حياة يهود الأندلس في عصري المرابطين والموحدين

تولوا المناصب العليا ولم يكونوا منعزلين داخل «غيتوات»

حياة يهود الأندلس في عصري المرابطين والموحدين
TT

حياة يهود الأندلس في عصري المرابطين والموحدين

حياة يهود الأندلس في عصري المرابطين والموحدين

من أجل الوصول إلى صورة قريبة من حياة اليهود في عصر المرابطين، سعت الباحثة الدكتورة زينب أبو زيد في كتابها «اليهود في الأندلس في عصري المرابطين والموحدين» لإزالة كثير من اللبس حول ما أشيع عن اضطهادهم من قبل بعض ملوك الدولتين، خصوصاً الموحدين الذين كان لهم النصيب الأكبر من الاتهامات. وذكرت أبو زيد أن باحثين يهود معاصرين اهتموا بتدوين ودراسة تاريخ أسلافهم، خصوصاً في عصرهم الذهبي في الأندلس، تحدثوا عن الاضطهاد المزعوم دون أن يذكروا أسبابه، وقد حفزها هذا للسعي لرسم صورة صحيحة عن أحوالهم، رغم قلة المصادر والمادة العلمية عنهم في تلك الفترة.
وأشارت أبو زيد إلى أنها اعتمدت في سبيل استجلاء أوضاع اليهود على مقابلة النصوص، واستخدام الاستنباط والقياس من أجل الوصول إلى أقرب صورة لحياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، والدور الذي كانوا يقومون به في كل هذه النواحي.
وتضمن الكتاب، الذي صدر حديثاً عن المجلس الأعلى للثقافة، تمهيداً ذكرت فيه أبو زيد أن تعاون اليهود كان من بين العوامل الكثيرة التي أدت لنجاح الفتح الإسلامي للأندلس، وأشارت إلى جماعة من يهود إسبانيا وفدوا إلى طنجة لمقابلة طارق بن زياد، وحرضوه على دخولها، ووعدوه بتقديم المساعدات كافة لتحقيق ذلك، وقد أصبح بإمكان المتنصرين منهم مع استتباب الأمر للمسلمين الرجوع إلى دين آبائهم، كما عاد الفارون منهم من ظلم القوط إلى ديارهم، مما أدى إلى زيادة عددهم في الدولة الإسلامية عنه في إسبانيا القوطية.
ولفتت الدكتورة أبو زيد إلى أن السلطات الإسلامية في الأندلس حرصت على جباية الجزية من اليهود، وفرقت في ذلك بين الغني والمتوسط والفقير، وأعفت منها النساء والصبيان وأصحاب العاهات، كما أن الخلفاء لم يسعوا إلى دعوتهم للدخول إلى الإسلام حتى لا تتأثر الموارد التي ترد إلى الدولة من الجزية. وفي مقابل ذلك، أعطتهم الحرية في إدارة شؤونهم الداخلية، كما توسعت الدولة في تعيينهم في المناصب العليا، ولم يكونوا منعزلين في حياتهم عن المسلمين. وفي تلك الفترة، حسب الكتاب، لم يكن باستطاعة أحد أن يفرق بين اليهودي والمسلم، حيث قامت صداقات كان أشهرها صداقة الوزير أبو الفضل يوسف بن حسداي الهاروني مع كثير من المسلمين، ومنهم الأديب يحيي السرقسطي.
وفي الفصل الأول من الكتاب، ركزت الباحثة على أماكن استيطان اليهود، والتنظيمات الداخلية لجماعاتهم، وحياتهم الخاصة وشؤونهم الدينية، مشيرة إلى أن السلطات الإسلامية في الأندلس لم تفرض عليهم الإقامة في أماكن محددة، وقد عاشوا تقريباً في كل المدن والقرى الأندلسية، التي أنشأوا فيها أحياءهم باختيارهم، في وسط المدن أو في مناطق التلال والحصون. وفي قرطبة مثلاً، كانوا يعيشون في الشمال، حيث تركزوا بمجموعات كبيرة هناك، ولهم فيها باب معروف بـ«باب اليهود»، وهو واحد من بين خمسة أبواب كانت لها، واشتهر باسم «باب الهدى». وفي إشبيلية خالطوا مسلميها، وفي الشرق كانت غرناطة أهم مواطنهم، فضلاً عن مدينة أليسانة التي اشتهرت بسكانها من أثرياء اليهود، وكانت من أكثر الأحياء الخاصة بهم مناعة في الأندلس.
وكان لليهود في كل حي يسكنونه مؤسسات عامة، منها الكنيس والمدرسة التلمودية، ومقر المحكمة الربانية، والحمَّام، والجزارة التي توفر لهم اللحوم المطابقة للمواصفات التوراتية، ودائماً ما كانوا يبنون مقابرهم خارج الحي. وفي قرطبة مثلاً، كان يفصلها عن مقابر المسلمين طريق ضيق، كما كانت لهم مثلها في سرقسطة ومالقة.
لم يكن هناك إذن تمييز يذكر ضد اليهود إلا في الملبس بالمجتمعات الأندلسية، وكان هذا في أواخر عصر الخليفة أبي يوسف يعقوب المنصور (580هـ: 595هـ)، وقد تغير لونها من الكحلي إلى الأصفر. أما دون ذلك، فقد كانوا يشاركون جيرانهم من المسلمين في آبار مياههم، وتبادلوا البيع والشراء فيها مع بعضهم بعضاً، ويؤكد هذا ما ورد في فتاوى ابن رشيد الحفيد، من أن يهودياً باع منزلاً لمسلم مقابل أن يأخذ نصيبه في بئر مشتركة مع جار آخر، كما سمح لهم مسؤولو المساجد القريبة من منازلهم باستغلال آبارها في شؤونهم اليومية، مما يعني أنهم وجدوا بأعداد متناثرة بين أزقة ودروب المسلمين.
