «سسبيريا» («تنهدات»)، اتصل بالممثلة نتالي بورتامن وعرض عليها الدور. آنذاك كان مخرج «نادني باسمك» الذي حط رحاله في موسم الجوائز في العام الماضي منتجاً للفيلم وكان ديفيد غوردن غرين هو المخرج المنتقى للعمل.
لكن نتالي بورتامن لم تعجب كثيراً بالمشروع وانسحب ديفيد غوردن منه كذلك ليحقق فيلم الرعب الآخر «هالووين» الذي، مثل «سسبيريا» من تلك المعروضة عالمياً هذه الأيام. هنا قرر المنتج غوادانينو أن يقوم بتحقيق الفيلم بنفسه وقام بهندسة سيناريو يستعيد فيه الممثلين الذين لعبوا في فيلم أسبق له هو Bigger Splash ومن بينهم راف فاينس وأوروري كلمنت وماثيو شووَنارتس وداكتوتا جونسون وتيلدا سوينتون.
لاحقاً عندما أدرك أنه ليس كل طاقم فيلمه ذاك (حققه سنة 2015) متوفر أو مكترث اكتفى بالممثلتين جونسون وسوينتون التي كانت مثلت أربعة أفلام سابقة من إخراجه.
مدرسة الرعب
في الأصل، وكما هو معروف للمتابعين والهواة، فإن «سسبيريا» إعادة صنع لفيلم بالعنوان ذاته كتبه وأخرجه داريو أرجنتو (شاركته الكتابة داريا نيكولادي) وذلك سنة 1977. بطلته كانت جسيكا هاربر في دور الأميركية التي وصلت إلى برلين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بسنوات قليلة لتنخرط في مدرسة لتعلم الباليه.
هناك داخل المدرسة تكتشف جانباً آخر لما تقوم عليه: اختفاء طالبات بطريقة غامضة ومقتلهن لكونهن أدركن حقيقة مستترة ومخيفة تتعلق بممارسات المدرسة الإجرامية تنفيذاً لتعاليم مؤسسة تحت أرضية.
قصّة مماثلة كانت نشرت في سنة 1974 بقلم لويس دنكن تتناول ما يحدث لفتيات يلتحقن بمدرسة أميركية خاصة تقع في بعض الغابات المنعزلة وبينهن الفتاة التي دخلت المدرسة حديثاً والتي تكتشف أن هناك ما هو أكثر بكثير من مجرد تعلم المواد المدرسية. الرواية تم تحويلها إلى فيلمDown a Dark Hall تم عرضه بنجاح ضئيل في أسابيع سابقة من هذا العام.
لكن توارد الخواطر ممكن. في نهاية الأمر هناك كثير من أفلام الرعب التي تتحدث عن الانتقال للعيش في بيت مسكون بالأرواح الشريرة. الكثير من الأفلام التي تتناول ما قد يحدث إذا ما ضاع أفراد العائلة أو بعض الجوّالين في رحاب البلاد ليجدوا أنفسهم في مواجهة بيئة من القتلة أو تلك الفتاة الشابة التي تعمل مربية أطفال تدافع عن حياتها وحياة الطفل الذي ترعاه ضد قتلة مفاجئين.
ما هو مشترك بين «عند قاعة مظلمة» و«سسبيريا» في نسختيه هو أن الضحايا والقتلة من النساء فقط. بذلك فإن النساء في هذه الأفلام الثلاثة هن ضحايا نساء أخريات، رسالة غير موقوتة في زمن «مي تو» ونداءات المساواة.
نسخة داريو أرجنتو يتبع، في كل الأحوال، مدرسته في سينما الرعب الدموي. بدايته مثيرة للاهتمام بصرف النظر عن كم العنف الحاصل فيما بعد. جسيكا هاربر تصل المطار في ليلة عاصفة وتدلف إلى سيارة التاكسي وتعطي السائق عنواناً بعيداً. المطر ما زال منهمراً بغزارة حين وصول الشابة الأميركية إلى العنوان، وهي تشاهد فتاة شابة أخرى تغادر مبنى المؤسسة وتركض تحت المطر طالبة النجاة. لا تفهم ما يحدث لكنها تطرق باب المؤسسة لكي تدخل وعندما لا يفتح أحد تغادرها لتعود في اليوم التالي.
«سسبيريا» الأول بلا ضوابط فنية ولا رغبة في حياكة عمل مدروس لأي غاية باستثناء غاية طلاء الشاشة بلون الدم. وهو، ضمن هذا التفضيل، ينجز جزءاً إضافياً من عالمه المفضل ينتمي إلى باقي أفلامه في تلك الفترة وما بعدها ولو منلفتاً من أي عقال أسلوبي متين. الناتج هو نجاح في الكيفية التي يود هو تحقيقها مع وجود عدد من الأفكار الجيدة والنافذة إلى ما يعتبره هواة أفلام الرعب من الكلاسيكيات، كمشهد سقوط إحدى الضحايا في غرفة مليئة بالأسلاك الشائكة هرباً من مطاردة قاتل مترصد فتحاول النجاة منها لكن كلما حاولت ذلك أحاطت بها تلك الأسلاك حتى قضت عليها.
أرجنتو خط عملاً لا يكترث لأن ينتمي إلى مدرسة فنية، لكن ذلك لا يعني أن المخرج لم يمارس فناً فيه. ديكورات المكان. اللون الأحمر الذي يوزّعه في الغرف وسواها. الكاميرا اللاهثة. الموسيقى المستخدمة وكذلك شريط الصوت بأسره، كلها أدوات استخدمها بمهارة، وصاغ منها فيلم رعب ينتمي إلى مدرسته هو.
