الشعر في غبار المجد

عبد الله راغب في «هذا الراقص»

الشعر في غبار المجد
TT

الشعر في غبار المجد

الشعر في غبار المجد

يحتفي الشاعر عبد الله راغب في ديوانه «هذا الراقص» بالشعر، ويتلمَّس المعني الحقيقي لهذا الاحتفاء عبر استدعاء كوكبة من الشخوص أصبحوا رموزاً وعلامات ذات دلالات واضحة في تراث الأدب والفن، والتاريخ الإنساني بشكل عام؛ فثمة قصائد تحمل أسماء: لوركا، وسلفادور دالي، وماركيز، ومعاوية بن أبي سفيان، كما يحضر في النصوص بودلير وفرويد ودانتي، وغيرهم.
قد يكون من البديهي هنا أن النص يريد أن يوسع من مدار رؤيته، بجعلها بمثابة عين فاحصة للتاريخ، وأن يصبح هذا المسعى بمثابة نافذة إدراك جديدة لتلك الشخوص، تُطِلّ منها على حيواتها المنقضية وأزمنتها ومجدها الغابر، كما تمنح فرصة للذات الشاعرة أن تعيد اكتشاف نفسها في غبار هذا المجد.
إن هذه المتكئات الشعرية التي تدور حول شخوص بعينهم، تفترض بداهة أننا إزاء وعيين؛ أحدهما مسبق، منتج سلفاً، وأصبح قابعاً فوق رفِّ التراث، وهو وعي هذه الشخوص المستدعاة، كاشفاً عن حس بالانتقاء والانحياز لها، لا يخلو من المحبة أيضاً. في مقابل الوعي الثاني؛ وعي النص، الآني الحي اليقظ. لكن ما الذي يوحِّد الوعيين شعرياً، ليثمرا علاقة تبقى في ذاكرة النص، وليس في ذاكرة الماضي المتمثل في طبيعة ورمزية هذه الشخوص... المفارقة هنا أن وعي الشخوص مفارق للحظته الماضوية، وممتد في جسد الزمان والمكان، بينما وعي النص مشوش ومرتبك داخل لحظته الآنية.
لقد أرادت الذات الشاعرة أن تقيم نصّاً موازياً لعوالم هؤلاء الشخوص، وفي سبيل ذلك لجأت إلى الصور الخاطفة الحادة المشرَّبة بمسحة من الخرافة والفانتازيا، لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا، ومن واقع هذه النصوص: هل يمكن من خلال دفقها الاحتفائي المحب، وزمانها الأحادي، الذي يستند في الغالب الأعم على أفعال المضارعة الساكنة أن نعيد إدراك سريالية دالي ونفككها وفق معطى جمالي مغاير، هو ابن وعي النص: الإجابة في رأيي: لا... الأمر نفسه لا يبتعد كثيرا عن ماركيز، وواقعيته السحرية، ولوركا ومشهد إعدامه الدراماتيكي، وكذلك الاشتباكات الخاطفة لفرويد ودانتي وبودلير. لكن يبقى نص «رمح معاوية» (ص57) الوحيد الذي يشكل استثناء في هذا السياق، حيث يتحول معاوية إلى قناع، تظلله غلالة سردية شيقة، تقف به على حافة حكاية، لم تنتهِ، بل قابلةٌ للمراجعة وإعادة النظر والتأويل. إنه قناع التاريخ والنص معاً، تتخفى تحته الشخصية، ترتديه وتخلعه في لحظات مصيرية حاسمة يتم التعبير عنها في مشهدية مكثَّفة مباغتة لها وخزها الخاص، يصورها النص على هذا النحو:
«قناع يهرب من صاحبه
حروف متناثرة
لا تصلح لكتابة نص استغاثةٍ
وضوء يهرب من متأهِّبٍ لصلاتهِ،
قاربٌ يتخفى داخلَ دائرةٍ
من صراخٍ.
المشهد كان كافياً
أن ألقي كلّ هذا الفزعِ
في رأس رفيقي الذي أكد لي
أن معاوية يقف على أعتاب
بيتي».
إن فعل الاحتفاء بكل شطحه ونزقه ينهض في جوهره على مجاز إنشائي ساكن، وليس على المساءلة وإثارة الجدل والحوار... كيف أحتفي بشخوص أثارت معارك على مدار تاريخها لا يزال غبارها حيّاً في الذاكرة، ولا أُسائِلها، حتى عن معنى الحب، ناهيك بمعنى الحرية والحلم والفن؟!
يستهلّ الديوان عالمه بنص عنوانه «المجد محض داعرة» لا بأس، فللداعرة مجدها وشرفها أيضًا على المستوى الإنساني، فما بالك حين تكتب أشعارها على نمط بودلير... هذا المشهد المغوي، الذي تتناثر فيه مناخات صاحب «أزهار الشر» الشعرية الجارحة، لا يملك الشاعر حياله سوى أن يرثي ذاته، في غبار صور طائشة، وربكة ضمائر يلتبس علينا تحديد مساراتها بدقة. فمثلما يقول النص:
«المجد محض داعرةٍ
كتبَتْ أشعارها على نمط بودلير
واستلقى
على ضفة القصيدةِ
ولم تألفها (ذكورةِ) الماء
المجد لن أنالَه
بينما ظهري العاري صهباءُ
تطهون فوقها لحمَ ضأنٍ
