الصراع الصيني ـ الهندي على النفوذ في جنوب آسيا

كثير منها ألغى عقود بنى تحتية بعشرات المليارات من الدولارات لئلا تصبح أسيرة ديونها

شاحنات على مدخل مركز للحاويات في مدينة شيان التي تنطلق منها قطارات مبادرة «الحزام والطريق» الصينية (إ.ب.أ)
شاحنات على مدخل مركز للحاويات في مدينة شيان التي تنطلق منها قطارات مبادرة «الحزام والطريق» الصينية (إ.ب.أ)
TT

الصراع الصيني ـ الهندي على النفوذ في جنوب آسيا

شاحنات على مدخل مركز للحاويات في مدينة شيان التي تنطلق منها قطارات مبادرة «الحزام والطريق» الصينية (إ.ب.أ)
شاحنات على مدخل مركز للحاويات في مدينة شيان التي تنطلق منها قطارات مبادرة «الحزام والطريق» الصينية (إ.ب.أ)

منذ خمس سنوات، أطلقت الصين مبادرة «طريق الحرير الجديد» التي عكست طموحاً هائلاً للقيادة الصينية، التي سعت لتنفيذ مشروعات في 60 دولة بمختلف أرجاء العالم، للفوز بموطئ قدم سياسي واقتصادي في مواقع استراتيجية في العالم. ومن الممكن أن تصل تكلفة المبادرة إلى 8 تريليونات دولار على امتداد الأعوام الـ40 القادمة؛ إلا أنها ستعود بفوائد كبرى على الاقتصاد الصيني وستترك أثراً عالمياً واسع النطاق.
ومع ذلك، يبدو أن عدداً متزايداً من الدول في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، بدأت تستفيق أخيراً للأخطار التي تنطوي عليها القروض الصينية المتاحة بسهولة لمشروعات البنية التحتية لدى هذه الدول، وذلك لإدراكها أنها ربما تسقط فريسة لدبلوماسية فخ القروض التي تمارسها بكين، وتفقد أصولاً استراتيجية لديها مقابل هذه القروض.
ولهذا فقد ألغت سريلانكا مؤخراً قراراً سابقاً لها بمنح الصين عقداً لمشروع سكني بقيمة 300 مليون دولار، ومنحته بدلاً من ذلك إلى شركة هندية. وفي الوقت ذاته، أعلن رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد أنه لن يمضي قدماً في ثلاثة مشروعات كبرى مع الصين، بتكلفة تقارب 20 مليار دولار كان قد أقرها سلفه، وحذر من أن الصين تمارس «نمطاً جديداً من الاستعمار».

الديون وسيلة نفوذ
اللافت أنه خلال الأسابيع الأخيرة، ألغيت مشروعات على صلة بالصين بقيمة تتجاوز 30 مليار دولار، في الوقت الذي تجري مراجعة قروض واستثمارات أخرى مرتبطة بها.
يذكر أن الضحية الأولى والأبرز للاستثمارات الصينية المستمرة في البنية التحتية كانت سريلانكا التي عجزت عن الوفاء بتسديد فوائد الديون التي حصلت عليها من «إكسيم بانك» الصيني، والتي تجاوزت مليار دولار من أجل تشييد ميناء. ووجدت سريلانكا نفسها مضطرة لتأجير الميناء الذي يتميز بأهمية عسكرية كبيرة لمدة 99 عاماً لشركة مملوكة للدولة الصينية لإدارة الموانئ. وانطلقت صفارات الإنذار وسادت حالة من القلق العارم نيودلهي، عندما دخلت غواصات تتبع الجيش الصيني ميناء كولومبو في سريلانكا دون سابق إخطار.
في هذا الصدد، أوضح الدبلوماسي الهندي السابق «جي. باراتهاسارتهي»، أن: «ما يثير قلق الدول الأخرى أن الصين سوف تعمد إلى استغلال عجز الدول المضيفة عن سداد ديونها، كذريعة لكسب سيطرة أكبر على مواقع استراتيجية واقتصادية كبرى».
وأضاف: «القلق لا يقتصر على العبء الاقتصادي الذي تفرضه القروض الصينية على الدول الشريكة، وإنما كذلك الوجود العسكري الصيني. ثمة قلق متنام من أن يصاحب تنفيذ مشروعات مبادرة (طريق الحرير الجديد) زيادة في الوجود العسكري الصيني لدعم وحماية الاستثمارات الاقتصادية لبكين. وقد تناول تقريران صدرا في الفترة الأخيرة عن وزارة الدفاع الصينية بوضوح، مسألة التوسع في استغلال القوات العسكرية الصينية في حماية مصالح اقتصادية بالخارج».

التحركات الصينية تثير قلق الهند
في الفترة الأخيرة، شكلت التحركات الصينية لتوسيع رقعة نفوذها داخل جنوب آسيا والمحيط الهندي، تحدياً مباشراً للمصالح الاستراتيجية للهند. المعروف أن دول جنوب آسيا تتميز بأهمية محورية لمبادرة «طريق الحرير الجديد» الصينية؛ نظراً لأنها توفر سبيلاً للوصول إلى منطقة المحيط الهندي. وفي هذا الإطار، اتبعت بكين دبلوماسية قوية على مدار السنوات الخمس الماضية للتعاون مع جيرانها بجنوب آسيا، ومحاولة دفع «أصدقائها» إلى مواقع السلطة داخل هذه البلاد. وأثارت المبادرة مخاوف هندية كبيرة، ذلك أن استثمارات بكين في بناء طرق وسكك حديدية وموانئ في نيبال، وبناء جسور ومطارات في باكستان وسريلانكا والمالديف، من الممكن استخدامها لأغراض عسكرية واستراتيجية.
ويقول المعلق الهندي مانوي ميشرا: «واجه النفوذ الهندي في جنوب آسيا تحدياً من جانب الصين في الفترة الأخيرة، وذلك مع إغراء الأخيرة الدول المجاورة للهند بأموالها. أما اليوم، فنجد أن ثمة تنامياً لمشاعر العداء تجاه الصين داخل هذه الدول، مع إدراكها لحقيقة الأخطار وراء السقوط في فخ الديون. والآن، عادت الهند إلى الصورة من جديد».
الملاحظ أنه خلال الشهور القليلة الأخيرة، قامت دول مثل ميانمار والمالديف وبنغلاديش ونيبال، إما بإلغاء وإما بتجميد عدة مشروعات لديها، على صلة بمشروع ربط هائل على مستوى القارة.

المكاسب الهندية
بدت التطورات السياسية الأخيرة داخل منطقة الجوار الهندي، تحديداً المالديف وبوتان، إيجابية بالنسبة لنيودلهي. وجاءت الهزيمة الأخيرة التي منيت بها الحكومة الموالية لبكين داخل المالديف، لتضيف إلى قائمة الدول التي تنامى داخلها الخطاب المعادي للصين على مستوى جنوب آسيا.
وفي وقت سابق، رأى خبراء هنود أن ثمة نصراً دبلوماسياً كبيراً لبلادهم في مواجهة الصين تحقق داخل المالديف، عندما أطيح بالرئيس يامين من السلطة، في إطار ما اعتبرته الصين تحركات تقودها الهند. يذكر أنه على مدار حكمه الذي استمر خمسة أعوام، كدس يامين الديون على بلاده لحساب الصين بقيمة بلغت 1.3 مليار دولار، أو ربع إجمالي الناتج الداخلي لبلاده، وذلك في صورة 17 مشروعاً تتولى بكين تمويلها. ونظراً للمكانة الحيوية التي تحتلها المالديف في استراتيجية الهند تجاه منطقة المحيط الهندي، فإن ميل المالديف تجاه الصين شكل انتكاسة كبرى للأمن البحري الهندي. وأعلنت صحيفة «ذي نيو إنديان إكسبريس» أن: «فوز محمد صالح في انتخابات المالديف، يعتبر انتصاراً في وجه دبلوماسية فخ الديون الصينية. ويدرس صالح تجميد كثير من المشروعات التي تمولها الصين داخل المالديف، في الوقت الذي تخضع مشروعات أخرى لدراسة دقيقة».
وبالمثل، جرت مراقبة الانتخابات التي أجريت في الفترة الأخيرة داخل بوتان عن قرب داخل الهند. وحتى اليوم، لا تزال بوتان تقاوم محاولات الصين التودد إليها، وتؤكد أن علاقات الصداقة التي تربطها بالهند لا تقبل التفاوض.
جدير بالذكر هنا أن حالة الاستنفار التي استمرت طيلة 72 يوماً بين قوات هندية في مواجهة قوات صينية في منطقة دوكلام، الصيف الماضي، عززت أهمية بوتان كمنطقة عازلة بين الجارتين الكبيرتين.
وتبعاً لما أكده «مركز التنمية العالمية»، ومقره واشنطن، وهو منظمة بحثية غير هادفة للربح، فإن الدول المشاركة في مبادرة «طريق الحرير الجديد» التي ستعجز عن الوفاء بديونها لبكين، سينتهي بها الحال تحت رحمة الأخيرة. وحذر المركز من أن ثماني دول على وجه التحديد تتحمل اليوم ديوناً فوق المستوى المتوسط، وتبدو عرضة للخطر: جيبوتي، وقرغيزستان، ولاوس، والمالديف، ومنغوليا، ومونتينغرو، وباكستان، وطاجيكستان.
تجدر الإشارة إلى أن رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي، من المقرر أن يزور نيبال (الثالثة هذا العام) وكذلك بوتان والمالديف (الأولى له منذ أن تولى رئاسة الوزراء) في وقت لاحق من العام، قبل شهور من سعيه للفوز بإعادة انتخابه.

عدة دول تلغي صفقات مع الصين
على الجانب الآخر، منيت حلقة وصل جوهرية في «طريق الحرير الجديد» بانتكاسة، عندما جمدت حكومة بنغلاديش خططاً لبناء الصين ميناء في منطقة سوناديا بها، في الوقت الذي منحت تعاقداً بقيمة 1.6 مليار دولار خاص بمشروع طاقة للهند. والواضح أن عوامل جيوسياسية لعبت دوراً في الأمر، ذلك أن الهند واليابان والولايات المتحدة تشعر بقلق إزاء الوجود الصيني المتزايد في منطقة المحيط الهندي، وثمة أقاويل حول ممارسة الدول الثلاث ضغوطاً على حكومة بنغلاديش لإلغاء مشروع سوناديا. اللافت أن بنغلاديش تسمح للهند باستخدام ميناءي شيتاغونغ ومونغلا في نقل شحنات إلى ولاياتها الواقعة شمال شرقي البلاد.
وتتركز الأنظار اليوم على بنغلاديش، في إطار مساعي رئيسة الوزراء الشيخة حسينة للفوز بإعادة انتخابها. ويرى محللون أن النفوذ الهندي داخل بنغلاديش ربما يكون مرتفعاً في الوقت الحاضر؛ لكن هذا الوضع قد يتبدل حال خسارة «اتحاد أوامي» الانتخابات.
من ناحيتها، حرصت سريلانكا على إعادة بعض التوازن لسياساتها الخارجية، وأكدت للهند أن العمليات الحساسة داخل الموانئ، بما في ذلك الإدارة الأمنية، ستضطلع بها شركة سريلانكية، وأن ميناء هامبانتوتا الذي استأجرته الصين لن يستخدم في أغراض عسكرية. كما رفضت طلبات متكررة لاحقاً من الجيش الصيني لدخول ميناء كولومبو. وقد تركت رسالة نيودلهي أصداءً بمختلف أرجاء المنطقة، دفعت حكومات أخرى بها لتقديم تأكيدات غير معلنة للهند، بأن الاستثمارات الصينية لن تكتسب طابعاً عسكرياً.
وبالمثل، تأمل ميانمار في الفوز بمشروعات البنية التحتية المطلوبة، دون الحاجة للوقوع في فخ دبلوماسية الديون الصينية، ما دفعها لاستخدام التهديد بالإلغاء في مفاوضاتها لتقليص تكلفة إنشاء ميناء كيوكبيو من 7.3 مليار دولار إلى 1.3 مليار دولار. وقد صدم العالم عندما أشاحت واحدة من أفقر دول العالم، سيراليون، بوجهها عن قطعة من الكعكة الصينية، وذلك عندما ألغى الرئيس يوليوس مادو بيو اتفاقاً بقرض وقعه سلفه مع الصين لبناء ميناء دولي جديد بتكلفة 400 مليون دولار.



بلينكن يصل إلى لاوس لحضور اجتماعات «آسيان» ولقاء نظيره الصيني

وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن خلال مشاركته في اجتماع وزراء خارجية رابطة دول جنوب شرق آسيا (أ.ف.ب)
وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن خلال مشاركته في اجتماع وزراء خارجية رابطة دول جنوب شرق آسيا (أ.ف.ب)
TT

بلينكن يصل إلى لاوس لحضور اجتماعات «آسيان» ولقاء نظيره الصيني

وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن خلال مشاركته في اجتماع وزراء خارجية رابطة دول جنوب شرق آسيا (أ.ف.ب)
وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن خلال مشاركته في اجتماع وزراء خارجية رابطة دول جنوب شرق آسيا (أ.ف.ب)

وصل وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، فجر السبت، إلى لاوس حيث سيحضر اجتماعات رابطة دول «آسيان» ويجري محادثات مع نظيره الصيني، وذلك في مستهل جولة آسيوية تشمل دولاً عدة وتهدف إلى تعزيز علاقات واشنطن مع حلفائها الإقليميين في مواجهة بكين.

ومن المقرر أن يلتقي بلينكن وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش محادثات وزراء خارجية رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) التي تعقد في فينتيان، عاصمة لاوس.

منافسة حادة

ويسعى بلينكن لتحقيق تطلّع بجعل منطقة المحيطين الهندي والهادئ «منطقة حرة ومفتوحة ومزدهرة»، وهو شعار يحمل في طيّاته انتقاداً للصين وطموحاتها الاقتصادية والإقليمية والاستراتيجية في المنطقة.

وقالت وزارة الخارجية في بيان صدر قبل وقت قصير من وصول بلينكن إلى فينتيان، إنّ «محادثات الوزير ستواصل البناء والتوسع غير المسبوق للعلاقات بين الولايات المتحدة وآسيان»، وفق ما نقلته وكالة الصحافة الفرنسية.

وهذه هي الزيارة الـ18 التي يقوم بها بلينكن إلى آسيا منذ توليه منصبه قبل أكثر من ثلاث سنوات، ما يعكس المنافسة الحادة بين واشنطن وبكين في المنطقة.

ووصل بلينكن بعد يومين على اجتماع عقده وزيرا خارجية الصين وروسيا مع وزراء خارجية تكتل «آسيان» الذي يضم عشر دول، وقد عقدا أيضاً اجتماعاً ثنائياً على الهامش.

وناقش وانغ وسيرغي لافروف «هيكلية أمنية جديدة» في أوراسيا، وفق وزارة الخارجية الروسية.

وقالت الوزارة إن وانغ ولافروف اتفقا على «التصدي المشترك لأي محاولات من جانب قوى من خارج المنطقة للتدخل في شؤون جنوب شرق آسيا».

وتقيم الصين شراكة سياسية واقتصادية قوية مع روسيا. ويعتبر أعضاء حلف شمال الأطلسي بكين مسانداً رئيسياً لموسكو في حربها على أوكرانيا.

وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية ماو نينغ، الجمعة، إن وانغ وبلينكن «سيتبادلان وجهات النظر حول مسائل ذات اهتمام مشترك».

ووفق وزارة الخارجية الأميركية سيناقش بلينكن «أهمية التقيّد بالقانون الدولي في بحر الصين الجنوبي» خلال محادثات «آسيان».

توترات متصاعدة

وتأتي المحادثات في خضم توترات متصاعدة بين الصين والفلبين في بحر الصين الجنوبي، حيث سجّلت مواجهات في الأشهر الأخيرة بين سفن فلبينية وصينية حول جزر مرجانية متنازع عليها.

وتتمسك بكين بالسيادة شبه الكاملة على الممر المائي الذي تعبره سنوياً بضائع بتريليونات الدولارات، على الرغم من حكم أصدرته محكمة دولية قضى بأن لا أساس قانونياً لموقفها هذا.

وفقد بحار فلبيني إبهامه في مواجهة وقعت في 17 يونيو (حزيران) حين أحبط أفراد من جهاز خفر السواحل الصيني محاولة للبحرية الفلبينية لإمداد قواتها في موقع ناء.

وانتقدت الصين في وقت سابق من العام الحالي تصريحات لبلينكن أبدى فيها استعداد واشنطن للدفاع عن الفلبين إذا تعرضت قواتها أو سفنها أو طائراتها لهجوم في بحر الصين الجنوبي.

وتصر بكين على أنه «لا يحق» للولايات المتحدة التدخل في بحر الصين الجنوبي.

والبلدان على طرفي نقيض في ملفات التجارة وحقوق الإنسان ووضع جزيرة تايوان المتمتعة بالحكم الذاتي.

وتشمل جولة بلينكن ستّ دول هي لاوس وفيتنام واليابان والفلبين وسنغافورة ومنغوليا.

ومن المقرر أن يصدر وزراء خارجية الدول المنضوية في «آسيان» بياناً مشتركاً في ختام الاجتماعات التي ستُعقد على مدى ثلاثة أيام.