من أمام جهاز لغسيل الكلى في مستشفى أوباري بالجنوب الليبي، وقفت سيدة ليبية خمسينية تترقب نجلها، الذي يرقد أمامها انتظاراً لدوره في العلاج، وهي تشتكي لموظفة اللجنة الدولية للصليب الأحمر صعوبة نقله من مدينة غات، الواقعة على مشارف الحدود الجزائرية، إلى مستشفى أوباري قصد إخضاعه لجلسة غسيل واحدة، قد تستغرق ساعتين، والعودة به ثانية.
وقصة الشاب إعساوي (16 عاماً) مع المرض، التي روتها والدته للجنة الدولية، ليست سوى نموذج مصغر لآلاف الحالات المشابهة، التي تراكمت عبر سبعة أعوام من الانقسام السياسي والاشتباكات المسلحة بمناطق عدة في ليبيا، والتي تعكس تراجع دور المؤسسات الصحية، لدرجة أصبح الكثير منها يعتمد بشكل كلي على المساعدات الإنسانية التي تقدمها اللجنة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر الليبي. لكن وزيرة الصحة الأسبق فاطمة الحمروش رأت في حديثها إلى «الشرق الأوسط» أن «نقص الأدوية والأجهزة ليس بسبب قلة الأموال في ليبيا»، بل لكثرة ما وصفتهم بـ«اللصوص والمحتالين، ونقص الحسّ الوطني لدى الكثيرين ممن تسلموا مقاليد البلد».
وحال مرضى الكلى في ليبيا يعتبر هيّنا مقارنة بمن يتعرضون للحروق أو يصابون بالسرطانات، إذ تضطرهم الظروف للسفر خارج البلاد، في ظل لجوء المراكز العلاجية للاعتماد على تبرعات المواطنين لسد نقص الأدوية وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. غير أن هذا الوضع لم يمنع والدة إعساوي، وآخرين من مدينة غات من الاستغاثة بوزير الصحة عمر بشير الطاهر، التابع لحكومة الوفاق الوطني، بصفته ينتمي إلى الجنوب لحثه على «توفير ما يلزم لعلاج أبنائهم من مرضى الكلى، بدلاً من الانتقال بهم إلى مستشفيات تبعد بنحو 700 كيلومتر، بمعدل ثلاث مرات أسبوعياً، في ظل شح الوقود وقلة النقود».
ولا تتوفر في ليبيا إحصائيات رسمية عن عدد المرضى. لكن إدارة الإعلام والتواصل برئاسة مجلس الوزراء نقلت عن بشير الطاهر تسجيل أكثر من 4 آلاف مريض بالفشل الكلوي في أنحاء البلاد، كما قدّرت منظمة الصحة العالمية وجود نحو 88 ألف مريض بالسكري، بحسب أرقام العام الماضي.
وتدفع اللجنة الدولية للصليب الأحمر بكميات من الأدوية والمواد اللازمة لمواجهة بعض ما تعانيه المستشفيات في ليبيا من نقص في الإمدادات الطبية، مع زيادة في أعداد المرضى والجرحى، فضلاً عن استجابة حكومة فائز السراج بشراء ما يلزم للمؤسسات الصحية، وفقاً للخطط والاعتمادات المالية.
ودائما ما يبحث الليبيون عن «طبيب شاطر» في دول الجوار، وخاصة في تونس ومصر للذهاب إليه. وفي هذا الصدد قالت الليبية فاطمة المحروسي إنها «تذهب دائماً مع والدتها لطبيب قلب في مدينة الإسكندرية كل شهرين تقريباً»، معللة ذلك بأن «الأوضاع المضطربة في ليبيا تمنعنا من الحياة بشكل مستقر... فيمكنك الذهاب إلى المستشفيات، لكن ستجدها مغلقة، وعليك الانتظار».
ويجري أطباء في مستشفيات ومراكز ليبية جراحات ناجحة وخطيرة من وقت لآخر. لكن قلة الإمكانيات تحول دون الاستمرار في مواصلة ذلك.
وفي تشخيصها لأزمات القطاع الصحي في ليبيا، وجهت الحمروش التي تولت قطاع الصحة في حكومة عبد الرحيم الكيب عقب إسقاط القذافي، اتهامات لأشخاص لم تسمهم، وقالت إن «هؤلاء يعملون إمّا لمصالح خارجية، أو كمرتزقة لتحقيق مكاسب مالية لأنفسهم، وفي كلا الحالتين فهم يخدمون مصالح شركات خارجية على حساب الصالح العام، ويعملون على استمرار الحال المتردّي بالمستشفيات الليبية، بينما يستثمرون أموال الشعب في الخارج بشراء مزيد من المعدات غير المكتملة، أو من دون عقود ملزمة بالصيانة، أو إخفائها بعد شرائها ليتم شراء المزيد منها دون استخدامها، أو لبيعها في السوق السوداء، وهذا ينطبق أيضاً على الأدوية بنفس الكيفية».
ومن بين الأمراض المتعددة التي تنتشر في ليبيا، تظل أمراض الأورام تلقي بثقلها على كاهل المواطن الليبي، وبهذا الخصوص أوضح مصدر طبي بمركز مصراتة لعلاج الأورام أن توافد المرضى على المؤسسة دفعهم إلى قبول التبرعات من المواطنين والجمعيات الخيرية، مشيراً إلى أن «العلاج الكيماوي ناقص في المركز».
وأضاف المصدر، الذي رفض ذكر اسمه لأنه غير مخول له الحديث للإعلام «أن ثمن الجرعة الواحدة للمريض يتراوح ما بين 3 آلاف و4 آلاف دينار»، لافتاً إلى أن العلاج يكون بمعدل مرة أو مرتين في الشهر.
ودفع نقص الأدوية وتراجع الخدامات الصحية بشكل عام فائز السراج، رئيس المجلس الرئاسي، للتعبير هو الآخر عن استيائه من جودة الخدمات الصحية المقدمة، وعدم توفير الأدوية، وذلك خلال اجتماع سابق ضم جميع المسؤولين عن القطاع الصحي في غرب البلاد، وطالب بتشكيل لجنة مركزية، تتولى مراجعة جميع محاضر العطاءات الخاصة بتوريد الدواء لأمراض الكلى والأورام والتطعيمات.
ومع تزايد المترددين على الخارج للعلاج على نفقة الدولة، اعتمد السراج نهاية يوليو (تموز) الماضي خطة علاجية، تشمل الإجراءات الخاصة بالعلاج في الداخل والخارج. وأوضح المكتب الإعلامي لرئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق أن «السراج أصدر تعليماته بالشروع الفوري في تنفيذ الخطة العلاجية، التي تشمل علاج جميع الليبيين بمختلف أنحاء ليبيا، وضمان الشفافية في الإنفاق، وفقاً للتشريعات النافذة».
بدورها، قالت الحمروش في حديثها لـ«الشرق الأوسط» إن «العلاج المقدم لليبيين محدود في الداخل، ومتوفر في الخارج لأسباب، أبرزها الاستنفاع الشخصي للسماسرة، الذين ليسوا فقط متعاقدين مع المستشفيات للعلاج، بل من بينهم (المتعالجون) أنفسهم».
وتابعت الحمروش موضحة أن عددا من الليبيين «يستخدمون حجة العلاج للاسترزاق، وذلك بتسلم الأموال المخصصة لعلاجهم من الدول التي يتم إيفادهم إليها (باتفاق مع المسؤولين) عن تسليم هذه الأموال للمصحات العلاجية، وذلك بنسبة متفق عليها بين جميع الأطراف».
ولا يتوقف قصور أداء المؤسسات الصحية على نقص الخدمات الطبية أو الدواء فحسب. فقد أوضح محمد العزومي، رئيس لجنة تم تكليفها من قبل المجلس الرئاسي بزيارة بلدية الكفرة ومنطقة الشورى الإدارية، انعدام الخدمات الصحية في المرافق الصحية الواقعة في نطاق البلدية والمدينة بسبب تضرر بعض المباني بنسبة تصل إلى 90 في المائة، بفعل المعارك التي شهدتها على مدى السنوات الماضية.
وكشف العزومي عن «عجز المرافق عن تقديم خدمات صحية هامة، تتعلق بأمراض النساء والولادة والكلى والأسنان والطوارئ والإسعاف، نظراً لتهالك المباني، وحاجة بعض الأقسام فيها إلى عمليات صيانة جذرية وشاملة، إلى جانب نقص التجهيزات والأمصال والمعدات والأدوية».
غير أن وزيرة الصحة الأسبق فاطمة الحمروش رأت أن «انعدام المحاسبة الفاعلة والرادعة، وانتشار الجريمة والسلاح يعيق الإصلاح والتغيير، ويوفر بيئة خصبة للمزيد من الاحتيال والاستغلال، ومزيدا من البؤس والشقاء والتردّي بين العامة، وما لجوء مركز الأورام للتبرعات إلا نتيجة متوقعة لما ذكرت».
مستشفيات ليبيا... كابوس يضاعف محنة السكان
نقص الدواء يرغم المرضى على السفر للخارج طلبا للعلاج
مستشفيات ليبيا... كابوس يضاعف محنة السكان
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة