حياة يهود الأندلس في عصري المرابطين والموحدين

تولوا المناصب العليا ولم يكونوا منعزلين داخل «غيتوات»

حياة يهود الأندلس في عصري المرابطين والموحدين
TT

حياة يهود الأندلس في عصري المرابطين والموحدين

حياة يهود الأندلس في عصري المرابطين والموحدين

من أجل الوصول إلى صورة قريبة من حياة اليهود في عصر المرابطين، سعت الباحثة الدكتورة زينب أبو زيد في كتابها «اليهود في الأندلس في عصري المرابطين والموحدين» لإزالة كثير من اللبس حول ما أشيع عن اضطهادهم من قبل بعض ملوك الدولتين، خصوصاً الموحدين الذين كان لهم النصيب الأكبر من الاتهامات. وذكرت أبو زيد أن باحثين يهود معاصرين اهتموا بتدوين ودراسة تاريخ أسلافهم، خصوصاً في عصرهم الذهبي في الأندلس، تحدثوا عن الاضطهاد المزعوم دون أن يذكروا أسبابه، وقد حفزها هذا للسعي لرسم صورة صحيحة عن أحوالهم، رغم قلة المصادر والمادة العلمية عنهم في تلك الفترة.
وأشارت أبو زيد إلى أنها اعتمدت في سبيل استجلاء أوضاع اليهود على مقابلة النصوص، واستخدام الاستنباط والقياس من أجل الوصول إلى أقرب صورة لحياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، والدور الذي كانوا يقومون به في كل هذه النواحي.
وتضمن الكتاب، الذي صدر حديثاً عن المجلس الأعلى للثقافة، تمهيداً ذكرت فيه أبو زيد أن تعاون اليهود كان من بين العوامل الكثيرة التي أدت لنجاح الفتح الإسلامي للأندلس، وأشارت إلى جماعة من يهود إسبانيا وفدوا إلى طنجة لمقابلة طارق بن زياد، وحرضوه على دخولها، ووعدوه بتقديم المساعدات كافة لتحقيق ذلك، وقد أصبح بإمكان المتنصرين منهم مع استتباب الأمر للمسلمين الرجوع إلى دين آبائهم، كما عاد الفارون منهم من ظلم القوط إلى ديارهم، مما أدى إلى زيادة عددهم في الدولة الإسلامية عنه في إسبانيا القوطية.
ولفتت الدكتورة أبو زيد إلى أن السلطات الإسلامية في الأندلس حرصت على جباية الجزية من اليهود، وفرقت في ذلك بين الغني والمتوسط والفقير، وأعفت منها النساء والصبيان وأصحاب العاهات، كما أن الخلفاء لم يسعوا إلى دعوتهم للدخول إلى الإسلام حتى لا تتأثر الموارد التي ترد إلى الدولة من الجزية. وفي مقابل ذلك، أعطتهم الحرية في إدارة شؤونهم الداخلية، كما توسعت الدولة في تعيينهم في المناصب العليا، ولم يكونوا منعزلين في حياتهم عن المسلمين. وفي تلك الفترة، حسب الكتاب، لم يكن باستطاعة أحد أن يفرق بين اليهودي والمسلم، حيث قامت صداقات كان أشهرها صداقة الوزير أبو الفضل يوسف بن حسداي الهاروني مع كثير من المسلمين، ومنهم الأديب يحيي السرقسطي.
وفي الفصل الأول من الكتاب، ركزت الباحثة على أماكن استيطان اليهود، والتنظيمات الداخلية لجماعاتهم، وحياتهم الخاصة وشؤونهم الدينية، مشيرة إلى أن السلطات الإسلامية في الأندلس لم تفرض عليهم الإقامة في أماكن محددة، وقد عاشوا تقريباً في كل المدن والقرى الأندلسية، التي أنشأوا فيها أحياءهم باختيارهم، في وسط المدن أو في مناطق التلال والحصون. وفي قرطبة مثلاً، كانوا يعيشون في الشمال، حيث تركزوا بمجموعات كبيرة هناك، ولهم فيها باب معروف بـ«باب اليهود»، وهو واحد من بين خمسة أبواب كانت لها، واشتهر باسم «باب الهدى». وفي إشبيلية خالطوا مسلميها، وفي الشرق كانت غرناطة أهم مواطنهم، فضلاً عن مدينة أليسانة التي اشتهرت بسكانها من أثرياء اليهود، وكانت من أكثر الأحياء الخاصة بهم مناعة في الأندلس.
وكان لليهود في كل حي يسكنونه مؤسسات عامة، منها الكنيس والمدرسة التلمودية، ومقر المحكمة الربانية، والحمَّام، والجزارة التي توفر لهم اللحوم المطابقة للمواصفات التوراتية، ودائماً ما كانوا يبنون مقابرهم خارج الحي. وفي قرطبة مثلاً، كان يفصلها عن مقابر المسلمين طريق ضيق، كما كانت لهم مثلها في سرقسطة ومالقة.
لم يكن هناك إذن تمييز يذكر ضد اليهود إلا في الملبس بالمجتمعات الأندلسية، وكان هذا في أواخر عصر الخليفة أبي يوسف يعقوب المنصور (580هـ: 595هـ)، وقد تغير لونها من الكحلي إلى الأصفر. أما دون ذلك، فقد كانوا يشاركون جيرانهم من المسلمين في آبار مياههم، وتبادلوا البيع والشراء فيها مع بعضهم بعضاً، ويؤكد هذا ما ورد في فتاوى ابن رشيد الحفيد، من أن يهودياً باع منزلاً لمسلم مقابل أن يأخذ نصيبه في بئر مشتركة مع جار آخر، كما سمح لهم مسؤولو المساجد القريبة من منازلهم باستغلال آبارها في شؤونهم اليومية، مما يعني أنهم وجدوا بأعداد متناثرة بين أزقة ودروب المسلمين.
وخصصت الباحثة الفصل الثاني من الكتاب للحديث عن حياة اليهود الاقتصادية، وتناولت دورهم في الزراعة والصناعة والتجارة، وقد سعت لاستجلائها عبر رسم صورة للبيئة التي كانوا يعيشون فيها، والتي كانت غنية بالحدائق والبساتين، يغلب عليها المياه العذبة الجارية والأشجار المثمرة، ورغم ذلك كان اليهود الذين يعملون بالزراعة قليلين، بسبب الحروب التي كان يخوضها حكام الدولتين، وأدت لانعدام الأمن في كثير من الأحيان، مما أثر على الحقول التي كانت تستهدفها الجيوش في أثناء القتال، وتعرضها للدمار. ومن هنا، احتلت الزراعة مكانة متأخرة لدى اليهود بسبب قلة مردودها المادي.
وخلاف ذلك، امتهن اليهود حرفاً وصناعات مختلفة، ولم يمنعهم الوضع المتدني لبعضها من ممارستها، مثل صناعة القرب والدباغة وسروج الخيول، وصناعة الأحذية وإصلاح النعال، كما عملوا بالجزارة وخصاء الرقيق والأسرى من الصقالبة الذين كانوا يحملونهم من هناك لبيعهم في سائر البلاد، وعمل بعض من أبناء اليهود في نسخ الكتب وبيعها، فضلاً عن تصنيع الخمور بأنفسهم، لأن التلمود حرم عليهم تناول خمور غيرهم.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل عملوا في سك العملة، وصناعة الحرير، وصياغة الحلي، وتميزوا في ذلك عن جيرانهم من المسلمين.
أما أكثر المهن التي عمل بها اليهود فكانت التجارة، وقد شاركوا في الأسواق العامة، وباعوا كل شيء، بما فيها الخمور. وقد كان من الدلالين الذين يتجولون في الأحياء، ويدخلون البيوت ويبيعون بضاعتهم لنسائها، وقد تعرضوا لكثير من المشكلات نتيجة ذلك، وصل بعضها إلى ساحات القضاء. ولم يتوقف الأمر عند حدود تجولهم بتجارتهم في الأحياء والأزقة، بل كان لهم دور كبير في التجارة الخارجية، تعاظم في القرن السادس الهجري في المحيط الهندي، بعد ما تم إقصاؤهم من تجارة البحر المتوسط، وطرق تجارة الذهب التي كانت تأتي من غرب أفريقيا عبر خطوط في الصحراء، لكنهم مع ذلك عملوا في تصدير الحرير والنحاس والزئبق، واستوردوا الذهب والفخار والكتان المصري والقمح والعقاقير والأعشاب الطبية.
أما عن دور اليهود الثقافي فقد بحثته أبو زيد في فصل خاص، بعنوان «اليهود وحياتهم الثقافية»، مشيرة إلى أنهم انكبوا على دراسة اللغة العربية، واتخذوها لساناً لهم في أحاديثهم اليومية وكتاباتهم العلمية، ولم يستخدموا العبرية إلا في صلواتهم وكتاباتهم الدينية والشعرية، مما يعني أن ثقافتهم كانت تدور في ظل نظيرتها العربية، وليس أدل على ذلك من اهتمام موسى بن ميمون بها، وقد وضع بها مؤلفاته في الفلسفة والمنطق والفلك والطب والفتوى. أما يحيي الحريزي فقد ترجم، فضلاً عن كتابة الشعر بالعربية، كتب بن ميمون ومقامات الحريري إلى العبرية. وعندما أصبح في سن العشرين، بدأ جولة طويلة من الأندلس إلى الشرق، ذكر فيها زياراته للجاليات اليهودية في البلدان العربية، وتحدث عن أدبهم وثقافتهم في القرن الثالث عشر الميلادي.
وفي مجال الشعر والغناء والموسيقى، تأثر اليهود بغيرهم من العرب الأندلسيين، وصاحبوهم وتعلموا منهم، وساروا على نهجهم. وقد ألف موسى، شاعر العبرية، كتابه «المحاضرة والمذاكرة» بقصد أن يكون أداة تمكن الشعر العبري من الاستفادة من البلاغة والشعر العربيين.
وتعرضت الدكتورة زينب إلى الروايات التي قالت باضطهاد اليهود، وذلك في الفصل الرابع «اليهود وعلاقتهم بالدولة والمجتمع»، وقامت بإبراز علاقاتهم بالبلاط الحاكم، ودورهم في الثورات ضد الملوك. كما تناولت علاقاتهم بمحيطهم المجتمعي، سواء كانت بالسلب أو الإيجاب، لتشير في النهاية إلى أن سياسة المرابطين والموحدين تجاههم كانت مبنية على رد الفعل، وامتازت بالتسامح، ولم يكسر ذلك إلا تعاونهم مع أعداء الدولتين، سواء كان ذلك في الداخل أو الخارج.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»
TT

