لبنان: مخاوف من عودة ألف مقاتل ذابوا في بحر المتشددين في إدلب

إجراءات لضبط معابر التهريب الحدودية... ودعوات لاستراتيجية لا تقتصر على المقاربة الأمنية

مواطن سوري يقود دراجته وسط مبانٍ سكنية مهدَّمة بفعل قصف النظام أحياء مدينة إدلب (أ.ف.ب)
مواطن سوري يقود دراجته وسط مبانٍ سكنية مهدَّمة بفعل قصف النظام أحياء مدينة إدلب (أ.ف.ب)
TT

لبنان: مخاوف من عودة ألف مقاتل ذابوا في بحر المتشددين في إدلب

مواطن سوري يقود دراجته وسط مبانٍ سكنية مهدَّمة بفعل قصف النظام أحياء مدينة إدلب (أ.ف.ب)
مواطن سوري يقود دراجته وسط مبانٍ سكنية مهدَّمة بفعل قصف النظام أحياء مدينة إدلب (أ.ف.ب)

تجددت المخاوف اللبنانية من تسلل عناصر متشددة عائدة من سوريا والعراق إلى لبنان، إثر تصاعد عمليات التهريب عبر قنوات غير شرعية من سوريا إلى العمق اللبناني، يتكفلها أشخاص لبنانيون وسوريون، وتُقابل باستنفار أمني لبناني على الحدود وفي الداخل، وسط معلومات عن ألف لبناني كانوا ملتحقين بتنظيمات متطرفة في سوريا، باتوا في إدلب، تحتاج معالجة أمورهم إلى استراتيجية تضعها السلطات اللبنانية، لا تقتصر على المقاربة الأمنية.
ونشطت عمليات التهريب أخيراً عبر الحدود اللبنانية السورية، إثر إحكام القوات النظامية السورية سيطرتها على الحدود مع لبنان؛ وهو ما رفع وتيرة الإجراءات الأمنية التي تفرضها السلطات اللبنانية في المنطقة الحدودية وفي الداخل؛ منعاً لتسلل الأشخاص، ومنعاً لأن يكون بينهم متشددون عائدون من القتال في سوريا والعراق.
وقالت مصادر عسكرية لبنانية لـ«الشرق الأوسط»، إن عمليات التهريب في منطقة البقاع، وخصوصاً من جهة بلدة الصويري اللبنانية «ليست جديدة»، وإن هناك محاولات دائمة من قبل المهربين لتهريب الأشخاص من سوريا إلى لبنان عبر تلك المنطقة. وأكدت المصادر في الوقت نفسه، أن الجيش اللبناني يتعامل مع تلك الوقائع عبر «تنفيذ دوريات دائمة وكمائن، لمنع تسلل الأشخاص إلى العمق اللبناني». وأكدت المصادر، أن الجيش اللبناني «يوقف على الدوام المتسللين، ويسلمهم للأمن العام».
غير أن ملف التسلل، ينطوي على مخاطر كثيرة لجهة تسرب عناصر متطرفة شاركت في القتال في صفوف تنظيمات إرهابية في سوريا والعراق، بموازاة تقلص الملاذات الآمنة للتنظيمات الإرهابية، وانحسار رقعة النفوذ ورقعة المعارك. وقالت مصادر عسكرية، إن قائد الجيش العماد جوزيف عون لطالما حذر من هذه المرحلة وتطرق إليها، وأعطى توجيهات لمواكبتها عبر تشديد الإجراءات، بعدما شارفت الحروب على الانتهاء في المنطقة، وخصوصاً في العراق أو سوريا، وهو حذر من عودة هؤلاء الأشخاص إلى الداخل اللبناني. لذلك، «ينشط الجيش على الحدود وفي الداخل عبر مديرية المخابرات لملاحقة الأشخاص الذين يشكلون خطراً على الأمن والاستقرار»، بحسب ما أكدت المصادر.
وكشفت العملية الأمنية التي نفذها الجيش اللبناني في يناير (كانون الثاني) 2018، وأسفرت عن توقيف شخصين مشتبه بهما في عرسال، كانا يقاتلان في وقت سابق في صفوف تنظيم جبهة النصرة قبل عودتهما إلى لبنان، عن خطر أمني جديد يتمثل في عودة العناصر المتطرفة من القتال في صفوف التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق، إلى لبنان. وتلت العملية تلك، عملية أمنية أخرى في فبراير (شباط) الماضي في مدينة طرابلس في شمال لبنان، وأسفرت عن مقتل عسكري لبناني، والمطلوب العائد من القتال في صفوف «داعش» في سوريا عبد الله هاجر.
وبدأت موجات الانخراط اللبناني في صفوف التنظيمات المتطرفة في عام 2012؛ إذ رصد في السابق انضمام عشرات اللبنانيين الذين قاتلوا في صفوف التنظيمات المتطرفة؛ وقتل بعضهم في معارك اندلعت في مناطق حدودية مع لبنان في ريف حمص الغربي وفي ريف دمشق الشمالي في القلمون. وفي حين كان البعض يقاتل في صفوف فصائل سورية متشددة، بدأت موجة النزوح نحو «داعش» في عام 2014. وكُشف عن الأمر إثر إعلان التنظيم عن مقتل 3 لبنانيين في أواخر عام 2014، وذلك في معارك خاضها ضد الأكراد في العراق وسوريا، وضد القوات الحكومية السورية في مطار دير الزور العسكري. وتقبلت عائلات لبناني على الأقل التعازي بمقتل ابنها في طرابلس في شمال لبنان، بعد تلقيها نبأ مقتله.
ولا تخفي مصادر مطلعة في شمال لبنان، أن المنضمين إلى تنظيمات متطرفة في العراق وسوريا، انتقلوا إليها عبر التهريب من الأراضي اللبنانية إلى الأراضي السورية، أو عبر المعابر التركية غير الشرعية مع سوريا، قبل انتقال قسم منهم إلى العراق. ويقدر عدد اللبنانيين الذين انضموا إلى تنظيمات متطرفة في سوريا بالمئات، ولا يزال هناك نحو ألف منهم في إدلب، معظمهم من المقاتلين في صفوف «النصرة»، بينما لا توجد تقديرات للمقاتلين في صفوف «داعش»، وتغيب المعلومات عن مواقع وجودهم الحالية.
وتعد منطقة شمال لبنان خزان المقاتلين اللبنانيين في صفوف التنظيمات المتشددة. فقد وثق مقتل 34 انتحارياً لبنانياً في العراق وسوريا وحتى لبنان، منذ بدء موجة التطرف في المنطقة، يتحدرون من منطقة المنكوبين في طرابلس في شمال لبنان، كما تقول المصادر لـ«الشرق الأوسط»، كان آخرهم انتحاريان فجّرا نفسيهما في منطقة جبل محسن ذات الأغلبية العلوية التي تبعد مسافة عشرات الأمتار فقط عن المنكوبين. كما فجّر بعضهم أنفسهم في المنطقة الخضراء في بغداد، وفي مناطق أخرى في سوريا.
وللعلم، فإن منطقة المنكوبين تعدّ من أكثر المناطق اللبنانية فقراً، ويسكنها الفقراء القاطنون تحت بيوت التنك، وتفتقر إلى المراكز الصحية والتربوية أيضاً.
وبعد انحسار رقعة «داعش»، انعدمت الأخبار عن المقاتلين اللبنانيين في صفوف التنظيم المتطرف، ولم يعد معروفاً عن القيادات اللبنانية فيه أي شيء، وسط معلومات قالت المصادر في شمال لبنان لـ«الشرق الأوسط»، إن أغلب تلك القيادات «تعرّضت للتصفيات عندما كانت في الرقة ومناطق (داعش) و(النصرة)»، لافتة إلى أنه بعد انحسار نفوذ «داعش» «لم تظهر أسماء لبنانية واضحة المعالم»، في حين غادر قسم كبير منهم إلى إدلب، وذاب هؤلاء في بحر من المقاتلين هناك.
غير أن إدلب، التي خضعت لاتفاق تركي – روسي لتحييد المقاتلين المتطرفين، لن تعود مقراً للمقاتلين اللبنانيين في المستقبل، وهو ما يزيد المخاوف من عودة هؤلاء إلى لبنان عبر طرقات التهريب الحدودية غير الشرعية، والتي تحدثت أنباء عن البدء بعمليات انتقالهم عبر عصابات التهريب بمبالغ مالية تُدفع وتصل إلى 1800 دولار.
ويستبعد الباحث اللبناني في قضايا الجماعات الإسلامية، أحمد الأيوبي، العودة الجماعية، قائلاً «لا يمكن الحديث عن موجة عودة جماعية، ولم نسمع حتى الأيام القليلة الماضية عن عودة من هذا النوع»، مشدداً على أن القسم الأكبر «لا يزال في إدلب التي لا تقع تحت سيطرة النظام». ويشير الأيوبي لـ«الشرق الأوسط» إلى أن هناك جزءاً كبيراً من اللبنانيين «يفضلون البقاء في إدلب، بالنظر إلى أنه في لبنان لا طريق للعودة التي يراها هؤلاء آمنة، وتعتبرهم الدولة اللبنانية إرهابيين وينتظرهم السجن والملاحقة».
