كريستوف كاستانير... علاقة ثقة وولاء مع ماكرون

كريستوف كاستانير... علاقة ثقة وولاء مع ماكرون
TT

كريستوف كاستانير... علاقة ثقة وولاء مع ماكرون

كريستوف كاستانير... علاقة ثقة وولاء مع ماكرون

إذا كانت ثمة حاجة للكلمة السرّية التي تفسر احتلال كريستوف كاستانير مقعد وزير الداخلية، في التعديل الوزاري الأخير الذي أجراه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الحكومة إدوار فيليب، فإنها موجودة في الجملة التالية التي قالها كاستانير في مقابلة صحافية مع مجلة «لو بوان» بتاريخ 29 سبتمبر (أيلول) 2017، عندما كان وزيراً لشؤون البرلمان، وناطقاً باسم الحكومة. إذ قال الوزير الجديد متحدثاً عن الرئيس ماكرون: «كل شيء في هذا الرجل مدهش وساحر: ذكاؤه، وحيويته، وقوته البدنية، ومساره (السياسي)».
كان باستطاعة كريستوف كاستانير، وزير الداخلية الفرنسي الجديد، أن يغدق كثيراً من الصفات على الرئيس إيمانويل ماكرون.
كان اللقاء الأول بين الرجلين عندما كان ماكرون مساعداً للرئيس السابق فرنسوا هولاند في قصر الإليزيه، وجاءه كاستانير - النائب الاشتراكي وقتها - ليطلب مساعدته من أجل إنقاذ مصنع كائن في دائرته الانتخابية في جبال الألب، بالجنوب الشرقي الفرنسي.
يومذاك خرج كاستانير من اللقاء منبهراً من اتساع معارف ماكرون، وتمكنه من ملفاته. ولذا، عندما أعلن الرئيس الحالي في العام 2016 إطلاق «حركته» السياسية التي سماها «إلى الأمام»، وأعقبها باستقالته من الحكومة تهيؤاً للمعركة الرئاسية، كان كاستانير من أوائل السياسيين الذين التحقوا به، وراهنوا على نجاح مشروعه السياسي الذي أراده تخطياً لليمين واليسار.
ولا شك في أن الذين ساروا وراء ماكرون في بداية الطريق كانوا بمعنى ما من «المغامرين». فالرجل لم يكن قد بلغ الأربعين من العمر، ولم يكن قد خاض أي معركة انتخابية، لا محلية ولا نيابية. ورغم ذلك، فإن كاستانير وعدداً ليس كبيراً من السياسيين، بينهم رئيس البرلمان الحالي ريشار فران، ووزير الداخلية المستقيل جيرار كولومب، التفوا حول ماكرون، وشكلوا «النواة الصلبة» لمشروعه الرئاسي.
من هنا، لم تكن تسمية كاستانير ناطقاً باسم «المرشح» ماكرون، إبان الحملة الرئاسية ربيع عام 2017 من قبيل المصادفة. ذلك أنه كان من القلائل المحيطين بـ«المرشح» ماكرون الذين يتمتعون بخبرة سياسية واسعة، وقد اكتسبها في صفوف الحزب الاشتراكي ناشطاً حزبياً، ثم من عمله في عدة وزارات قبل أن ينتخب عمدة لإحدى المدن المتوسطة الحجم، ثم نائباً. بيد أن كاستانير يتمتع بمزايا كثيرة، ربما أهمها اثنتان: تملكه لحجة قوية وقدرة على المقارعة، وهدوء طبيعي حتى في أقسى اللحظات حرجاً. ولكن الأهم من ذلك كله أن كاستانير حاز على ثقة ماكرون، وتحوّل إلى أحد بارونات «الماكرونية» المنتصرة التي أحدثت انقلاباً في الحياة السياسية الفرنسية؛ حيث إنها همشت أحزاباً عريقة، كالحزب الاشتراكي وحزب «الجمهوريون» اليميني الكلاسيكي. ثم إن «الماكرونية» شكلت حاجزاً منيعاً حال دون وصول مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان إلى الإليزيه، في السباق الرئاسي العام الماضي.