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة أو أن تُحسب دراسته، على الرغم من التفصيل والإسهاب في مادة البحث، أحدَ الإسهامات في حقل النسوية والجندر، قدر ما يكشف فيها عن الآليات الآيديولوجية العامة المتحكمة في العالمَين القديم والجديد على حد سواء، أو كما تابع المؤلف عبر أبحاثه السابقة خلال أطروحته النظرية «العالم... الحيز الدائري» الذي يشتمل على أعراف وتقاليد وحقائق متواصلة منذ عصور قديمة وحديثة مشتركة ومتداخلة، وتأتي في عداد اليقين؛ لكنها لا تعدو في النهاية أوهاماً متنقلة من حقبة إلى أخرى، وقابلة للنبذ والنقض والتجدد ضمن حَيِّزَيها التاريخي والاجتماعي، من مرحلة الصيد إلى مرحلة الرعي، ومنهما إلى العصرَين الزراعي والصناعي؛ من الكهف إلى البيت، ومن القبيلة إلى الدولة، ومن الوحشية إلى البربرية، ومنهما إلى المجهول وغبار التاريخ.

ويشترك الكتاب، الصادر حديثاً عن دار «الياسمين» بالقاهرة، مع أصداء ما تطرحه الدراسات الحديثة في بناء السلام وحقوق الإنسان والعلوم الإنسانية المتجاورة التي تنشد قطيعة معرفية مع ثقافة العصور الحداثية السابقة، وتنشئ تصوراتها الجديدة في المعرفة.

لم يكن اختيار الباحث فالح مهدي إحدى الظواهر الإنسانية، وهي «المرأة»، ورصد أدوارها في وادي الرافدين ومصر وأفريقيا في العالمَين القديم والجديد، سوى تعبير عن استكمال وتعزيز أطروحته النظرية لما يمكن أن يسمَى «التنافذ الحقوقي والسياسي والقانوني والسكاني بين العصور»، وتتبع المعطيات العامة في تأسس النظم العائلية الأبوية، والأُمّوية أو الذرية، وما ينجم عن فضائها التاريخي من قرارات حاكمة لها طابع تواصلي بين السابق واللاحق من طرائق الأحياز المكانية والزمانية والإنسانية.