ما هو مفقود في نسخة غوادانينو الجديدة هو كل هذا التمازج الجيد والموقوت بالإضافة إلى أن ما سرده أرجنتو في ساعة ونصف مثيرتين يستغرق ساعتين وثلث الساعة تزداد إثارة للملل بعد الساعة الأولى وحتى النهاية تحت يدي غوادانينو غير الخبيرتين.
حين يصوّر غوادانينو بطلته وهي ترقص، مصرّاً على استخدام الشهقات على نحو منفر، ثم يقطع عنها لمشهد مطوّل لكيف يتم قتل إحدى زميلاتها بحركات بدنية عنيفة تحتوي على لوي أقدام وكسر أذرع وتحطيم عظام، فإن المنساب إلى المشاهد هو استماتة للعبة مكشوفة قوامها الربط بين حركتين، واحدة باسم الفن والأخرى باسم العنف، لعلها تمنح الفيلم بعض ذرائعه. لكن لا شيء يمضي حسب المخطط له سوى هبوط مستوى الفيلم من شبه الجودة إلى شبه الرداءة المطلقة.
وبينما تتم الجريمة في نسخة 1977 من دون مدعاة للانتقال بينها وبين مشهد آخر لئلا يفقد المشاهد اهتمامه بأي منهما، يعتبر غوادانينو أن الانتقال ما بين داكوتا جونسون (ترقص الباليه)، وبين الجريمة التي تقع في غرفة قريبة شيء من المحاكاة والتواصل بين فعلين يحتويان، بمقادير مختلفة، عواطف جنسية مكبوتة. تلتوي جونسون تبعاً للموسيقى وتلتوي الأخرى تبعاً لتعذيب مفاجئ وحيدة في غرفة القتل. وإذ ينتقل المخرج ما بين المشهدين يخسر قيمة كل مشهد الفعلية بينما يخسر كذلك الإثارة التي كان من المفترض بالفيلم إنجازها عبر هذا التوليف.
اللعب على حبلين
المدرسة هي عالم النساء اللواتي يعشن ويدرسن ويقتلن - أو يُقتلن - فيه. هناك وافد من الخارج عبارة عن طبيب نفسي لجأت إحدى الطالبات إليه لمساعدتها. إنها باتريشا (كلو غرايس مورتيز) التي تكاد أن تفقد عقلها بعدما اكتشفت أن المدرسة لها وظيفة أخرى غير تعليم الرقص. يتابعها الطبيب (تلعب دوره في تمويه جيد تيلدا سوينتون) محاولاً فهم ما تتحدث عنه. حين تختفي يبدأ تحرياته لمعرفة ما حدث لها معتمداً على حقيبة أوراق مكتوب عليها طلاسم غير مفهومة.
هو ليس الوحيد الذي يحاول كشف الألغاز بل هناك بطلة الفيلم أيضاً وكل هذا البحث يؤدي إلى الفصل الأخير من المشاهد حيث يتبين لها أن هناك شعائر شيطانية تقودها امرأة لها من العمر بضع مئات من السنين، لكن سوزي / داكوتا تقضي عليها ليس من باب تخليص المدرسة من شرها بل لتحل مكانها.
في مجموعه يحاول غوادانينو القفز على حبلين معاً: تحقيق فيلم رعب عبر جماليات فنية يستخدم فيها الرقص والموسيقى وتوزيع اللقطات وأحجامها كما لو أنه مهتم فعلاً بنقل الجانب الفني لرقص الباليه في فيلم آخر غير الذي ينصرف لتنفيذه. هو لا يلعب جيداً لا على الحبل الأول ولا على الحبل الثاني ولو أنه لا يسقط أرضاً في الوقت ذاته.
يحاول كذلك زرع بعض المضامين لعلها ترفع من مستوى ما يطرحه. مشاهد حول اضطرابات شبابية وأخرى حول عصبة بادر - مانهو. ولا واحد من هذه المشاهد يترك أثراً حتى على سطح ما يدور، ناهيك بالتأثير المعمق. إنه مجرد استخدامات دارجة يلجأ إليها مخرجون يعتقدون أنه بضم من مثل هذه الإشارات يطرحون رسالات سياسية.
تتبلور عند المخرج غوادانينو استحالة تمنع قصة مثل قصة الفيلم من التحول إلى حالة فكرية يحاول هذا الفيلم الوصول إليها. استحالة أخرى تكمن في استخراج معادلة صحيحة للجمع بين ما هو مرعب ومشوّق وبين كل ذلك الحديث حول الهولوكوست والتاريخ والمدينة المنشطرة والأنفس المولعة بغرام الحركة. الدرس هو أن فيلم رعب يحتاج إلى فن حقيقي يوفره مخرج يمتلك القدرة على العمق والتخويف معاً. إلى معالجة مختلفة توفر معايير فنية عالية كما حال «لمعان» لكوبريك أو «سايكو» لهيتشكوك مثلاً.
مثل «هالووين» الحالي (وباقي السلسلة بالفعل) فإن المرأة هي في خطر الموت. الفارق أن الجاني هذه المرّة هي امرأة أخرى وليس رجلاً بعقدة نفسية يتحرك بواعز شيطاني. لكن في النهاية يصيغ «سسبيريا» الجديد مفاداً خفياً إلى حد، وهو الخوف من الإناث عموماً. وهو خوف كاره، خصوصاً وأن الخير لا ينتصر في هذه اللعبة ويلجأ إلى الشر كشرط وحيد للنجاة.
المرأة ضد المرأة في «سسبيريا»... عمل أنتج عام 1977 ويُعاد تخيّله اليوم
تعليم الرقص في مدرسة للقتل
المرأة ضد المرأة في «سسبيريا»... عمل أنتج عام 1977 ويُعاد تخيّله اليوم
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة