تابعنا في الأسبوع الماضي ظهور «ماكسيمليان روبسبيير» ديكتاتور الثورة الفرنسية وأكثر قادتها دموية والذي قاد مجموعة سياسية تسمى بـ«اليعاقبة» للسيطرة على الجمعية الوطنية (البرلمان) بعدما تم التخلص من الملكية، وتابعنا كيف شهدت الجمعية حركة تمرد عليه أدت إرساله للمقصلة أسوة بقرابة 20 ألف ضحية من ضحاياه في أقل من سنة والتي مثلت مدة حكمه فيما عرف في الثورة الفرنسية «بعهد الإرهاب»، وعادت السلطة مرة أخرى إلى الفرق المعتدلة في الجمعية الوطنية وأصبح على فرنسا أن تجد نظاما جديدا تتعامل به لتسيطر على الأوضاع المتردية في البلاد، فالعنف لم يولد إلا مزيدا من العنف، والبلاد أصبحت تواقة للهدوء والسياسات العاقلة بعدما تم استبدال النظام السياسي بنظام جديد، واستبدال الدستور بدستور جديد في العام الثالث للثورة، ثم جاءت محاولة استبدال الديانة الكاثوليكية بديانة تقدس العقل في رد فعل عكسي لكل ما كان مرتبط بالكنيسة والنظام السابق، ناهيك بتغيير التقويم ليبدأ بتاريخ الثورة الفرنسية فتصبح السنة مقسمة إلى اثني عشر شهرا من 30 يوما تنتهي بخمسة أيام من الاحتفالات، وذلك على نفس غرار السنة الفرعونية القديمة.
وقد أرادت الجمعية الوطنية تهدئة الأوضاع في البلاد فاستقر الأمر على إلغاء ما عرف بقانون الاشتباه والذي بمقتضاه كان يتم القبض على المواطنين وإعدامهم أو تعذيبهم تحت حجة حماية الثورة، وقد أسندت الجمعية السلطة التنفيذية لمجموعة من الحكماء عرفت باسم حكومة «المدراء Directoire» مكونة من خمس شخصيات عامة كان منهم أحد أذكى الشخصيات السياسية والدبلوماسية وهو «تاليراند»، وسرعان ما تم تصفية الجمعية الوطنية والتي لم تكن منتخبة لإدارة البلاد وإنما جاءت لتمثيل العامة في البرلمان قبيل الثورة مباشرة، فتم استبدالها ببرلمان مكون من مجلسين الأول «مجلس الحكماء» والثاني «مجلس الخمسمائة»، وهكذا ظن الساسة والشعب أن الأمور بدأت تستقر بشكل كبير، ولكن هذا لم يحدث.
حقيقة الأمر أن «حكومة المدراء» كانت أضعف من أن تستطيع السيطرة على البلاد، فالشعب كان في حالة ثورة ممتدة، الناس في حالة رفض للالتزام، والقوانين غير مطبقة وقطع الطرق والسرقات والقتل كان منتشرا في كل مكان، ناهيك ببداية ظهور حالة من الثورة في الغرب الفرنسي لرفض الناس اقتلاع ديانتهم حيث قاد رجال الدين الثورة بالاتفاق مع الشعب فيما معرف بثورة «الفانديي Vandee»، وقد ساءت الأمور أيضا بسبب قيام النمسا وبروسيا وإنجلترا بالدخول في حرب شعواء ضد النظام الثوري الفرنسي بعدما أعلنت القيادة الفرنسية أنها ستصدر الثورة ومفاهيمها إلى القارة الأوروبية ككل، ولسوء حظ الحكومة الفرنسية فإن جيوشها لاقت الهزيمة تلو الأخرى وهو ما تغير بعدما تولى نابليون بونابرت قيادة جيوشها في إيطاليا وحقق بعض النصر وتلا ذلك بعض الانتصارات الأخرى في بلجيكا وعلى الحدود الألمانية، وعند هذا الحد بدأ الجميع يدرك أن النظام السياسي الجديد غير فعال وغير قادر على احتواء المشكلات وتقديم الخبز للمواطن الفرنسي.
في ظل هذه الظروف الفرنسية الصعبة، بدأت قيادة فرنسية جديدة تلوح في الأفق وتستغل كل إخفاقات حكومة المدراء الضعيفة، كانت هذه شخصية تميزت بثلاث صفات أساسية كفلت لها النجاح، فلقد كانت عبقرية عسكرية بكل ما تعنيه الكلمة ولها باع كبير بين الشعب الفرنسي، كما أنها كانت عقلية إدارية فذة وذات رؤية ثاقبة، وإن جاز لنا أن نضيف فإن الحظ كان في كثير من الأوقات حليفها، إنها شخصية نابليون بونابرت، هذا الفتى الكورسيكي الذي تعلم الفرنسية في طفولته بعدما انضمت جزيرته لتصبح جزءا من فرنسا، فدخل الكلية العسكرية ثم سرعان ما تخصص في المدفعية وانخرط في الجيش في الوقت الذي بدأت فرنسا تعج بالثورة فأتاحت له هذه المتغيرات فرص التقدم في العسكرية، خصوصا بعدما أثبت نفسه بجدارة خاصة أثناء حصار مدينة «تولون» الساحلية، فحمى المدينة ببطولة خارقة بفضل تحريك مدفعيته ضد هجوم عناصر الثورة المضادة بالتعاون مع الإنجليز، ولكن الذي لفت الانتباه له كان عندما تعرضت الجمعية الوطنية لمحاولة اعتداء من قبل العامة، فأمر نابليون باستخدام مدفعيته وحمى البرلمان ولكن بعد مقتل ما يقرب من ثمانمائة مواطن فرنسي، وعند هذا الحد بدأت الأعين الثورية تنظر له على اعتباره بطلا عسكريا يمكن الاعتماد عليه، وهو ما فتح له المجال ليتم تعيينه على قيادة الجيوش الفرنسية في إيطاليا لمحاربة النمساويين خلال عامي 1796 و1797، وقد أبهر الرجل الجميع بانتصاراته العسكرية هناك، فأصبح حديث كل فرنسا وسط حالتها المتردية، فالنصر العسكري رفع الروح المعنوية للشعب الفرنسي والذي أصبح تواقا لمزيد من الانتصارات من هذا الفتى العبقري، ولعل نشاطه البارز كان سببا في إرساله على رأس حملة إلى مصر والشام لضرب خطوط الاتصالات بين إنجلترا ومستعمراتها في الهند وإقامة دولة فرنسية قاعدتها مصر، ولكنها حملة سرعان ما باءت بالفشل وعاد نابليون هاربا ولكنه استطاع أن يقنع العامة ببطولته العسكرية وتحويل الهزيمة إلى نصر، وعند هذا الحد بدأت الأمور في باريس تضطرب وأصبحت حكومة المدراء في حالة تذبذب وشبه انهيار.