وخصصت الباحثة الفصل الثاني من الكتاب للحديث عن حياة اليهود الاقتصادية، وتناولت دورهم في الزراعة والصناعة والتجارة، وقد سعت لاستجلائها عبر رسم صورة للبيئة التي كانوا يعيشون فيها، والتي كانت غنية بالحدائق والبساتين، يغلب عليها المياه العذبة الجارية والأشجار المثمرة، ورغم ذلك كان اليهود الذين يعملون بالزراعة قليلين، بسبب الحروب التي كان يخوضها حكام الدولتين، وأدت لانعدام الأمن في كثير من الأحيان، مما أثر على الحقول التي كانت تستهدفها الجيوش في أثناء القتال، وتعرضها للدمار. ومن هنا، احتلت الزراعة مكانة متأخرة لدى اليهود بسبب قلة مردودها المادي.
وخلاف ذلك، امتهن اليهود حرفاً وصناعات مختلفة، ولم يمنعهم الوضع المتدني لبعضها من ممارستها، مثل صناعة القرب والدباغة وسروج الخيول، وصناعة الأحذية وإصلاح النعال، كما عملوا بالجزارة وخصاء الرقيق والأسرى من الصقالبة الذين كانوا يحملونهم من هناك لبيعهم في سائر البلاد، وعمل بعض من أبناء اليهود في نسخ الكتب وبيعها، فضلاً عن تصنيع الخمور بأنفسهم، لأن التلمود حرم عليهم تناول خمور غيرهم.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل عملوا في سك العملة، وصناعة الحرير، وصياغة الحلي، وتميزوا في ذلك عن جيرانهم من المسلمين.
أما أكثر المهن التي عمل بها اليهود فكانت التجارة، وقد شاركوا في الأسواق العامة، وباعوا كل شيء، بما فيها الخمور. وقد كان من الدلالين الذين يتجولون في الأحياء، ويدخلون البيوت ويبيعون بضاعتهم لنسائها، وقد تعرضوا لكثير من المشكلات نتيجة ذلك، وصل بعضها إلى ساحات القضاء. ولم يتوقف الأمر عند حدود تجولهم بتجارتهم في الأحياء والأزقة، بل كان لهم دور كبير في التجارة الخارجية، تعاظم في القرن السادس الهجري في المحيط الهندي، بعد ما تم إقصاؤهم من تجارة البحر المتوسط، وطرق تجارة الذهب التي كانت تأتي من غرب أفريقيا عبر خطوط في الصحراء، لكنهم مع ذلك عملوا في تصدير الحرير والنحاس والزئبق، واستوردوا الذهب والفخار والكتان المصري والقمح والعقاقير والأعشاب الطبية.
أما عن دور اليهود الثقافي فقد بحثته أبو زيد في فصل خاص، بعنوان «اليهود وحياتهم الثقافية»، مشيرة إلى أنهم انكبوا على دراسة اللغة العربية، واتخذوها لساناً لهم في أحاديثهم اليومية وكتاباتهم العلمية، ولم يستخدموا العبرية إلا في صلواتهم وكتاباتهم الدينية والشعرية، مما يعني أن ثقافتهم كانت تدور في ظل نظيرتها العربية، وليس أدل على ذلك من اهتمام موسى بن ميمون بها، وقد وضع بها مؤلفاته في الفلسفة والمنطق والفلك والطب والفتوى. أما يحيي الحريزي فقد ترجم، فضلاً عن كتابة الشعر بالعربية، كتب بن ميمون ومقامات الحريري إلى العبرية. وعندما أصبح في سن العشرين، بدأ جولة طويلة من الأندلس إلى الشرق، ذكر فيها زياراته للجاليات اليهودية في البلدان العربية، وتحدث عن أدبهم وثقافتهم في القرن الثالث عشر الميلادي.
وفي مجال الشعر والغناء والموسيقى، تأثر اليهود بغيرهم من العرب الأندلسيين، وصاحبوهم وتعلموا منهم، وساروا على نهجهم. وقد ألف موسى، شاعر العبرية، كتابه «المحاضرة والمذاكرة» بقصد أن يكون أداة تمكن الشعر العبري من الاستفادة من البلاغة والشعر العربيين.
وتعرضت الدكتورة زينب إلى الروايات التي قالت باضطهاد اليهود، وذلك في الفصل الرابع «اليهود وعلاقتهم بالدولة والمجتمع»، وقامت بإبراز علاقاتهم بالبلاط الحاكم، ودورهم في الثورات ضد الملوك. كما تناولت علاقاتهم بمحيطهم المجتمعي، سواء كانت بالسلب أو الإيجاب، لتشير في النهاية إلى أن سياسة المرابطين والموحدين تجاههم كانت مبنية على رد الفعل، وامتازت بالتسامح، ولم يكسر ذلك إلا تعاونهم مع أعداء الدولتين، سواء كان ذلك في الداخل أو الخارج.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.