من التاريخ: فرنسا من الثورة إلى أحضان نابليون

من التاريخ: فرنسا من الثورة إلى أحضان نابليون
TT

من التاريخ: فرنسا من الثورة إلى أحضان نابليون

من التاريخ: فرنسا من الثورة إلى أحضان نابليون

تابعنا في الأسبوع الماضي ظهور «ماكسيمليان روبسبيير» ديكتاتور الثورة الفرنسية وأكثر قادتها دموية والذي قاد مجموعة سياسية تسمى بـ«اليعاقبة» للسيطرة على الجمعية الوطنية (البرلمان) بعدما تم التخلص من الملكية، وتابعنا كيف شهدت الجمعية حركة تمرد عليه أدت إرساله للمقصلة أسوة بقرابة 20 ألف ضحية من ضحاياه في أقل من سنة والتي مثلت مدة حكمه فيما عرف في الثورة الفرنسية «بعهد الإرهاب»، وعادت السلطة مرة أخرى إلى الفرق المعتدلة في الجمعية الوطنية وأصبح على فرنسا أن تجد نظاما جديدا تتعامل به لتسيطر على الأوضاع المتردية في البلاد، فالعنف لم يولد إلا مزيدا من العنف، والبلاد أصبحت تواقة للهدوء والسياسات العاقلة بعدما تم استبدال النظام السياسي بنظام جديد، واستبدال الدستور بدستور جديد في العام الثالث للثورة، ثم جاءت محاولة استبدال الديانة الكاثوليكية بديانة تقدس العقل في رد فعل عكسي لكل ما كان مرتبط بالكنيسة والنظام السابق، ناهيك بتغيير التقويم ليبدأ بتاريخ الثورة الفرنسية فتصبح السنة مقسمة إلى اثني عشر شهرا من 30 يوما تنتهي بخمسة أيام من الاحتفالات، وذلك على نفس غرار السنة الفرعونية القديمة.
وقد أرادت الجمعية الوطنية تهدئة الأوضاع في البلاد فاستقر الأمر على إلغاء ما عرف بقانون الاشتباه والذي بمقتضاه كان يتم القبض على المواطنين وإعدامهم أو تعذيبهم تحت حجة حماية الثورة، وقد أسندت الجمعية السلطة التنفيذية لمجموعة من الحكماء عرفت باسم حكومة «المدراء Directoire» مكونة من خمس شخصيات عامة كان منهم أحد أذكى الشخصيات السياسية والدبلوماسية وهو «تاليراند»، وسرعان ما تم تصفية الجمعية الوطنية والتي لم تكن منتخبة لإدارة البلاد وإنما جاءت لتمثيل العامة في البرلمان قبيل الثورة مباشرة، فتم استبدالها ببرلمان مكون من مجلسين الأول «مجلس الحكماء» والثاني «مجلس الخمسمائة»، وهكذا ظن الساسة والشعب أن الأمور بدأت تستقر بشكل كبير، ولكن هذا لم يحدث.
حقيقة الأمر أن «حكومة المدراء» كانت أضعف من أن تستطيع السيطرة على البلاد، فالشعب كان في حالة ثورة ممتدة، الناس في حالة رفض للالتزام، والقوانين غير مطبقة وقطع الطرق والسرقات والقتل كان منتشرا في كل مكان، ناهيك ببداية ظهور حالة من الثورة في الغرب الفرنسي لرفض الناس اقتلاع ديانتهم حيث قاد رجال الدين الثورة بالاتفاق مع الشعب فيما معرف بثورة «الفانديي Vandee»، وقد ساءت الأمور أيضا بسبب قيام النمسا وبروسيا وإنجلترا بالدخول في حرب شعواء ضد النظام الثوري الفرنسي بعدما أعلنت القيادة الفرنسية أنها ستصدر الثورة ومفاهيمها إلى القارة الأوروبية ككل، ولسوء حظ الحكومة الفرنسية فإن جيوشها لاقت الهزيمة تلو الأخرى وهو ما تغير بعدما تولى نابليون بونابرت قيادة جيوشها في إيطاليا وحقق بعض النصر وتلا ذلك بعض الانتصارات الأخرى في بلجيكا وعلى الحدود الألمانية، وعند هذا الحد بدأ الجميع يدرك أن النظام السياسي الجديد غير فعال وغير قادر على احتواء المشكلات وتقديم الخبز للمواطن الفرنسي.
في ظل هذه الظروف الفرنسية الصعبة، بدأت قيادة فرنسية جديدة تلوح في الأفق وتستغل كل إخفاقات حكومة المدراء الضعيفة، كانت هذه شخصية تميزت بثلاث صفات أساسية كفلت لها النجاح، فلقد كانت عبقرية عسكرية بكل ما تعنيه الكلمة ولها باع كبير بين الشعب الفرنسي، كما أنها كانت عقلية إدارية فذة وذات رؤية ثاقبة، وإن جاز لنا أن نضيف فإن الحظ كان في كثير من الأوقات حليفها، إنها شخصية نابليون بونابرت، هذا الفتى الكورسيكي الذي تعلم الفرنسية في طفولته بعدما انضمت جزيرته لتصبح جزءا من فرنسا، فدخل الكلية العسكرية ثم سرعان ما تخصص في المدفعية وانخرط في الجيش في الوقت الذي بدأت فرنسا تعج بالثورة فأتاحت له هذه المتغيرات فرص التقدم في العسكرية، خصوصا بعدما أثبت نفسه بجدارة خاصة أثناء حصار مدينة «تولون» الساحلية، فحمى المدينة ببطولة خارقة بفضل تحريك مدفعيته ضد هجوم عناصر الثورة المضادة بالتعاون مع الإنجليز، ولكن الذي لفت الانتباه له كان عندما تعرضت الجمعية الوطنية لمحاولة اعتداء من قبل العامة، فأمر نابليون باستخدام مدفعيته وحمى البرلمان ولكن بعد مقتل ما يقرب من ثمانمائة مواطن فرنسي، وعند هذا الحد بدأت الأعين الثورية تنظر له على اعتباره بطلا عسكريا يمكن الاعتماد عليه، وهو ما فتح له المجال ليتم تعيينه على قيادة الجيوش الفرنسية في إيطاليا لمحاربة النمساويين خلال عامي 1796 و1797، وقد أبهر الرجل الجميع بانتصاراته العسكرية هناك، فأصبح حديث كل فرنسا وسط حالتها المتردية، فالنصر العسكري رفع الروح المعنوية للشعب الفرنسي والذي أصبح تواقا لمزيد من الانتصارات من هذا الفتى العبقري، ولعل نشاطه البارز كان سببا في إرساله على رأس حملة إلى مصر والشام لضرب خطوط الاتصالات بين إنجلترا ومستعمراتها في الهند وإقامة دولة فرنسية قاعدتها مصر، ولكنها حملة سرعان ما باءت بالفشل وعاد نابليون هاربا ولكنه استطاع أن يقنع العامة ببطولته العسكرية وتحويل الهزيمة إلى نصر، وعند هذا الحد بدأت الأمور في باريس تضطرب وأصبحت حكومة المدراء في حالة تذبذب وشبه انهيار.
حقيقة الأمر أن كتب التاريخ سجلت مؤامرة ضد هذه الحكومة والتي بدأت تحاك للقضاء عليها لضعفها وعدم قدرتها على المضي قدما في وقف الفوضى، وعلى رأسها مؤامرة ربطت بين نابليون من ناحية وعدد من أعضاء مجلسي الحكماء والخمسمائة، وبالتعاون مع بعض الشخصيات المهمة، وهو ما أسفر عن القضاء على حكومة المدراء وتعيين ثلاثة قناصل بدلا منهم على رأسهم نابليون واثنين آخرين رغم بعض المعارضة في المجالس النيابية، والملاحظ أن هذه الخطوة وإن كان لها من يعاديها في البرلمان والساحة السياسة إلا أنها لاقت رضاء عاما من الشعب والذي ضاق ذرعا من ضعف الحكومة وحالة الفوضى والثورة الممتدة في البلاد، بل إن هذه الخطوة نزلت بردا وسلاما عليه.
ولم يكن نابليون ليفوت الفرصة بفراسته السياسية وحكمته الإدارية، فسرعان ما وضع دستورا جديدا أقره الشعب في 1799 بعيدا عن المهاترات السياسية، وأقر إقامة برلمان من مجلسين، وسرعان ما تم تعيينه «القنصل الأول»، ولكن التخلص من القنصلين الآخرين كان مسألة وقت لا غير، فلقد بدأ الرجل على الفور يشد من أزر قوته السياسية من خلال الأعمال الإصلاحية الناجحة، فلقد قضى تماما على حالة الفوضى وقطع الطرق والإرهاب، ثم بدأ عملية مصالحة واسعة النطاق أعادت كل طوائف المجتمع المهمشة بسبب الثورة وعلى رأسهم طبقة النبلاء، واتخذ خطوات عملية من أجل تثبيت الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وفي حركة عسكرية جريئة غادر نابليون باريس على رأس جيش استطاع في عجالة أن يهزم النمساويين في معركة «مارنجو» الشهيرة والتي كفلت له السلام بإخراج النمسا من التحالف الدولي وتبعتها روسيا، وهو ما أجبر إنجلترا على التوقيع على صلح «إميان» الشهير والذي بمقتضاه ذاقت فرنسا طعم السلام بعد سنوات طويلة من الحروب التي استنزفت مواردها وطاقاتها وشبابها.
وعلى الفور بدأ نابليون يصلح ما أفسدته الثورة، فعلى الرغم من أنه احتفظ بمفاهيم الثورة الأساسية وعلم الثورة وغيرها من الأمور، إلا أنه كان أكثر حكمة من أن يسمح باستمرار التطرف الثوري، فسرعان ما رأب الصدع بين الدولة الفرنسية والكنيسة الكاثوليكية من خلال اتفاقية «الكونكوردات Concordat» التي وقعها مع البابا والتي بمقتضاها أعاد حق العبادة للكاثوليك معترفا بأن الكاثوليكية هي ديانة الأغلبية، ثم أعقب ذلك خطوات واضحة من أجل تنظيم البلاد إداريا وبناء الطرق والكباري وشق القنوات وإنشاء بنك مركزي وتنظيم النظام الضريبي بعدما أعاد السلام الاجتماعي والسياسي لفرنسا.
هكذا منح نابليون للشعب الفرنسي كل ما كان يتمناه بعد سنوات طويلة من العناء والثورة والدم والتغيير والتخبط الفكري والتطبيقي، فلقد منح الرجل فرنسا الاستقرار على أسس سياسية وقانونية معروفة بل وراقت للشعب، وهي الأمور التي دفعت الأغلبية لمنحه لقب «قنصل مدى الحياة» ثم بعد ذلك منحه لقب إمبراطور في احتفال مهيب شهدته كل أوروبا، وبذلك أصبح نابليون بونابرت القابض على أمور فرنسا منذ ذلك التاريخ.
وهكذا اعتنق الشعب الفرنسي فكر «روسو» فاعتنق الثورية وتخلص من الملك، ثم فشلت قياداته المتعاقبة في تطبيق مبادئ الثورة التي نادت بها من الأساس، ثم جاءت الثورة المضادة، ثم الثورة العكسية والفوضى، فلم تسترح فرنسا إلا بعدما اتفقت على شخصية نابليون بونابرت قائدا للبلاد، ولكن حديث الثورة الفرنسية لم ينته بعد.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.