يتذكر فيليبس أولميدو باشتياق وحنين بالغ الأيام الخوالي التي عاشها مع ديغو ريفيرا، الذي يعتبر الفنان المكسيكي الأهم والأشهر على مر العصور. يتذكر أولميدو كذلك صفاء الذهن والأفكار البراقة، والعبقرية والمثل العليا التي تحلى بها الرسام الشهير. عرف ريفيرا بأنه توأم الروح والنصير، وأحياناً الشرير الذي تجسد في اللوحة الخالدة للرسامة فريدا كاهلو التي باتت أيقونة بين فنانات اليوم.
وعند الحديث مع فيليبس أولميدو، لا بد أن يتطرق الحوار إلى قصة الحب القوية والعميقة بين فريدا كاهلو وديغو ريفيرا. فقد كان أولميدو شاهداً على الألم البالغ الذي اعترى ريفيرا عقب موت حبيبته عام 1954. كانت مرسيدس أولميدو، والدة كارلوس، صديقة مقربة من ديغو وفريدا، وكانت قريبة جداً من الفنانين الشهيرين، لدرجة أنها وعدت ريفيرا على فراش الموت بالحفاظ على لوحات فريدا بعيداً عن الأنظار لمدة 15 عاماً بعد وفاته. في الواقع، لم تكتشف كنوز فريدا ولم تخرج إلى النور سوى في عام 2002 عند وفاة مرسيدس أولميدو. وقد تضمنت أعمال فريدا كاهلو الفنية ومقتنياتها الشخصية، التي تركت حبيسة حمام منزلها في العاصمة المكسيكية، صوراً فوتوغرافية وخطابات ومقتنيات شخصية أظهرت معاناتها الجسمانية نتيجة للمرض، وكذلك فساتينها الملونة المعروضة حالياً بـ«متحف فيكتوريا وألبيرت» في لندن.
أكثر من قصة حب
بالإضافة إلى فريدا، عاش ديغو أيضاً قصة حب رائعة أخرى تمثلت في عشقه لقطع الفن المكسيكي الكولومبي التي جمعها بزهوٍ وإعجابٍ بالغين. وبعد وفاة ريفيرا عام 1957، عملت دولورز أولميدا، الابنة الصغرى للرسام الشهير والمهندسة المعمارية، ومعها المهندس المعماري جوان أوغورمان، على تحقيق حلم عظيم آخر من أحلام ديغو ريفيرا الذي تمثل في إنشاء «متحف أنهوكالي». وبالفعل فتح المتحف أبوابه للجمهور عام 1964. ويعد المتحف مكاناً رائعاً يعرض كنوز الفن المكسيكي والكولومبي ليخلد الفن الرائع الذي تركه سكان البلاد الأصليون.
وبعد وفاة والدته، بات كارلوس مسؤولاً عن إدارة المتحف وغيره من المتاحف التي تعرض مقتنيات ريفيرا وكاهلو. وفي حوار غني بالمشاعر والحكايات الشيقة مع صحيفة «الشرق الأوسط»، قال كارلوس فيليبس ألميدو إن «ديغو كان عاشقاً للفن المكسيكي، تحديداً التراث المكسيكي قبل مجيء الأسبان إلى المكسيك، وهي الفترة التي تعرف بما قبل الفترة الكولومبية التي أسر تراثها خياله وعقله».
المتحف ساحر ويأسر عين الناظرين، حيث يتخذ المبنى الذي يتألف من 23 غرفة شكلاً هرمياً يماثل أهرام الحضارة «الأزتكية» أو «التيوتيوهوكانية»، ليحاكي الشكل الهرمي المعابد المقدسة في الحضارات القديمة. وقد بني المتحف من الصخور البركانية المستخرجة من منطقة كوياكان، جنوب العاصمة المكسيكية. وبني على مساحة 40 ألف متر مربع غنية بالنباتات والحيوانات.
تعود ملكية أرض المتحف إلى ديغو وفريدا اللذين ابتاعاها بغرض بناء مزرعة لتربية حيوانات الحقل. واليوم باتت تلك المنطقة تمثل الرئة التي تتنفس من خلالها أحد أكثر المدن ازدحاماً في أميركا اللاتينية، حيث يستطيع الزوار الاستمتاع بنزهة آمنة وسط هواء وماء وتربة نقية.
وفي هذا السياق، قال فيليبس ألميدو «إن المزيج الذي تألف منه المتحف شيء بالغ الأهمية. فبناء الهرم في القرن العشرين كان أشبه بالسحر، لأنه جاء مشابهاً بدرجة كبيرة للأهرامات المكسيكية الأصلية».
بالإضافة إلى تنفس هواء نقي والعيش وسط الطبيعة هنا، حتما سيخالجك شعور رائع بالتعايش وسط التراث المكسيكي، نظراً لغنى المتحف بأكثر من 45 ألف قطعة فنية تعود للحضارات «التيوتيهوكانية» و«الزبتوكية» و«الألموكية» و«النهوائية» و«التولتوكية». وتغطي القطع الفنية مختلف المناطق المكسيكية التي جعلت من المتحف مكاناً متفرداً.
وأوضح جوسفينا جارسيا، مدير المتحف الحالي، أن كلمة «أنهوكالي» تعني «بيت الماء أو البيت المحاط بالماء».
البداية... فكرة
تعود فكرة بناء المتحف إلى ريفيرا نفسه في بداية الأربعينات من القرن الماضي، عندما عمل الفنان العالمي في الجداريات بالولايات المتحدة، وأراد بعدها أن يقدم لبلاده هدية حقيقية، التي تمثلت في مجموعته الخاصة من مقتنيات الفن السابق للحقبة الإسبانية. وقد حظي المتحف بدعم ومساندة المهندس المعماري جوان أوغرمان الذي تأثر بأسلوب المهندس المعماري الأميركي فرانك ليود رايت. استطرد فرانك رايت بقوله: «جاء المفهوم متسقاً مع مبادئ وأفكار ريفيرا، وهي تحقيق التناغم بين البيئة وبناء متحف (أنهوكالي)، لتعكس مرحلة ما قبل الفن الإسباني».
تحكي القطع المعروضة، متعددة الأحجام، التي تتميز بالجمال والبساطة، الحياة اليومية والعادات واحتفالات وحكمة وتراث السكان الأصليين للبلاد. وفي هذا السياق قال رايت: «جميع مقتنيات المتحف رائعة، لكنني أفضل القطع المعروضة بقسم (سيدات جميلات) ومعروضات (توتيهاكان). فتلك القطع تتميز بالجمال بسبب رقة ملامحها وتعبيرات شخوصها».
إن تركة ريفيرا تتخطى حدود الفن إلى أفاق أرحب. فهي تساعد الأجيال الجديدة على التواصل مع الحامض النووي (دي إن إيه) لبلادهم ومع غنى تراث السكان الأصليين للبلاد.