معارك الربع الساعة الأخيرة في تونس

الصراع على السلطة مستفحل... والأزمة الليبية تلقي بظلالها على الوضع

معارك الربع الساعة الأخيرة في تونس
TT

معارك الربع الساعة الأخيرة في تونس

معارك الربع الساعة الأخيرة في تونس

بينما تبشر قيادات في قصري رئاسة الجمهورية والحكومة التونسيين، وكذلك في مقرات كبرى الأحزاب السياسية، بانفراج شامل للأزمة السياسية والاقتصادية الاجتماعية الأخطر في تاريخ تونس منذ عشرات السنين، برزت مؤشرات تصعيد جديد في الصراع على السلطة.
هذه المؤشرات برزت عشية المصادقة على ميزانية 2019، والإعلان عن تعديل الحكومة، تحضيراً للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة الخريف المقبل، إذ انطلقت زعامات سياسية ونقابية في التحضير لبناء شراكات استراتيجية جديدة تمتد لسنوات، تشمل «خصوم الأمس» المحسوبين على مختلف قوى اليسار واليمين من جهة، وعلى التيارين العلماني والإسلامي من جهة ثانية. فهل تخرج تونس من عنق الزجاجة بسلام مجدداً؟ وهل ينتصر دعاة التوافق والشراكة... أم أنصار القطيعة والصدام... ما يدفع البلاد في صراعات ربع الساعة الأخير، من أجل التحكّم في مؤسسات الدولة والبلاد في السنوات المقبلة؟
رغم اضطراب الأوضاع في كل دول ما بات يُعرف بـ«الربيع العربي» وغموض مستقبلها، خاصة في ليبيا، الجارة الجنوبية الغنية لتونس، لا يزال الرهان كبيراً في تونس على إنجاح ما سُمي «الاستثناء الديمقراطي التونسي»، ومن ثم، على حسم الصراعات على السلطة سياسياً، حسب الأزهر العكرمي، المحامي والوزير السابق في حكومة الحبيب الصيد، الذي أصبح مناصراً لرئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد ومشروعه السياسي.

التضخم... والمديونية
لكن التحدي الحقيقي، حسب تقديرات الخبير الاقتصادي رضا الشكندالي، هو في «مسألة إلى أي حد يمكن أن تصمد إرادة أنصار هذا الخيار في وقت استفحلت فيه الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والعواصف السياسية، ما أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في نسب التضخم والأسعار والمديونية وعجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات، مع تراجع الثقة في العملة الوطنية وفي فوائد الاستثمار والادخار».
وحقاً، استفحلت صعوبات الاقتصاد والأوضاع الاجتماعية بسبب تداعيات الأزمة الليبية، وتراجع مداخيل المبادلات معها، وتراكم ديون المؤسسات التونسية، بما فيها الفنادق السياحية والمصحات ومؤسسات التصدير، مع الجانب الليبي.
ولئن كانت القيمة الرسمية للمبادلات التونسية الليبية تحوم حول مليار دولار سنوياً، فإن قيمتها الحقيقية كانت تناهز الـ10 مليارات دولار قبل «الربيع العربي»، ثم قبل اندلاع حرب مطار طرابلس والبوابات الحدودية في صيف 2014.
كذلك، كانت السوق الليبية تساهم في توفير وظائف مباشرة وغير مباشرة لنحو مليون تونسي، كما بينت دراسات أعدها مركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية في الجامعة التونسية، حسب مديره العام عالم الاجتماع، المنصف وناس.