استقالة كولومب
في بداية الشهر المنتهي، استقال جيرار كولومب، وزير الداخلية، من منصبه، متذرعاً برغبته في العودة إلى مدينته ليون، ثاني المدن الفرنسية، وعزمه على الترشح مجدداً لاستعادة المنصب الذي شغله 12 سنة عمدة لها، ونائباً عن إحدى دوائرها.
استقالة الرجل الثاني، بروتوكولياً، في حكومة إدوار فيليب، شكلت ضربة سياسية قاسية لماكرون؛ لأن كولومب كان أحد الوزراء القلائل الذين يتمتعون بوزن سياسي، ولأنه - كما كاستانير - كان من أوائل الذين وقفوا بقوة إلى جانب ماكرون، ووفّروا له قاعدة شعبية ودعماً سياسياً. والأسوأ من ذلك أن استقالته، التي جاءت على خلفية خلاف سياسي ونظرة سلبية لما آلت إليه الرئاسة ولأسلوب الرئيس، فُرضت فرضاً على الأخير. وهي تشبه إلى حد بعيد استقالة وزير البيئة نيكولا هولو، الذي سبقه بأسابيع ثلاثة فقط.
هولو لم يخبر ماكرون سلفاً برغبته في الاستقالة؛ بل أعلنها في مقابلة صحافية صباحية. أما كولومب فقد جاء عليها في حديث لصحيفة «لو فيغارو». ورغم سعي ماكرون لثني كولومب عن ترك الحكومة، فإن الأخير أصر عليها؛ لا بل إنه وضع رئيس الجمهورية أمام الأمر الواقع. وفي الحالتين، اهتزّ وضع الرئيس سياسياً. فبعد الصيف الرديء الذي هيمنت عليه «فضيحة ألكسندر بنعالا» ومعها تراجعت شعبية الرئيس إلى الحضيض، وغياب النتائج المنتظرة من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، وزيادة الضرائب، وتواتر الاحتجاجات المطلبية، وبقاء البطالة عند مستويات مرتفعة (نحو 10 في المائة) جاءت الاستقالات المتلاحقة لتجعل الرئيس والحكومة في وضع بالغ الهشاشة؛ ما فتح الباب للمعارضة، يميناً ويساراً، لتستعيد عافيتها «على ظهر» الحكومة والرئاسة.
من هنا، كان من المهم جداً بالنسبة لماكرون، أن تكون عملية إعادة صياغة الحكومة فرصة لتوفير دفعة سياسية تخرجه من كبوته الراهنة. وبعكس ما درجت عليه العادات السياسية في فرنسا، فإن تأخير التعديل الحكومي أثار جملة من الانتقادات، ومن بينها تلك الآتية من صفوف المعارضة، التي اعتبرت أن سببها الأول هو «نضوب» الشخصيات القوية والموثوقة داخل الحزب الرئاسي «الجمهورية إلى الأمام» التي يستطيع الرئيس إيكال وزارة رئيسية لها.

أهمية وزارة الداخلية
ليست وزارة الداخلية في فرنسا كبقية الوزارات؛ ذلك أن شاغل المنصب يحتل وزارة سيادية لها الوزن الأهم على صعيد الحياة الداخلية. فهي من جهة، من بين الوزارات الأهم؛ لأن شاغلها صاحب «آذان طويلة»، باعتبار أن كل تقارير الاستخبارات تحط على مكتبه كل صباح، ولأنه يعمل بشكل وثيق مع رئيسي الجمهورية والحكومة، ولأن وزارته لصيقة جغرافياً بقصر الإليزيه الذي لا يفصلها عنه سوى شارع فوبور سانت هونوريه. ثم إن وزير الداخلية مسؤول عن أمن البلاد والمواطنين، وفرنسا تعتبر أن التهديد الإرهابي ما زال قوياً. وإضافة إلى ذلك كله، فإن وزير الداخلية مسؤول عن الانتخابات، وعن تقسيم الدوائر الانتخابية، والبلاد مقبلة على انتخابات أوروبية الربيع القادم، ثم بلدية في العام الذي يليه. وأخيراً، فإن وزير الداخلية هو أيضاً وزير شؤون العبادة، وبالتالي، فإنه يمثل الدولة في علاقتها بالأديان؛ خصوصاً بالديانة الإسلامية. وليس سراً أن ماكرون أجّل أكثر من مرة الكشف عن خططه لتمثيل مسلمي فرنسا، بعدما تبين أن المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية الذي رأى النور في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي - عندما كان وزيراً للداخلية - يتعين إعادة النظر في تركيبته ووظائفه.

مطلوب شخصية موثوقة
لكل هذه الأسباب، كان الرئيس ماكرون بحاجة إلى أن يجد الشخص المناسب الذي يثق به ثقة عمياء، تضمن له ألا يتحول لاحقاً إلى منافس له. فوزارة الداخلية، لما لها من أهمية، توفر لصاحبها منصة تمكنه من التطلع إلى مناصب أرفع. الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي استخدمها رافعة للوصول إلى رئاسة الجمهورية. ومانويل فالس، المرشح اليوم لترؤس بلدية مدينة برشلونة الإسبانية، احتل هذا المنصب في بداية عهد الرئيس الاشتراكي فرنسوا هولاند، ومنه انتقل إلى رئاسة الحكومة قبل أن يبدأ مناوراته لمنع هولاند من الترشح لولاية ثانية، وليطرح نفسه مرشحاً عن الاشتراكيين. إلا أن طموحات فالس وحساباته خابت بسبب أخطاء عهد هولاند واستفحال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى أخطائه الشخصية. وبطبيعة الحال، كان كاستانير «رجل المرحلة» الذي يبحث عنه الرئيس، والذي سبق أن أوكل له مهمات سياسية رئيسية.
في أول حكومة للعهد الجديد التي شكلها إدوار فيليب، أعطي كاستانير حقيبة وزير دولة لشؤون البرلمان، وهي مهمة بالغة الأهمية والحساسية؛ لأنها تشكل صلة الوصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. بيد أن ماكرون أضاف إليها مهمة لا تقل أهمية عن الأولى، وهي أن يكون ناطقاً باسم الحكومة. وهذه المهمة ليست في متناول أي وزير أو سياسي؛ لأنه يتوجب على صاحبها التمكن من كل الملفات التي يتحدث عنها، وأن ينجح في «شرح» سياسة الرئيس والحكومة، وتبيان انسجامها مع الوعود التي أطلقها المرشح الرئاسي. وهكذا، أصبح كاستانير صورة مألوفة بالنسبة للطبقة السياسية والإعلاميين والفرنسيين بشكل عام.

وجه مألوف للفرنسيين
كل يوم أربعاء، بعد اجتماع مجلس الوزراء في قصر الإليزيه، كان كاستانير يطل على الصحافيين ليشرح القرارات والمشروعات الحكومية، وليقارع المعارضة. كما أنه أصبح ضيفاً شبه دائم على شاشات التلفزة والوسائل الإعلامية. ويمكن القول إنه نجح في مهمته، والدليل على ذلك أن الوزير بنجامان غريفو - الذي خلفه في هذه المهمة - لم يصب النجاح الذي أصابه كاستانير.
كان الأخير سعيداً في مهماته؛ إلا أنه عندما احتاج الرئيس ماكرون رجلاً يمحضه كامل ثقته، ويضع بين يديه مصير الحزب الذي أسسه «الجمهورية إلى الأمام»، استدار نحو كاستانير. فالمهمة بالغة الأهمية؛ لأن الحركة السياسية «إلى الأمام» التي حملت ماكرون إلى قصر الإليزيه كانت بحاجة للتحول إلى حزب. غير أن هذا الحزب بقي هامشياً لأنه لا يملك الهياكل والأطر التنظيمية التي تجعل منه «ماكينة» سياسية، وخصوصاً الماكينة الحزبية السياسية المنظمة والمتجذرة في المناطق الفرنسية.
يضاف إلى ذلك أن ماكرون كان يريده - ولا يزال - درعاً سياسية، تقف بوجه المعارضة، وتوفر له الحماية السياسية، وتروج لإنجازاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأن يكون عوناً للأكثرية التي يتمتع بها في البرلمان.
وفي نهاية المطاف، لم يعثر ماكرون على أفضل من كاستانير ليكلفه بهذه المهمة، رغم أن الأخير، وفق ما يؤكده عارفوه، ليس رجل أجهزة حزبية، ولم يكن لاهثاً أبداً وراء هذه المهمة. مع هذا قبل القيام بها؛ «لأن الرئيس طلب منه ذلك».
لكن العارفين ببواطن الأمور يؤكدون أن ما كان يطمح إليه ويحلم به كاستانير - المسمى «كاستا» - منذ فوز ماكرون بالرئاسة، هو الجلوس في مقعد وزير الداخلية، ليكون خليفة لجوزيف فوشيه، وزير الشرطة الشهير في عهد الإمبراطور نابليون بونابرت، الذي يقال عنه إنه كان يعرف كل صغيرة وكبيرة في الإمبراطورية.
هذه المرة، ومع شغور منصب وزير الداخلية، وفّر ماكرون لصديقه وحليفه الوفي الفرصة لكي يحقق حلمه، ويصبح جاره جغرافياً في وزارة الداخلية، رغم أنه لا يتمتع بأي خبرات في مجال الأمن ومكافحة الإرهاب، كما أنه يفتقر لشبكات وعلاقات داخل أجهزة الشرطة.