تختلط فيه رائحة الشواء
برائحة احتراق جلدي»
لا أعرف وضعية الفاعل بالضبط وراء الفعل استلقى، هل هو المجد، أم بودلير، أم الشعر، أم الذات الشاعرة نفسها؟ ويزداد الأمر ارتباكاً، في الفعل «تألفها». فعلى مَن تعود الهاء، هل تعود إلى القصيدة، أم تظل بمثابة ضمير غائب معلق في المجهول، خصوصاً أنه لا فاعلَ مشكولاً وواضحاً في الجملة، بل نجد علاقة إضافة في جملة «ذكورةِ الماء» التي تلي الفعل؟ قد يكون اللبس هنا نتيجةً لخطأ غير مقصود، وربما العكس... لكن هذه الربكة اللغوية لا يكاد يسلم منها نصٌّ في هذا الديوان، وخطورتها لا تكمن فقط، في صنع حالة من تشتيت المعنى، بل فيما تتركه من فتور فني لدي المتلقي (نص «جدار زجاجي» (ص21) ونص «هذا الراقص» (27) على سبيل المثال).
رغم ذلك، استطاعت الذات الشاعرة أن تمارس نزقها بحيوية في هذا النص، متخذة من السريالية معولاً للهدم والبناء، وإعادة النظر في أشيائها الخاصة، في لحظات هشاشتها وضعفها ومرضها، وكأنَّ الشعر خط الدفاع الأخير لوجودها، وسط عالم مضطرب ومتوحش، لا قلب له ولا روح.
في ظلال هذا يتابع الشاعر في هذا النص قائلاً:
«يا سادتي
أنا لستُ من الموالي
ولستُ منمقاً للحد الذي
يجعلني على أهبة الانزلاق بداخلي
والكبد ليس مهيأً
كي يصبح راعياً لاسترخائي
الطويل».
إنه المجد الآثم البريء، ينتصب كرمح في فراغ شاسع، رغم ما يعلق به من صرخات الجرحى والجوعى وأرواح تُحتضَر، تتشبث به الذات الشاعرة عابرة إلى مناخات وأجواء نصوص الديوان، وكأن هذه النص بمثابة قنطرة لهذا العبور.
في هذا العبور، يطالعنا نص «لوركا»، في مشهد صامت وساكن، أقرب إلى صورة جنائزية تسيِّجها الذات الشاعرة في بداية النص، مشيرة إلى أنه «مات وحيداً على صخرة تطل على قطالونيا». لكن ما أتعس المجاز هنا، حين يحول النصُّ القتلة إلى مجرد كلاب تعوي، أطلقت نباحها على لوركا فأردته قتيلاً «الكلاب كانت جائعة تماما / ثم أطلقوا عليه النباح / لوركا رفض أن يموت». والمعروف أن لوركا أُعدِم رمياً بالرصاص على يد جنود الطاغية فرانسيسكو فرانكو في عام 1963، خلال الحرب الأهلية الإسبانية، بعد أن اعتُقِل في غرناطة، وأنه لم يتم العثور على جثته حتى الآن.
لم يلتفت النص لكثير من الأبعاد الدرامية في حياة لوركا، سواء على المستوى الاجتماعي، أو الإنساني، من بينها أنه كان مثليّاً جنسيّاً، وحبُّه الشديد لأمه، حتى إنه كان يلقِّب نفسه بكنيتها عوضاً عن كنية والده، فضلاً عن صداقته لسلفادور دالي الذي رسم له ديكورات إحدى مسرحياته، حتى في نصِّ دالي لم نجد أثراً لهذه العلاقة، التي كان من الممكن أن تخلق جسراً دراميّاً شفيفاً بين الشخصيتين، يثري النصين معاً.
هكذا في هذه النصوص ذهب الشعر إلى الآخر، وعن طيب خاطر ومحبة، انضوى تحت عباءته وأحلامه، حاول أن يحاكيها ويلاطفها، ويستأنس بها، لكنها كانت - في الغالب - ملاطفة ومحاكاة انتفت فيها نوازع المشاكسة والخصومة الفنية المكوِّنة والمجدِّدة.
بداية من صفحة (63) وإلى آخر الديوان، يستعيد الشعر الدّفة، يذهب إلى نفسه، فلا دالي ولا لوركا ولا ماركيز، لا متكئات يتَّكِئ عليها سوى نفسه، ووجعه الإنساني المشعّ... ينداح الشعر في لطشات حانية وجذابة، أشبه برقرقة الألوان على مسطح اللوحة، لوحة النص والوجود، فيما تصفو اللغة إلى مائها الحي في النص، متخلِّصة من مجازات الآخر وعلاماته المربكة، فالشعر «ناي»، و«طاووس»، وهو أيضًا «ثرثرة» تفتح ثقباً في جدار البوح، وهو فسحة للأمل، تومض في «ما بعد عام الرمادة»، وكما يقول الشاعر في نص بالعنوان نفسه (75):
«القصائد التي لا تترك رائحتها
على جدران غرفة نومكَ
وتشد أهدابَ عينيكَ
حيث تنام
وتترك صوراً من ألبومها
فوق رصيف الشارع
وواجهات محلات الحلوى الشرقية
هي محض فاكهة معلبة
سوف نصفِّق لها قليلاً
ثم نلعنها بعدما يمر عام الرمادة
وتُنبِتُ الأرض بقلها».