إن هذه الآليات تعمل، في ما يدرسه الكتاب، بوصفها موجِّهاً في مسيرة بشرية نحو المجهول، ومبتغى الباحث هو الكشف عن هذا المجهول عبر ما سماه «بين غبار التاريخ وصورة الحاضر المتقدم».

كان الباحث فالح مهدي معنياً بالدرجة الأساسية، عبر تناول مسهب لـ«المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ، بأن يؤكد أن كل ما ابتكره العالم من قيم وأعراف هو من صنع هيمنة واستقطاب الآليات الآيديولوجية، وما يعنيه بشكل مباشر أن نفهم ونفسر طبيعةَ وتَشكُّلَ هذه الآيديولوجيا تاريخياً ودورها التحويلي في جميع الظواهر؛ لأنها تعيد باستمرار بناء الحيز الدائري (مفهوم الباحث كما قلت في المقدمة) ومركزة السلطة وربطها بالأرباب لتتخذ طابعاً عمودياً، ويغدو معها العالم القديم مشتركاً ومتوافقاً مع الجديد.

إن مهدي يحاول أن يستقرئ صور «غبار التاريخ» كما يراها في مرحلتَي الصيد والرعي القديمتين، ويحللها تبعاً لمسارها في العهد الحداثي الزراعي الذي أنتج النظم العائلية، وبدورها أسفرت عن استقرار الدول والإمبراطوريات والعالم الجديد.

يرصد الكتاب عبر تناول مسهب «المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ في ظل استقطاب آيديولوجيات زائفة أثرت عليها بأشكال شتى

ويخلص إلى أن العصر الزراعي هو جوهر الوجود الإنساني، وأن «كل المعطيات العظيمة التي رسمت مسيرة الإنسان، من دين وفلسفة وعلوم وآداب وثقافة، كانت من نتاج هذا العصر»، ولكن هذا الجوهر الوجودي نفسه قد تضافر مع المرحلة السابقة في عملية بناء النظم العائلية، وأدى إليها بواسطة البيئة وعوامل الجغرافيا، بمعنى أن ما اضطلع به الإنسان من سعي نحو ارتقائه في مرحلتَي الصيد والرعي، آتى أكله في مرحلة الزراعة اللاحقة، ومن ثم ما استُنْبِتَ في الحيز الزراعي نضج في الحيز الصناعي بمسار جديد نحو حيز آخر.

ومن الحتم أن تضطلع المعطيات العظيمة التي أشار إليها المؤلف؛ من دين وفلسفة وعلوم وآداب زراعية؛ أي التي أنتجها العالم الزراعي، بدورها الآخر نحو المجهول وتكشف عن غبارها التاريخي في العصرَين الصناعي والإلكتروني.

إن «غبار التاريخ» يبحث عن جلاء «الحيز الدائري» في تقفي البؤس الأنثوي عبر العصور، سواء أكان، في بداية القرن العشرين، عن طريق سلوك المرأة العادية المسنّة التي قالت إنه «لا أحد يندم على إعطاء وتزويج المرأة بكلب»، أم كان لدى الباحثة المتعلمة التي تصدر كتاباً باللغة الإنجليزية وتؤكد فيه على نحو علمي، كما تعتقد، أن ختان الإناث «تأكيد على هويتهن».

وفي السياق نفسه، تتراسل دلالياً العلوم والفلسفات والكهنوت والقوانين في قاسم عضوي مشترك واحد للنظر في الظواهر الإنسانية؛ لأنها من آليات إنتاج العصر الزراعي؛ إذ تغدو الفرويدية جزءاً من المركزية الأبوية، والديكارتية غير منفصلة عن إقصاء الجسد عن الفكر، كما في الكهنوت والأرسطية في مدار التسلط والطغيان... وهي الغبار والرماد اللذان ينجليان بوصفهما صوراً مشتركة بين نظام العبودية والاسترقاق القديم، وتجدده على نحو «تَسْلِيع الإنسان» في العالم الرأسمالي الحديث.

إن مسار البؤس التاريخي للمرأة هو نتيجة مترتبة، وفقاً لهذا التواصل، على ما دقّ من الرماد التاريخي بين الثقافة والطبيعة، والمكتسب والمتوارث... حتى كان ما تؤكده الفلسفة في سياق التواصل مع العصر الزراعي، وتنفيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا في كشف صورة الغبار في غمار نهاية العصر الصناعي.