لبنان: مخاوف من عودة ألف مقاتل ذابوا في بحر المتشددين في إدلب

إجراءات لضبط معابر التهريب الحدودية... ودعوات لاستراتيجية لا تقتصر على المقاربة الأمنية

مواطن سوري يقود دراجته وسط مبانٍ سكنية مهدَّمة بفعل قصف النظام أحياء مدينة إدلب (أ.ف.ب)
مواطن سوري يقود دراجته وسط مبانٍ سكنية مهدَّمة بفعل قصف النظام أحياء مدينة إدلب (أ.ف.ب)
TT

لبنان: مخاوف من عودة ألف مقاتل ذابوا في بحر المتشددين في إدلب

مواطن سوري يقود دراجته وسط مبانٍ سكنية مهدَّمة بفعل قصف النظام أحياء مدينة إدلب (أ.ف.ب)
مواطن سوري يقود دراجته وسط مبانٍ سكنية مهدَّمة بفعل قصف النظام أحياء مدينة إدلب (أ.ف.ب)

تجددت المخاوف اللبنانية من تسلل عناصر متشددة عائدة من سوريا والعراق إلى لبنان، إثر تصاعد عمليات التهريب عبر قنوات غير شرعية من سوريا إلى العمق اللبناني، يتكفلها أشخاص لبنانيون وسوريون، وتُقابل باستنفار أمني لبناني على الحدود وفي الداخل، وسط معلومات عن ألف لبناني كانوا ملتحقين بتنظيمات متطرفة في سوريا، باتوا في إدلب، تحتاج معالجة أمورهم إلى استراتيجية تضعها السلطات اللبنانية، لا تقتصر على المقاربة الأمنية.
ونشطت عمليات التهريب أخيراً عبر الحدود اللبنانية السورية، إثر إحكام القوات النظامية السورية سيطرتها على الحدود مع لبنان؛ وهو ما رفع وتيرة الإجراءات الأمنية التي تفرضها السلطات اللبنانية في المنطقة الحدودية وفي الداخل؛ منعاً لتسلل الأشخاص، ومنعاً لأن يكون بينهم متشددون عائدون من القتال في سوريا والعراق.
وقالت مصادر عسكرية لبنانية لـ«الشرق الأوسط»، إن عمليات التهريب في منطقة البقاع، وخصوصاً من جهة بلدة الصويري اللبنانية «ليست جديدة»، وإن هناك محاولات دائمة من قبل المهربين لتهريب الأشخاص من سوريا إلى لبنان عبر تلك المنطقة. وأكدت المصادر في الوقت نفسه، أن الجيش اللبناني يتعامل مع تلك الوقائع عبر «تنفيذ دوريات دائمة وكمائن، لمنع تسلل الأشخاص إلى العمق اللبناني». وأكدت المصادر، أن الجيش اللبناني «يوقف على الدوام المتسللين، ويسلمهم للأمن العام».
غير أن ملف التسلل، ينطوي على مخاطر كثيرة لجهة تسرب عناصر متطرفة شاركت في القتال في صفوف تنظيمات إرهابية في سوريا والعراق، بموازاة تقلص الملاذات الآمنة للتنظيمات الإرهابية، وانحسار رقعة النفوذ ورقعة المعارك. وقالت مصادر عسكرية، إن قائد الجيش العماد جوزيف عون لطالما حذر من هذه المرحلة وتطرق إليها، وأعطى توجيهات لمواكبتها عبر تشديد الإجراءات، بعدما شارفت الحروب على الانتهاء في المنطقة، وخصوصاً في العراق أو سوريا، وهو حذر من عودة هؤلاء الأشخاص إلى الداخل اللبناني. لذلك، «ينشط الجيش على الحدود وفي الداخل عبر مديرية المخابرات لملاحقة الأشخاص الذين يشكلون خطراً على الأمن والاستقرار»، بحسب ما أكدت المصادر.
وكشفت العملية الأمنية التي نفذها الجيش اللبناني في يناير (كانون الثاني) 2018، وأسفرت عن توقيف شخصين مشتبه بهما في عرسال، كانا يقاتلان في وقت سابق في صفوف تنظيم جبهة النصرة قبل عودتهما إلى لبنان، عن خطر أمني جديد يتمثل في عودة العناصر المتطرفة من القتال في صفوف التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق، إلى لبنان. وتلت العملية تلك، عملية أمنية أخرى في فبراير (شباط) الماضي في مدينة طرابلس في شمال لبنان، وأسفرت عن مقتل عسكري لبناني، والمطلوب العائد من القتال في صفوف «داعش» في سوريا عبد الله هاجر.
وبدأت موجات الانخراط اللبناني في صفوف التنظيمات المتطرفة في عام 2012؛ إذ رصد في السابق انضمام عشرات اللبنانيين الذين قاتلوا في صفوف التنظيمات المتطرفة؛ وقتل بعضهم في معارك اندلعت في مناطق حدودية مع لبنان في ريف حمص الغربي وفي ريف دمشق الشمالي في القلمون. وفي حين كان البعض يقاتل في صفوف فصائل سورية متشددة، بدأت موجة النزوح نحو «داعش» في عام 2014. وكُشف عن الأمر إثر إعلان التنظيم عن مقتل 3 لبنانيين في أواخر عام 2014، وذلك في معارك خاضها ضد الأكراد في العراق وسوريا، وضد القوات الحكومية السورية في مطار دير الزور العسكري. وتقبلت عائلات لبناني على الأقل التعازي بمقتل ابنها في طرابلس في شمال لبنان، بعد تلقيها نبأ مقتله.
ولا تخفي مصادر مطلعة في شمال لبنان، أن المنضمين إلى تنظيمات متطرفة في العراق وسوريا، انتقلوا إليها عبر التهريب من الأراضي اللبنانية إلى الأراضي السورية، أو عبر المعابر التركية غير الشرعية مع سوريا، قبل انتقال قسم منهم إلى العراق. ويقدر عدد اللبنانيين الذين انضموا إلى تنظيمات متطرفة في سوريا بالمئات، ولا يزال هناك نحو ألف منهم في إدلب، معظمهم من المقاتلين في صفوف «النصرة»، بينما لا توجد تقديرات للمقاتلين في صفوف «داعش»، وتغيب المعلومات عن مواقع وجودهم الحالية.
وتعد منطقة شمال لبنان خزان المقاتلين اللبنانيين في صفوف التنظيمات المتشددة. فقد وثق مقتل 34 انتحارياً لبنانياً في العراق وسوريا وحتى لبنان، منذ بدء موجة التطرف في المنطقة، يتحدرون من منطقة المنكوبين في طرابلس في شمال لبنان، كما تقول المصادر لـ«الشرق الأوسط»، كان آخرهم انتحاريان فجّرا نفسيهما في منطقة جبل محسن ذات الأغلبية العلوية التي تبعد مسافة عشرات الأمتار فقط عن المنكوبين. كما فجّر بعضهم أنفسهم في المنطقة الخضراء في بغداد، وفي مناطق أخرى في سوريا.
وللعلم، فإن منطقة المنكوبين تعدّ من أكثر المناطق اللبنانية فقراً، ويسكنها الفقراء القاطنون تحت بيوت التنك، وتفتقر إلى المراكز الصحية والتربوية أيضاً.
وبعد انحسار رقعة «داعش»، انعدمت الأخبار عن المقاتلين اللبنانيين في صفوف التنظيم المتطرف، ولم يعد معروفاً عن القيادات اللبنانية فيه أي شيء، وسط معلومات قالت المصادر في شمال لبنان لـ«الشرق الأوسط»، إن أغلب تلك القيادات «تعرّضت للتصفيات عندما كانت في الرقة ومناطق (داعش) و(النصرة)»، لافتة إلى أنه بعد انحسار نفوذ «داعش» «لم تظهر أسماء لبنانية واضحة المعالم»، في حين غادر قسم كبير منهم إلى إدلب، وذاب هؤلاء في بحر من المقاتلين هناك.
غير أن إدلب، التي خضعت لاتفاق تركي – روسي لتحييد المقاتلين المتطرفين، لن تعود مقراً للمقاتلين اللبنانيين في المستقبل، وهو ما يزيد المخاوف من عودة هؤلاء إلى لبنان عبر طرقات التهريب الحدودية غير الشرعية، والتي تحدثت أنباء عن البدء بعمليات انتقالهم عبر عصابات التهريب بمبالغ مالية تُدفع وتصل إلى 1800 دولار.
ويستبعد الباحث اللبناني في قضايا الجماعات الإسلامية، أحمد الأيوبي، العودة الجماعية، قائلاً «لا يمكن الحديث عن موجة عودة جماعية، ولم نسمع حتى الأيام القليلة الماضية عن عودة من هذا النوع»، مشدداً على أن القسم الأكبر «لا يزال في إدلب التي لا تقع تحت سيطرة النظام». ويشير الأيوبي لـ«الشرق الأوسط» إلى أن هناك جزءاً كبيراً من اللبنانيين «يفضلون البقاء في إدلب، بالنظر إلى أنه في لبنان لا طريق للعودة التي يراها هؤلاء آمنة، وتعتبرهم الدولة اللبنانية إرهابيين وينتظرهم السجن والملاحقة».