مستقبل الإسلام السياسي
من جانب آخر، في ظل ازدياد الضغوط عربياً وإقليمياً ودولياً من أجل إبعاد ممثلي الجماعات الإسلامية المتشددة عن الحكم ومراكز النفوذ، فإن من بين التحديات الجديدة - القديمة التي تواجه صناع السياسة في الدول المغاربية، وخصوصاً في تونس وليبيا والجزائر، ملف ما يسمى مستقبل زعماء الإسلام السياسي.
وراهناً، ثمة علامات استفهام حول فرص حزب أنصار «حركة النهضة» التونسي، في الحفاظ على مواقعهم، وإقناع خصومهم في الداخل والخارج بقطيعتهم مع المرجعيات الفكرية والسياسية للجماعات الإخوانية والسلفية المتشددة... أم يحصل العكس، كما يتوقع الجامعي علية العلاني.
ثم هناك من يتساءل عما إذا كان إعلان الرئيس التونسي قائد السبسي وأنصاره القطيعة مع قيادة «النهضة»، ثم انتقادات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال قمة الفرنكفونية بحضوره، مَن وصفهم بـ«الظلاميين»، مؤشراً لمنعرج أمني سياسي جديد في تونس، يكون قادة «النهضة» وحلفاؤهم أبرز ضحاياه؟
«كل السيناريوهات واردة» في نظر الهاشمي نويرة، رئيس تحرير جريدة «الصحافة» الموالية للرئيس التونسي، والمعارضة بقوة لما تصفه بـ«التغوّل السياسي» لـ«حركة النهضة» في عهد حكومة الشاهد.

خطوة إلى الأمام
هذا، ولقد كان من بين أبرز نتائج فتور علاقات رئيسي الجمهورية والحكومة من جهة، ورئاسة الجمهورية وقيادة «حركة النهضة» من جهة ثانية، خلط الأوراق وتشكيل تحالفات جديدة، وفتح باب المشاورات تحضيراً لما سماه محسن مرزوق، الوزير السابق وزعيم «حزب المشروع» اليساري الوسطي: «شراكة استراتيجية» مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد، والأطراف السياسية المتحالفة معه حالياً في البرلمان. والقصد هنا الكتلة المعروف بـ«الائتلاف الوطني»، بزعامة النقابي مصطفى بن أحمد، والطبيب الصحبي بن فرج، والناشطة النسائية ليلى الشتالي... الذين كانوا جميعاً من أكبر معارضي حزب «حركة النهضة» عندما كان في الحكم عامي 2012 و2013.
تشكل هذه الكتلة نواة ائتلاف برلماني سياسي حزبي جديد، يضم عشرات المنشقين عن حزب الرئيس ونواب حزبي «مشروع تونس» وكتلة «حركة النهضة» بنوابها الـ68. ولا يستبعد المحلل السياسي والإعلامي منذر بالضيافي أن تتوسع هذه النواة إلى كيان سياسي أوسع. ومن جهته، ذهب محسن مرزوق، زعيم حزب «المشروع» وعبد الكريم الهاروني، رئيس مجلس شورى «النهضة» إلى حد الحديث عن كون الأمر يتعلق بآلية تهدف إلى تحقيق شراكة واسعة مفتوحة على «كل الأطراف السياسية الوطنية».

التمديد ليوسف الشاهد
مؤقتاً، تهدف هذه الشراكة إلى دعم التمديد ليوسف الشاهد على رأس الحكومة، رغم مطالبات رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، وزعماء حزب «نداء تونس»، وأمين عام اتحاد نقابات العمال، نور الدين الطبوبي، وقيادات اتحاد النقابات، بإقالته وتغيير غالبية فريقه. وكذلك تهدف إلى تشكيل اتفاق سياسي واسع يمكن أن يؤدي إلى خوض الانتخابات المقبلة ضمن ائتلاف سياسي جديد، يتفق زعماؤه الآن على طريقة تقاسم المواقع المهمة في الدولة بعدها، مثلاً عبر إسناد رئاسة الجمهورية إلى يوسف الشاهد، ورئاسة البرلمان إلى زعيم «حركة النهضة» راشد الغنوشي، أو أحد نوابه، ورئاسة الحكومة وبقية وزارات السيادة لزعماء الأحزاب المشاركة في الائتلاف، وبينهم محسن مرزوق.
لكن ماذا لو فاجأ الرئيس الباجي قائد السبسي الجميع بإعلان الترشح في انتخابات العام المقبل، أو اختار أن يدعم مرشحاً آخر، مثل وزير الخارجية والدفاع الأسبق وزعيم حزب المبادرة كمال مرجان؟
الخيار ممكن؛ وخصوصاً أن كمال مرجان أعلن رسمياً استعداده للترشح للرئاسة إذا تحقق قدر من التوافق السياسي الوطني حوله. ولقد سبق لمرجان أن ترشح للرئاسة في 2014، ولم يسعفه الحظ رغم حصوله على دعم سياسي إقليمي ودولي. ويومذاك، تفوق عليه بفارق كبير الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي، الذي صوت لفائدته أنصار النظام السابق والليبراليون واليساريون المعارضون لـ«النهضة». وحصل على المرتبة الثانية الرئيس السابق الدكتور محمد المنصف المرزوقي، الذي صوتت له غالبية محافظات الجنوب والوسط والجهات المهمّشة، وأنصار التيارات الإسلامية والقومية.

شراكة بين «النهضة» ويسار الوسط
عبد الكريم الهاروني، وزير النقل، والقيادي الثاني في «حركة النهضة»، كشف أخيراً أنه عقد سلسلة من جلسات التشاور مع قيادة حزب «المشروع» اليساري، تمهيداً لتأسيس شراكة واسعة، من بين أسسها القطع مع المعارك الآيديولوجية القديمة بين اليساريين الاشتراكيين والشيوعيين والإسلاميين. وسار في الاتجاه ذاته القيادي اليساري محسن مرزوق الذي كان قياديون في «النهضة» يتهمونه بتزعم تيار العداء لهم؛ بل وبالدفاع عن خيار «استئصال» الإسلاميين من المشهد السياسي.
وأبرزت التصريحات الجديدة الصادرة عن مرزوق والمقربين منه داخل حزبه وخارجه نزوعاً واضحاً نحو البراغماتية، والحرص على تجاوز الصراعات الآيديولوجية والعقائدية بين الزعامات السياسية، خصوصاً بين المكوّنات الثلاثة للمشهد السياسي التونسي: اليسار الاجتماعي بفروعه النقابية والحزبية، والتيار الوطني الذي يتزعمه قادة الحزب الحاكم منذ 60 سنة، وتيار الهوية بمكوّناته العروبية والإسلامية.