ويقول الأيوبي «منذ فترة طويلة ندعو إلى إيجاد معالجة لعودة هؤلاء بطريقة آمنة وتحفظ الاستقرار اللبناني، وذلك عبر إجراءات قانونية تدعو كل اللبنانيين للعودة، وخصوصاً أولئك الذين لم تتلوث أيديهم بالدماء في لبنان، ويكونون مستعدين للعيش في المجتمع ضمن منظومة قانونية وأمنية، ويخضعون في المقابل لمتابعة وتأهيل». وقال «حتى هذه اللحظة، الدولة غائبة كلياً عن الملف، وهناك تجاهل تام للموضوع».
ويعرب الأيوبي عن مخاوف لبنان من عودة المجموعات الكبيرة من هؤلاء المقاتلين الذين باتوا متمرسين على القتال ومحترفين في استخدام السلاح. وتتمثل الهواجس من الدور الذي يمكن أن يلعبه هؤلاء في هذا الوقت، «هل سيعيشون حياة طبيعية أم تترسخ الارتباطات العقائدية المتشددة التابعة لهم؟ وهو سؤال جوهري يستدعي البحث به، ووضعه استراتيجية لهم». وقال: «لا يكفي اعتقال العائدين؛ لأن الجانب الأمني لا يكفي لمقاربة هذا الملف الضخم»، مضيفاً: «يجب ألا نستبعد أبداً فرضية أن يكون بعض الأشخاص الذين كانوا في وضعية قيادية ضمن التنظيمات المتطرفة، أن تكون لهم أجندات تخريب أمني أو التأسيس لخلايا نائمة تتحرك عند الطلب في الداخل اللبناني؛ وهو ما يستدعي اليقظة الأمنية».
ويتوقع الأيوبي أن يعودوا «فرادى وليس ضمن مجموعات، لأن واقع الحدود أصبح ضيقاً، إلا إذا كان (حزب الله) والنظام السوري ينوون فتح مسارب معينة لاستغلالهم بالداخل كما تم الأمر مع (فتح الإسلام) والتلاعب بورقة المتطرفين، وهو الاحتمال الوحيد لعودتهم بشكل جماعي»، بحسب ما يقول الأيوبي.
ولا يرى الأيوبي أن التقديرات لأعداد اللبنانيين في سوريا والعراق، التي تتحدث عن ألف مقاتل، بأنها أرقام مضخمة. ويشرح: «منذ بداية الأزمة، كانت هناك موجات من اللبنانيين يغادرون إلى سوريا للقتال في صفوف التنظيمات والفصائل، وكان يعلن عن مقتل 10 أو أقل أو أكثر أسبوعياً في فترات في 2014 و2015 و2016، وذلك بشكل متتابع؛ ما يشير إلى أن هناك نسبة مرتفعة جداً من المقاتلين التي توجهت إلى سوريا للقتال هناك، لكن هذه النسبة تراجعت بدءاً من عام 2015 مع إغلاق الحدود، وبحكم الإجراءات الأمنية التي اتخذتها السلطات اللبنانية». وأضاف: «في إدلب اليوم، هناك المئات، لا نعرف عددهم بالتحديد، كما لا نعرف كيف يتوزعون على أي مجموعات؛ لأن سوريا شهدت متغيرات، وباتت لوحة متقلبة، حيث نزح البعض باتجاه جماعات وفصائل أخرى بحكم تغير خريطة الولاءات».
وفي حين يظهر أن المقاتلين في صفوف «النصرة» والفصائل باتوا في إدلب، بعد عودة ومقتل آخرين منذ عام 2014، يتحدث باحثون سوريون عن أن اللبنانيين المقاتلين في صفوف «داعش» في العراق وسوريا «ذابوا في الصحراء مع المقاتلين الآخرين»، علماً بأن بعضهم دخل إلى إدلب بدءاً من 2017 إثر المعارك بريف إدلب الشرقي ضد النظام السوري. ويقول مدير مركز «الفرات» أحمد الرمضان لـ«الشرق الأوسط»، إن «داعش» يتخذ ملاذات آمنة في منطقة تلول الصفا في البادية السورية الجنوبية، ومنطقة هجين في البادية الشرقية لدير الزور شرق الفرات، بينما يتحرك على شكل مجموعات صغيرة في البادية دير الزور الغربية وبادية حمص، علماً بأن «داعش» يتبع الاستراتيجية نفسها في الصحراء العراقية بعد معركة الموصل.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.