ويقول الأيوبي «منذ فترة طويلة ندعو إلى إيجاد معالجة لعودة هؤلاء بطريقة آمنة وتحفظ الاستقرار اللبناني، وذلك عبر إجراءات قانونية تدعو كل اللبنانيين للعودة، وخصوصاً أولئك الذين لم تتلوث أيديهم بالدماء في لبنان، ويكونون مستعدين للعيش في المجتمع ضمن منظومة قانونية وأمنية، ويخضعون في المقابل لمتابعة وتأهيل». وقال «حتى هذه اللحظة، الدولة غائبة كلياً عن الملف، وهناك تجاهل تام للموضوع».
ويعرب الأيوبي عن مخاوف لبنان من عودة المجموعات الكبيرة من هؤلاء المقاتلين الذين باتوا متمرسين على القتال ومحترفين في استخدام السلاح. وتتمثل الهواجس من الدور الذي يمكن أن يلعبه هؤلاء في هذا الوقت، «هل سيعيشون حياة طبيعية أم تترسخ الارتباطات العقائدية المتشددة التابعة لهم؟ وهو سؤال جوهري يستدعي البحث به، ووضعه استراتيجية لهم». وقال: «لا يكفي اعتقال العائدين؛ لأن الجانب الأمني لا يكفي لمقاربة هذا الملف الضخم»، مضيفاً: «يجب ألا نستبعد أبداً فرضية أن يكون بعض الأشخاص الذين كانوا في وضعية قيادية ضمن التنظيمات المتطرفة، أن تكون لهم أجندات تخريب أمني أو التأسيس لخلايا نائمة تتحرك عند الطلب في الداخل اللبناني؛ وهو ما يستدعي اليقظة الأمنية».
ويتوقع الأيوبي أن يعودوا «فرادى وليس ضمن مجموعات، لأن واقع الحدود أصبح ضيقاً، إلا إذا كان (حزب الله) والنظام السوري ينوون فتح مسارب معينة لاستغلالهم بالداخل كما تم الأمر مع (فتح الإسلام) والتلاعب بورقة المتطرفين، وهو الاحتمال الوحيد لعودتهم بشكل جماعي»، بحسب ما يقول الأيوبي.
ولا يرى الأيوبي أن التقديرات لأعداد اللبنانيين في سوريا والعراق، التي تتحدث عن ألف مقاتل، بأنها أرقام مضخمة. ويشرح: «منذ بداية الأزمة، كانت هناك موجات من اللبنانيين يغادرون إلى سوريا للقتال في صفوف التنظيمات والفصائل، وكان يعلن عن مقتل 10 أو أقل أو أكثر أسبوعياً في فترات في 2014 و2015 و2016، وذلك بشكل متتابع؛ ما يشير إلى أن هناك نسبة مرتفعة جداً من المقاتلين التي توجهت إلى سوريا للقتال هناك، لكن هذه النسبة تراجعت بدءاً من عام 2015 مع إغلاق الحدود، وبحكم الإجراءات الأمنية التي اتخذتها السلطات اللبنانية». وأضاف: «في إدلب اليوم، هناك المئات، لا نعرف عددهم بالتحديد، كما لا نعرف كيف يتوزعون على أي مجموعات؛ لأن سوريا شهدت متغيرات، وباتت لوحة متقلبة، حيث نزح البعض باتجاه جماعات وفصائل أخرى بحكم تغير خريطة الولاءات».
وفي حين يظهر أن المقاتلين في صفوف «النصرة» والفصائل باتوا في إدلب، بعد عودة ومقتل آخرين منذ عام 2014، يتحدث باحثون سوريون عن أن اللبنانيين المقاتلين في صفوف «داعش» في العراق وسوريا «ذابوا في الصحراء مع المقاتلين الآخرين»، علماً بأن بعضهم دخل إلى إدلب بدءاً من 2017 إثر المعارك بريف إدلب الشرقي ضد النظام السوري. ويقول مدير مركز «الفرات» أحمد الرمضان لـ«الشرق الأوسط»، إن «داعش» يتخذ ملاذات آمنة في منطقة تلول الصفا في البادية السورية الجنوبية، ومنطقة هجين في البادية الشرقية لدير الزور شرق الفرات، بينما يتحرك على شكل مجموعات صغيرة في البادية دير الزور الغربية وبادية حمص، علماً بأن «داعش» يتبع الاستراتيجية نفسها في الصحراء العراقية بعد معركة الموصل.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.