اعتراضات وتخوّفات
لكن هذا التطور النوعي لم يخل من مفاجآت، وأفرز صراعات جديدة داخل أبرز الأقطاب السياسية.
- أولاً، داخل القطب الذي يرمز إليه حزب «نداء تونس» بزعامة حافظ قائد السبسي، نجل رئيس الجمهورية، ورضا بالحاج، الوزير السابق، وسليم الرياحي، رئيس حزب الوطني الحر سابقاً. وتكشف تصريحات هؤلاء الزعماء والقياديين عن أنهم ينظرون بعين الريبة إلى تحالف حزب «المشروع» اليساري الوسطي، مع «حركة النهضة» ورئيس الحكومة يوسف الشاهد، وأنصاره داخل البرلمان وخارجه. ومن بين المفارقات أن بعض قادة هذا القطب السياسي الذي يعتبر من أكبر داعمي الرئيس قائد السبسي، لا يخفون رغبة في أن يقدم خصمهم الشاهد وأنصار حزب «المشروع» في تحالف استراتيجي مع «حركة النهضة»، لتسهل عملية محاربتهم إعلامياً، واتهامهم بخيانة ما يسمونه المشروع المجتمعي وقيم الحداثة والمعاصرة. وفي هذا الصدد بادر رضا بالحاج، المنسق العام لحزب «نداء تونس»، إلى انتقاد تحالف يوسف الشاهد ومحسن مرزوق ورفاقه، مع من يسمونهم المتشددين ونشطاء الإسلام السياسي.
- أما القطب الثاني المعارض لكل صيغ الشراكة مع «حركة النهضة» فيضم أحزاب المعارضة التي تقف على يسار الائتلاف الحاكم الحالي بقيادة «النداء» و«النهضة»، مثل «الجبهة الشعبية» بزعامة حمة الهمامي، التي تضم 15 حزباً من حركات ماركسية وقومية، وحزب الائتلاف الديمقراطي الفائز بالمرتبة الثالثة في الانتخابات البلدية في مايو (أيار) الماضي، بزعامة المحامي الحقوقي محمد عبو، والبرلماني غازي الشواشي، والبرلمانية المثيرة للجدل سامية عبو. وقد انطلق سياسيون من هذا القطب في انتقاد تقارب حزب «مشروع تونس» مع «حركة النهضة» من جهة، ومع حكومة الشاهد من جهة ثانية.
- إلى يمين هذه الأطراف، يوجد قطب ثالث أكثر حدّة في العداء لحزب «حركة النهضة» وشركائه الافتراضيين، وللمسار السياسي لرئيس الحكومة يوسف الشاهد وأنصاره من جهة، وللزعيم اليساري السابق محسن مرزوق ورفاقه من جهة ثانية. المحامية عبير موسى هي زعيمة هذا التيار الذي يعدّ امتداداً للحزب الحاكم في عهدي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي. ولقد ذهبت موسى – صراحة – إلى حد المطالبة بحظر «حركة النهضة» ومحاكمة رئيس الحكومة وعدد من مساعديه. لكن المسكوت عنه هو أن هذا الحزب يحظى بدعم قطاع من رجال الأعمال والسياسة البارزين في البلاد، وبينهم مئات من رموز الدولة قبل ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، ممن لا يزالون محل ملاحقة قضائية ومنع من السفر.

التعديل الوزاري
ويزداد المشهد السياسي غموضاً بالنسبة لكثيرين بعد الإعلان رسمياً عن احتمال إقدام رئيس الحكومة يوسف الشاهد على إدخال تعديل كبير على حكومته، وعرض التشكيلة الجديدة على البرلمان، فيضرب بذا عدة عصافير بحجر واحد.
فإذا صادق نحو نصف أعضاء البرلمان عليها، وعلى قانون المالية لعام 2019، فسيكون الشاهد وحلفاؤه قد قطعوا الشوط الحاسم في اتجاه كسب معركة ربع الساعة الأخير مع القطب المعارض لهم، بزعامة رئيس الدولة الباجي قائد السبسي وحزب «النداء» وأنصاره. أيضاً، ستمنح هذه المصادقة يوسف الشاهد وشركاءه فرصة الفوز بالشرعية البرلمانية مجدداً، إلى جانب حصولهم على حرية أكبر في المناورة السياسية، والاختيار بين فرضية البقاء في الحكم حتى استكمال انتخابات العام المقبل، أو الانسحاب منه من موقع قوي، والإعلان عن تأسيس حزب جديد أو ائتلاف سياسي لخوض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.