حقيقة الأمر أن كتب التاريخ سجلت مؤامرة ضد هذه الحكومة والتي بدأت تحاك للقضاء عليها لضعفها وعدم قدرتها على المضي قدما في وقف الفوضى، وعلى رأسها مؤامرة ربطت بين نابليون من ناحية وعدد من أعضاء مجلسي الحكماء والخمسمائة، وبالتعاون مع بعض الشخصيات المهمة، وهو ما أسفر عن القضاء على حكومة المدراء وتعيين ثلاثة قناصل بدلا منهم على رأسهم نابليون واثنين آخرين رغم بعض المعارضة في المجالس النيابية، والملاحظ أن هذه الخطوة وإن كان لها من يعاديها في البرلمان والساحة السياسة إلا أنها لاقت رضاء عاما من الشعب والذي ضاق ذرعا من ضعف الحكومة وحالة الفوضى والثورة الممتدة في البلاد، بل إن هذه الخطوة نزلت بردا وسلاما عليه.
ولم يكن نابليون ليفوت الفرصة بفراسته السياسية وحكمته الإدارية، فسرعان ما وضع دستورا جديدا أقره الشعب في 1799 بعيدا عن المهاترات السياسية، وأقر إقامة برلمان من مجلسين، وسرعان ما تم تعيينه «القنصل الأول»، ولكن التخلص من القنصلين الآخرين كان مسألة وقت لا غير، فلقد بدأ الرجل على الفور يشد من أزر قوته السياسية من خلال الأعمال الإصلاحية الناجحة، فلقد قضى تماما على حالة الفوضى وقطع الطرق والإرهاب، ثم بدأ عملية مصالحة واسعة النطاق أعادت كل طوائف المجتمع المهمشة بسبب الثورة وعلى رأسهم طبقة النبلاء، واتخذ خطوات عملية من أجل تثبيت الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وفي حركة عسكرية جريئة غادر نابليون باريس على رأس جيش استطاع في عجالة أن يهزم النمساويين في معركة «مارنجو» الشهيرة والتي كفلت له السلام بإخراج النمسا من التحالف الدولي وتبعتها روسيا، وهو ما أجبر إنجلترا على التوقيع على صلح «إميان» الشهير والذي بمقتضاه ذاقت فرنسا طعم السلام بعد سنوات طويلة من الحروب التي استنزفت مواردها وطاقاتها وشبابها.
وعلى الفور بدأ نابليون يصلح ما أفسدته الثورة، فعلى الرغم من أنه احتفظ بمفاهيم الثورة الأساسية وعلم الثورة وغيرها من الأمور، إلا أنه كان أكثر حكمة من أن يسمح باستمرار التطرف الثوري، فسرعان ما رأب الصدع بين الدولة الفرنسية والكنيسة الكاثوليكية من خلال اتفاقية «الكونكوردات Concordat» التي وقعها مع البابا والتي بمقتضاها أعاد حق العبادة للكاثوليك معترفا بأن الكاثوليكية هي ديانة الأغلبية، ثم أعقب ذلك خطوات واضحة من أجل تنظيم البلاد إداريا وبناء الطرق والكباري وشق القنوات وإنشاء بنك مركزي وتنظيم النظام الضريبي بعدما أعاد السلام الاجتماعي والسياسي لفرنسا.
هكذا منح نابليون للشعب الفرنسي كل ما كان يتمناه بعد سنوات طويلة من العناء والثورة والدم والتغيير والتخبط الفكري والتطبيقي، فلقد منح الرجل فرنسا الاستقرار على أسس سياسية وقانونية معروفة بل وراقت للشعب، وهي الأمور التي دفعت الأغلبية لمنحه لقب «قنصل مدى الحياة» ثم بعد ذلك منحه لقب إمبراطور في احتفال مهيب شهدته كل أوروبا، وبذلك أصبح نابليون بونابرت القابض على أمور فرنسا منذ ذلك التاريخ.
وهكذا اعتنق الشعب الفرنسي فكر «روسو» فاعتنق الثورية وتخلص من الملك، ثم فشلت قياداته المتعاقبة في تطبيق مبادئ الثورة التي نادت بها من الأساس، ثم جاءت الثورة المضادة، ثم الثورة العكسية والفوضى، فلم تسترح فرنسا إلا بعدما اتفقت على شخصية نابليون بونابرت قائدا للبلاد، ولكن حديث الثورة الفرنسية لم ينته بعد.
من التاريخ: فرنسا من الثورة إلى أحضان نابليون
من التاريخ: فرنسا من الثورة إلى أحضان نابليون
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة