كريستوف كاستانير... علاقة ثقة وولاء مع ماكرون

كريستوف كاستانير... علاقة ثقة وولاء مع ماكرون
TT

كريستوف كاستانير... علاقة ثقة وولاء مع ماكرون

كريستوف كاستانير... علاقة ثقة وولاء مع ماكرون

إذا كانت ثمة حاجة للكلمة السرّية التي تفسر احتلال كريستوف كاستانير مقعد وزير الداخلية، في التعديل الوزاري الأخير الذي أجراه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الحكومة إدوار فيليب، فإنها موجودة في الجملة التالية التي قالها كاستانير في مقابلة صحافية مع مجلة «لو بوان» بتاريخ 29 سبتمبر (أيلول) 2017، عندما كان وزيراً لشؤون البرلمان، وناطقاً باسم الحكومة. إذ قال الوزير الجديد متحدثاً عن الرئيس ماكرون: «كل شيء في هذا الرجل مدهش وساحر: ذكاؤه، وحيويته، وقوته البدنية، ومساره (السياسي)».
كان باستطاعة كريستوف كاستانير، وزير الداخلية الفرنسي الجديد، أن يغدق كثيراً من الصفات على الرئيس إيمانويل ماكرون.
كان اللقاء الأول بين الرجلين عندما كان ماكرون مساعداً للرئيس السابق فرنسوا هولاند في قصر الإليزيه، وجاءه كاستانير - النائب الاشتراكي وقتها - ليطلب مساعدته من أجل إنقاذ مصنع كائن في دائرته الانتخابية في جبال الألب، بالجنوب الشرقي الفرنسي.
يومذاك خرج كاستانير من اللقاء منبهراً من اتساع معارف ماكرون، وتمكنه من ملفاته. ولذا، عندما أعلن الرئيس الحالي في العام 2016 إطلاق «حركته» السياسية التي سماها «إلى الأمام»، وأعقبها باستقالته من الحكومة تهيؤاً للمعركة الرئاسية، كان كاستانير من أوائل السياسيين الذين التحقوا به، وراهنوا على نجاح مشروعه السياسي الذي أراده تخطياً لليمين واليسار.
ولا شك في أن الذين ساروا وراء ماكرون في بداية الطريق كانوا بمعنى ما من «المغامرين». فالرجل لم يكن قد بلغ الأربعين من العمر، ولم يكن قد خاض أي معركة انتخابية، لا محلية ولا نيابية. ورغم ذلك، فإن كاستانير وعدداً ليس كبيراً من السياسيين، بينهم رئيس البرلمان الحالي ريشار فران، ووزير الداخلية المستقيل جيرار كولومب، التفوا حول ماكرون، وشكلوا «النواة الصلبة» لمشروعه الرئاسي.
من هنا، لم تكن تسمية كاستانير ناطقاً باسم «المرشح» ماكرون، إبان الحملة الرئاسية ربيع عام 2017 من قبيل المصادفة. ذلك أنه كان من القلائل المحيطين بـ«المرشح» ماكرون الذين يتمتعون بخبرة سياسية واسعة، وقد اكتسبها في صفوف الحزب الاشتراكي ناشطاً حزبياً، ثم من عمله في عدة وزارات قبل أن ينتخب عمدة لإحدى المدن المتوسطة الحجم، ثم نائباً. بيد أن كاستانير يتمتع بمزايا كثيرة، ربما أهمها اثنتان: تملكه لحجة قوية وقدرة على المقارعة، وهدوء طبيعي حتى في أقسى اللحظات حرجاً. ولكن الأهم من ذلك كله أن كاستانير حاز على ثقة ماكرون، وتحوّل إلى أحد بارونات «الماكرونية» المنتصرة التي أحدثت انقلاباً في الحياة السياسية الفرنسية؛ حيث إنها همشت أحزاباً عريقة، كالحزب الاشتراكي وحزب «الجمهوريون» اليميني الكلاسيكي. ثم إن «الماكرونية» شكلت حاجزاً منيعاً حال دون وصول مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان إلى الإليزيه، في السباق الرئاسي العام الماضي.

استقالة كولومب
في بداية الشهر المنتهي، استقال جيرار كولومب، وزير الداخلية، من منصبه، متذرعاً برغبته في العودة إلى مدينته ليون، ثاني المدن الفرنسية، وعزمه على الترشح مجدداً لاستعادة المنصب الذي شغله 12 سنة عمدة لها، ونائباً عن إحدى دوائرها.
استقالة الرجل الثاني، بروتوكولياً، في حكومة إدوار فيليب، شكلت ضربة سياسية قاسية لماكرون؛ لأن كولومب كان أحد الوزراء القلائل الذين يتمتعون بوزن سياسي، ولأنه - كما كاستانير - كان من أوائل الذين وقفوا بقوة إلى جانب ماكرون، ووفّروا له قاعدة شعبية ودعماً سياسياً. والأسوأ من ذلك أن استقالته، التي جاءت على خلفية خلاف سياسي ونظرة سلبية لما آلت إليه الرئاسة ولأسلوب الرئيس، فُرضت فرضاً على الأخير. وهي تشبه إلى حد بعيد استقالة وزير البيئة نيكولا هولو، الذي سبقه بأسابيع ثلاثة فقط.
هولو لم يخبر ماكرون سلفاً برغبته في الاستقالة؛ بل أعلنها في مقابلة صحافية صباحية. أما كولومب فقد جاء عليها في حديث لصحيفة «لو فيغارو». ورغم سعي ماكرون لثني كولومب عن ترك الحكومة، فإن الأخير أصر عليها؛ لا بل إنه وضع رئيس الجمهورية أمام الأمر الواقع. وفي الحالتين، اهتزّ وضع الرئيس سياسياً. فبعد الصيف الرديء الذي هيمنت عليه «فضيحة ألكسندر بنعالا» ومعها تراجعت شعبية الرئيس إلى الحضيض، وغياب النتائج المنتظرة من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، وزيادة الضرائب، وتواتر الاحتجاجات المطلبية، وبقاء البطالة عند مستويات مرتفعة (نحو 10 في المائة) جاءت الاستقالات المتلاحقة لتجعل الرئيس والحكومة في وضع بالغ الهشاشة؛ ما فتح الباب للمعارضة، يميناً ويساراً، لتستعيد عافيتها «على ظهر» الحكومة والرئاسة.
من هنا، كان من المهم جداً بالنسبة لماكرون، أن تكون عملية إعادة صياغة الحكومة فرصة لتوفير دفعة سياسية تخرجه من كبوته الراهنة. وبعكس ما درجت عليه العادات السياسية في فرنسا، فإن تأخير التعديل الحكومي أثار جملة من الانتقادات، ومن بينها تلك الآتية من صفوف المعارضة، التي اعتبرت أن سببها الأول هو «نضوب» الشخصيات القوية والموثوقة داخل الحزب الرئاسي «الجمهورية إلى الأمام» التي يستطيع الرئيس إيكال وزارة رئيسية لها.

أهمية وزارة الداخلية
ليست وزارة الداخلية في فرنسا كبقية الوزارات؛ ذلك أن شاغل المنصب يحتل وزارة سيادية لها الوزن الأهم على صعيد الحياة الداخلية. فهي من جهة، من بين الوزارات الأهم؛ لأن شاغلها صاحب «آذان طويلة»، باعتبار أن كل تقارير الاستخبارات تحط على مكتبه كل صباح، ولأنه يعمل بشكل وثيق مع رئيسي الجمهورية والحكومة، ولأن وزارته لصيقة جغرافياً بقصر الإليزيه الذي لا يفصلها عنه سوى شارع فوبور سانت هونوريه. ثم إن وزير الداخلية مسؤول عن أمن البلاد والمواطنين، وفرنسا تعتبر أن التهديد الإرهابي ما زال قوياً. وإضافة إلى ذلك كله، فإن وزير الداخلية مسؤول عن الانتخابات، وعن تقسيم الدوائر الانتخابية، والبلاد مقبلة على انتخابات أوروبية الربيع القادم، ثم بلدية في العام الذي يليه. وأخيراً، فإن وزير الداخلية هو أيضاً وزير شؤون العبادة، وبالتالي، فإنه يمثل الدولة في علاقتها بالأديان؛ خصوصاً بالديانة الإسلامية. وليس سراً أن ماكرون أجّل أكثر من مرة الكشف عن خططه لتمثيل مسلمي فرنسا، بعدما تبين أن المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية الذي رأى النور في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي - عندما كان وزيراً للداخلية - يتعين إعادة النظر في تركيبته ووظائفه.

مطلوب شخصية موثوقة
لكل هذه الأسباب، كان الرئيس ماكرون بحاجة إلى أن يجد الشخص المناسب الذي يثق به ثقة عمياء، تضمن له ألا يتحول لاحقاً إلى منافس له. فوزارة الداخلية، لما لها من أهمية، توفر لصاحبها منصة تمكنه من التطلع إلى مناصب أرفع. الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي استخدمها رافعة للوصول إلى رئاسة الجمهورية. ومانويل فالس، المرشح اليوم لترؤس بلدية مدينة برشلونة الإسبانية، احتل هذا المنصب في بداية عهد الرئيس الاشتراكي فرنسوا هولاند، ومنه انتقل إلى رئاسة الحكومة قبل أن يبدأ مناوراته لمنع هولاند من الترشح لولاية ثانية، وليطرح نفسه مرشحاً عن الاشتراكيين. إلا أن طموحات فالس وحساباته خابت بسبب أخطاء عهد هولاند واستفحال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى أخطائه الشخصية. وبطبيعة الحال، كان كاستانير «رجل المرحلة» الذي يبحث عنه الرئيس، والذي سبق أن أوكل له مهمات سياسية رئيسية.
في أول حكومة للعهد الجديد التي شكلها إدوار فيليب، أعطي كاستانير حقيبة وزير دولة لشؤون البرلمان، وهي مهمة بالغة الأهمية والحساسية؛ لأنها تشكل صلة الوصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. بيد أن ماكرون أضاف إليها مهمة لا تقل أهمية عن الأولى، وهي أن يكون ناطقاً باسم الحكومة. وهذه المهمة ليست في متناول أي وزير أو سياسي؛ لأنه يتوجب على صاحبها التمكن من كل الملفات التي يتحدث عنها، وأن ينجح في «شرح» سياسة الرئيس والحكومة، وتبيان انسجامها مع الوعود التي أطلقها المرشح الرئاسي. وهكذا، أصبح كاستانير صورة مألوفة بالنسبة للطبقة السياسية والإعلاميين والفرنسيين بشكل عام.

وجه مألوف للفرنسيين
كل يوم أربعاء، بعد اجتماع مجلس الوزراء في قصر الإليزيه، كان كاستانير يطل على الصحافيين ليشرح القرارات والمشروعات الحكومية، وليقارع المعارضة. كما أنه أصبح ضيفاً شبه دائم على شاشات التلفزة والوسائل الإعلامية. ويمكن القول إنه نجح في مهمته، والدليل على ذلك أن الوزير بنجامان غريفو - الذي خلفه في هذه المهمة - لم يصب النجاح الذي أصابه كاستانير.
كان الأخير سعيداً في مهماته؛ إلا أنه عندما احتاج الرئيس ماكرون رجلاً يمحضه كامل ثقته، ويضع بين يديه مصير الحزب الذي أسسه «الجمهورية إلى الأمام»، استدار نحو كاستانير. فالمهمة بالغة الأهمية؛ لأن الحركة السياسية «إلى الأمام» التي حملت ماكرون إلى قصر الإليزيه كانت بحاجة للتحول إلى حزب. غير أن هذا الحزب بقي هامشياً لأنه لا يملك الهياكل والأطر التنظيمية التي تجعل منه «ماكينة» سياسية، وخصوصاً الماكينة الحزبية السياسية المنظمة والمتجذرة في المناطق الفرنسية.
يضاف إلى ذلك أن ماكرون كان يريده - ولا يزال - درعاً سياسية، تقف بوجه المعارضة، وتوفر له الحماية السياسية، وتروج لإنجازاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأن يكون عوناً للأكثرية التي يتمتع بها في البرلمان.
وفي نهاية المطاف، لم يعثر ماكرون على أفضل من كاستانير ليكلفه بهذه المهمة، رغم أن الأخير، وفق ما يؤكده عارفوه، ليس رجل أجهزة حزبية، ولم يكن لاهثاً أبداً وراء هذه المهمة. مع هذا قبل القيام بها؛ «لأن الرئيس طلب منه ذلك».
لكن العارفين ببواطن الأمور يؤكدون أن ما كان يطمح إليه ويحلم به كاستانير - المسمى «كاستا» - منذ فوز ماكرون بالرئاسة، هو الجلوس في مقعد وزير الداخلية، ليكون خليفة لجوزيف فوشيه، وزير الشرطة الشهير في عهد الإمبراطور نابليون بونابرت، الذي يقال عنه إنه كان يعرف كل صغيرة وكبيرة في الإمبراطورية.
هذه المرة، ومع شغور منصب وزير الداخلية، وفّر ماكرون لصديقه وحليفه الوفي الفرصة لكي يحقق حلمه، ويصبح جاره جغرافياً في وزارة الداخلية، رغم أنه لا يتمتع بأي خبرات في مجال الأمن ومكافحة الإرهاب، كما أنه يفتقر لشبكات وعلاقات داخل أجهزة الشرطة.

أسماء أخرى طرحت
وخلال الأيام العشرة التي انتظرها ماكرون قبل الكشف عن تفاصيل تعديل الوزراء، وعن الأسماء التي خرجت وتلك التي دخلت إلى الوزارة، طرحت أسماء منافسين على رئيس الجمهورية، وسرب أن إدوار فيليب، رئيس الحكومة، كان يدفع بوزير الخزانة جيرار دارمانان - وهو قريب منه سياسياً - لتسلم الداخلية. كما أن أسماء أخرى جرى تداولها، ومن بينها فرنسوا مولينس، مدعي عام باريس المتخصص في شؤون الإرهاب، وفريدريك بيشنار، مدير جهاز الشرطة السابق، وهو مقرب من ساركوزي. بيد أن ماكرون فضل الثقة والولاء الكاملين على غيرهما من المؤهلات. إلا أنه في الوقت عينه، سمى إلى جانب كاستانير، لوران نونيز، وزير دولة لمساعدته في مهماته. وحتى الأمس، كان نونيز مديراً للمديرية العامة للأمن الداخلي (المخابرات الداخلية). ويفترض الآن بهذا الثنائي أن يعمل يداً بيد، وأن يتقاسم المسؤولية لمواجهة التحديات والمهمات الكبرى التي تترتب على الوزارة.
لكن هذا الثنائي لا يبدو أنه يرضي المعارضة. إذ سارع حزب «الجمهوريون» اليميني إلى اعتبار أن وجود كاستانير في منصبه الجديد «لا يجعل الفرنسيين مطمئنين لأمنهم، ولا للدفاع عن العلمانية، ولا للوقوف بوجه الطوائفية الإسلامية». ورداً على هذا، يقول فرنسوا باتريا، رئيس مجموعة «فرنسا إلى الأمام» في مجلس الشيوخ، وأحد المقربين من ماكرون، إن كاستانير «يتمتع بكثير من المؤهلات، كما أنه يحوز ثقة رئيس الجمهورية، والقدرة على فرض نفسه، إضافة إلى معرفته بالشؤون العسكرية».
حتماً، المهمة الموكولة للوزير الجديد ليست سهلة، ولا تتعلق فقط بمحاربة الإرهاب. ويبدو للفرنسيين اليوم أن أولى المهمات يجب أن تكون إعادة فرض هيبة الدولة في المناطق التي تخرج إلى حد ما عن سلطتها. فخلال الأيام الأخيرة، قتل ثلاثة فتيان في باريس وإحدى ضواحيها، في معارك شوارع بين عصابات متنافسة من الشبان. كذلك، فإن أعمال اللصوصية مع استخدام العنف إلى ازدياد. ثم إن المعضلة الأكبر تتناول كيفية التعاطي مع الهجرات غير الشرعية، وتوفير التعاون بين وزارات الداخلية الأوروبية من جهة، وبين الأجهزة المختلفة المولجة مهمات الأمن داخل فرنسا.
صحيح أن كاستانير حصل على ما تاق إليه؛ لكن السؤال اليوم يدور حول قدراته على أن يكون «رجل المرحلة». والجواب سيحمله الآتي من الأيام.

كاستانير... في سطور
- ولد في بلدة أوليول بجنوب شرقي فرنسا يوم 3 يناير (كانون الثاني) 1966، أي إنه اليوم في الثانية والخمسين من عمره.
- درس في جامعة إيكس - مرسيليا بجنوب فرنسا، وتخرج محامياً.
- انتسب للحزب الاشتراكي الفرنسي ونشط في صفوفه منذ شبابه وحتى العام 2016، وبعدها صار من قادة حركة «إلى الأمام» (التي أسسها الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون).
- تولى منصب عمدة بلدة فوركالكيه بجنوب شرق فرنسا بين 2001 و2017.
- دخل مجلس النواب (الجمعية الوطنية) نائباً عن الدائرة الثانية في محافظة الألب - عالي البروفانس بجنوب شرقي فرنسا عام 2017، وعيّن خلال السنة ناطقاً باسم الحكومة.
- تولى منصب وزير الشؤون البرلمانية بين مايو (أيار) 2017 وحتى تعيينه أخيراً وزيراً للداخلية.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.