أسماء أخرى طرحت
وخلال الأيام العشرة التي انتظرها ماكرون قبل الكشف عن تفاصيل تعديل الوزراء، وعن الأسماء التي خرجت وتلك التي دخلت إلى الوزارة، طرحت أسماء منافسين على رئيس الجمهورية، وسرب أن إدوار فيليب، رئيس الحكومة، كان يدفع بوزير الخزانة جيرار دارمانان - وهو قريب منه سياسياً - لتسلم الداخلية. كما أن أسماء أخرى جرى تداولها، ومن بينها فرنسوا مولينس، مدعي عام باريس المتخصص في شؤون الإرهاب، وفريدريك بيشنار، مدير جهاز الشرطة السابق، وهو مقرب من ساركوزي. بيد أن ماكرون فضل الثقة والولاء الكاملين على غيرهما من المؤهلات. إلا أنه في الوقت عينه، سمى إلى جانب كاستانير، لوران نونيز، وزير دولة لمساعدته في مهماته. وحتى الأمس، كان نونيز مديراً للمديرية العامة للأمن الداخلي (المخابرات الداخلية). ويفترض الآن بهذا الثنائي أن يعمل يداً بيد، وأن يتقاسم المسؤولية لمواجهة التحديات والمهمات الكبرى التي تترتب على الوزارة.
لكن هذا الثنائي لا يبدو أنه يرضي المعارضة. إذ سارع حزب «الجمهوريون» اليميني إلى اعتبار أن وجود كاستانير في منصبه الجديد «لا يجعل الفرنسيين مطمئنين لأمنهم، ولا للدفاع عن العلمانية، ولا للوقوف بوجه الطوائفية الإسلامية». ورداً على هذا، يقول فرنسوا باتريا، رئيس مجموعة «فرنسا إلى الأمام» في مجلس الشيوخ، وأحد المقربين من ماكرون، إن كاستانير «يتمتع بكثير من المؤهلات، كما أنه يحوز ثقة رئيس الجمهورية، والقدرة على فرض نفسه، إضافة إلى معرفته بالشؤون العسكرية».
حتماً، المهمة الموكولة للوزير الجديد ليست سهلة، ولا تتعلق فقط بمحاربة الإرهاب. ويبدو للفرنسيين اليوم أن أولى المهمات يجب أن تكون إعادة فرض هيبة الدولة في المناطق التي تخرج إلى حد ما عن سلطتها. فخلال الأيام الأخيرة، قتل ثلاثة فتيان في باريس وإحدى ضواحيها، في معارك شوارع بين عصابات متنافسة من الشبان. كذلك، فإن أعمال اللصوصية مع استخدام العنف إلى ازدياد. ثم إن المعضلة الأكبر تتناول كيفية التعاطي مع الهجرات غير الشرعية، وتوفير التعاون بين وزارات الداخلية الأوروبية من جهة، وبين الأجهزة المختلفة المولجة مهمات الأمن داخل فرنسا.
صحيح أن كاستانير حصل على ما تاق إليه؛ لكن السؤال اليوم يدور حول قدراته على أن يكون «رجل المرحلة». والجواب سيحمله الآتي من الأيام.

كاستانير... في سطور
- ولد في بلدة أوليول بجنوب شرقي فرنسا يوم 3 يناير (كانون الثاني) 1966، أي إنه اليوم في الثانية والخمسين من عمره.
- درس في جامعة إيكس - مرسيليا بجنوب فرنسا، وتخرج محامياً.
- انتسب للحزب الاشتراكي الفرنسي ونشط في صفوفه منذ شبابه وحتى العام 2016، وبعدها صار من قادة حركة «إلى الأمام» (التي أسسها الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون).
- تولى منصب عمدة بلدة فوركالكيه بجنوب شرق فرنسا بين 2001 و2017.
- دخل مجلس النواب (الجمعية الوطنية) نائباً عن الدائرة الثانية في محافظة الألب - عالي البروفانس بجنوب شرقي فرنسا عام 2017، وعيّن خلال السنة ناطقاً باسم الحكومة.
- تولى منصب وزير الشؤون البرلمانية بين مايو (أيار) 2017 وحتى تعيينه أخيراً وزيراً للداخلية.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».