ربع الساعة الأخير
لا يستبعد المراقبون أن يتحرّر الشاهد وأنصاره، بعد كسب ورقة تزكية البرلمان لموازنة 2019 وللحكومة الجديدة، من الضغوط السياسية التي يمارسها عليه حالياً قادة حزب «نداء تونس» الذي سبق أن أوصلهم إلى الحكم.
كذلك يمكنهم أن يعلنوا فك الارتباط السياسي مع «حركة النهضة» ونوابها؛ بل يمكن أن يدفعوا باتجاه تهميش دور البرلمان في العام المقبل، وتحويله إلى مجرد غرفة مكلفة بالمصادقة على بعض مشروعات القوانين المستعجلة، على غرار ما حصل في السنة الانتخابية 2014 في عهد «حكومة التكنوقراط» برئاسة المهندس المهدي جمعة. وللعلم، سبق لقياديين من «النهضة»، مثل سيد الفرجاني، أن حذّروا في وسائل الإعلام وفي رسالة مفتوحة وجهوها إلى رئيس الحركة، من «سيناريو» تمرّد الشاهد سياسياً عليهم في مطلع العام الجديد، بعد أن يكون قد استغنى عن خدمات كتلتهم البرلمانية، في ربع الساعة الأخير.
لكن عوامل داخلية وخارجية كثيرة تؤثر بقوة في المستجدات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية في تونس، ويمكن أن تدفع البلد في كل لحظة خطوات إلى الوراء.
«يتصدر الملف الليبي بمستجداته العسكرية والسياسية والأمنية هذه العوامل»؛ حسب الإعلامي والمحلل السياسي المختص في الشؤون الليبية، علي اللافي. في حين يعتقد رئيس مؤسسة «دراسات دولية» التونسية، السفير عز الدين قرقني، أن «تطورات الأوضاع في كل من ليبيا والجزائر سوف تكون لديها انعكاسات كبيرة جداً على تونس، التي يزورها سنويا 4 ملايين سائح جزائري وليبي، وتربطها حدود برية مشتركة، جبلية حيناً وصحراوية حيناً آخر، يصعب تأمينها، تفوق الألف كيلومتر».
بل لقد ذهب الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، ووزير الخارجية خميس الجهيناوي بعيداً، عندما صرّحا أخيراً على هامش «القمة الفرنكفونية» في أرمينيا، بأن «تونس وليبيا شعب واحد في دولتين»، ثم استطردا واعتبرا أن ليبيا ليس فيها دولة موحّدة ومخاطب واحد لجيرانها، وخاصة بالنسبة لتونس، التي تربطها بها 450 كيلومتراً من الحدود الصحراوية المشتركة.

مفاجآت أخرى مرتقبة في المشهد السياسي
- على الصعيد الداخلي، لا يستبعد المراقبون أن تشهد المرحلة القامة مفاجآت بالجملة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. ولئن تتمسك أبرز الأطراف حتى الآن بالتوافق والشراكة السياسية، فإن الطرف السياسي الأقوى في البلاد كان ولا يزال الاتحاد العام التونسي للشغل.
لقد ألغى اتحاد الشغل قبل أيام إضراباً عاما كان سيشنه في المؤسسات العمومية المفلسة، التي طالب الصندوق الدولي بالتفويت فيها أو إصلاحها؛ لأنها تكلف الدولة سنوياً أكثر من عشر موازنتها. وحقاً، جنب قرار إلغاء الإضراب العام البلاد خسائر مالية وسياسية ومشكلات أمنية؛ لكن ثمنه كان موافقة رئاسة الحكومة على زيادات عامة في الأجور، ستكون قيمتها نحو 5 في المائة من الموازنة الإجمالية لعام 2019. ومن المقرر أن توافق الحكومة على زيادات مماثلة في قطاع الوظيفة العمومية؛ لكن انفجار سلسلة جديدة من الإضرابات وأعمال العنف وارد جداً في ظل تدهور القدرة الشرائية ونسب الفقر والبطالة، وفقدان الدينار التونسي نحو نصف قيمته منذ 2011.
وختاماً، يزيد الأمر تعقيداً تعقد الأجندات السياسية والانتخابية، وإصرار بعض القيادات النقابية والسياسية، مثل سمير الشفي، الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل، وقيادات نقابات التعليم، على تغيير رئيس الحكومة وبعض وزراء «النهضة» و«النداء» واليسار الاجتماعي، وهو ما يمكن أن يزيد من تعقيدات معارك الربع ساعة الأخير من أجل السلطة، في مناخ إقليمي ودولي غير عادي.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.