مقالات ذات صلة

«عناب براسري» منافس قوي على ساحة الأكل اللبناني بلندن

مذاقات «عناب براسري» منافس قوي على ساحة الأكل اللبناني بلندن

«عناب براسري» منافس قوي على ساحة الأكل اللبناني بلندن

عندما يأتي الكلام عن تقييم مطعم لبناني بالنسبة لي يختلف الأمر بحكم نشأتي وأصولي. المطابخ الغربية مبنية على الابتكار والتحريف، وتقييمها يعتمد على ذائقة الشخص

جوسلين إيليا (لندن)
مذاقات الشيف البريطاني هيستون بلومنتال (الشرق الأوسط)

9 نصائح من الشيف هيستون بلومنتال لوجبة الكريسماس المثالية

تعد الخضراوات غير المطبوخة بشكل جيد والديك الرومي المحروق من أكثر كوارث عيد الميلاد المحتملة للطهاة في وقت يقومون فيه بتحضير الوجبة الأكثر أهمية في العام.

«الشرق الأوسط» (لندن)
صحتك 6 نقاط قد تعيد تفكيرك في الطهي بأواني الحديد الزهر

6 نقاط قد تعيد تفكيرك في الطهي بأواني الحديد الزهر

لا يزال كبار الطهاة العالميين، إضافة إلى ربات البيوت الماهرات في الطهي، يستخدمون أواني الطهي المصنوعة من الحديد الزهر Cast Iron Cookware.

د. عبير مبارك (الرياض)
مذاقات توابل فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)

«أبو حصيرة» من غزة إلى القاهرة

من غزة إلى القاهرة انتقل مطعم «أبو حصيرة» الفلسطيني حاملاً معه لمساته في الطهي المعتمد على التتبيلة الخاصة

نادية عبد الحليم (القاهرة)
مذاقات إم غريل متخصص بالمشاوي (الشرق الاوسط)

دليلك إلى أفضل المطاعم الحلال في كاليفورنيا

تتمتع كاليفورنيا بمشهد ثقافي غني ومتنوع، ويتميز مطبخها بكونه خليطاً فريداً من تقاليد عالمية ومكونات محلية طازجة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