نظرة إلى التطرف والإرهاب في منطقة الصحراء والساحل

وسط تداخل المصالح الدولية واستغلال الدين مع الصراعات الإثنية المحلية

سيارات مدمرة بفعل هجوم نفذته «بوكو حرام» في ميديغوري شمال شرق نيجيريا سبتمبر الماضي (أ.ف.ب)
سيارات مدمرة بفعل هجوم نفذته «بوكو حرام» في ميديغوري شمال شرق نيجيريا سبتمبر الماضي (أ.ف.ب)
TT

نظرة إلى التطرف والإرهاب في منطقة الصحراء والساحل

سيارات مدمرة بفعل هجوم نفذته «بوكو حرام» في ميديغوري شمال شرق نيجيريا سبتمبر الماضي (أ.ف.ب)
سيارات مدمرة بفعل هجوم نفذته «بوكو حرام» في ميديغوري شمال شرق نيجيريا سبتمبر الماضي (أ.ف.ب)

تعيش منطقة الساحل والصحراء وسط اضطرابات أمنية متزايدة؛ في الوقت الذي يؤكد كثير من الدراسات وتحليلات مراكز الأبحاث، أن حالة عدم الاستقرار الأمني بهذه المنطقة مرشحة لمزيد من التصعيد، لأسباب إثنية وسياسية وجغرافية مجالية. ويبدو أن تزايد خطر التنظيمات الإرهابية هو ما دفع القوى الدولية والإقليمية المهتمة بمكافحة الإرهاب إلى بذل مزيد من الجهود بالساحل الأفريقي بقصد الحد من التهديد الذي تمثله التنظيمات المتطرفة المتعددة المستوطنة بالساحل والصحراء.
عززت الولايات المتحدة الأميركية من وجودها العسكري في منطقة الصحراء الكبرى والساحل، بشمال غربي أفريقيا، وهي حالياً تقوم ببناء أكبر قاعدة عسكرية في تاريخها بالنيجر بحلول 2024. وفي الواقع، فإن واشنطن تبني قاعدتين لطائرات من دون طيار، ستستعملها القوات الأميركية في إدارة جميع المهام الجوية التي تندرج تحت إطار مكافحة «الإرهاب» بالساحل. وقد اختارت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، بناء القاعدة الأولى في الشمال الغربي للنيجر؛ بينما تتمركز الأخرى، في الشمال الشرقي للبلاد. ويتوزع الإشراف على القاعدتين بين البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية (سي آي آيه).
غير أن القاعدتين لهما هدف واحد، يتمثل في مواجهة الإرهابيين بدول الساحل، وغرب أفريقيا. وينظر الأميركيون بعيون استراتيجية لقاعدتهم بضواحي مدينة أغاديز، القريبة من أحد مفترقات الطرق الرئيسية في الصحراء، وتسمى هذه القاعدة «إيه بي 201». وتعتبر واشنطن أن موقع القاعدة العسكرية، يمكنها من الوصول إلى غرب أفريقيا ودول الساحل؛ ولذلك تعمل إدارة ترمب على جعلها أكبر قواعد القوات الجوية الأميركية في التاريخ المعاصر؛ ويتمركز فيها بشكل دائم 650 جندياً من القوات الخاصة، من أصل 800 موجودين بالنيجر.
وكانت واشنطن، قد حددت تمويلها الأول في حدود 50 مليون دولار؛ غير أنه اتضح أن عملية البناء تتطلب أموالاً طائلة، وقال الخبراء إن تكلفة التشييد ستفوق 280 مليون دولار بحلول سنة 2024، إضافة إلى أجور العاملين في القاعدة.
من جانب آخر، كشفت صحيفة «نيويورك تايمز»، عن أن «سي آي آيه» بنت قاعدتها العسكرية الخاصة في منطقة ديركو القريبة من الحدود الليبية والتشادية، منذ شهر يناير (كانون الثاني) 2017. ويعتقد أن هذه القاعدة مخصصة للرصد وتحديد مواقع الجماعات الإرهابية، وتعقب حركتها في الصحراء الكبرى. ويبدو كذلك أن وجود نوع من هذه القوات بالمنطقة لا ينفصل عن السياسة الجديدة لإدارة الرئيس الحالي ترمب في مواجهة الإرهاب في غرب أفريقيا والساحل والصحراء.
ذلك أنه يوجد حالياً ما يقرب من 7500 من العسكريين الأميركيين بأفريقيا؛ بما في ذلك 1000 فرد متعهد بالعمل مع الجيش الأميركي، منتشرين في أفريقيا، علماً بأن سنة 2017 كان فيها عدد القوات الأميركية لا يتعدى 6000 جندي فقط.
بالنسبة لقاعدة أغاديز، فإنها ستستضيف طائرات MQ - 9 Reaper من دون طيار، التي سينطلق نشاطها عام 2019. ورغم أن القاعدة تعرف نشاطاً كبيراً، حيث استعملت منذ مارس (آذار) 2018 لمهاجمة مدينة أوباري الليبية؛ فإن دخول هذا النوع من الطائرات للعمل من شأنه أن يشكل منعطفاً في المواجهة مع التنظيمات الإرهابية لما لطائرات MQ - 9 Reaper من خصائص، منها قدرتها على قطع مسافة 1150 ميلاً، في طريقها لجمع المعلومات الاستخباراتية.
وحسب أحدث تقرير حول الموضوع منشور من طرف «مؤسسة الثقافة الاستراتيجية»؛ فإن الطائرة يمكن أن تحمل قنابل GB - 12 Paveway II. وتتميز بأن لها الرادار ذا الفتحة التركيبية لدمج ذخائر الهجوم المباشر المشترك GBU - 38. كما يمكنها استعمال أربعة صواريخ مضادة للأفراد من طراز هيلفاير. وبحسب «مؤسسة الثقافة الاستراتيجية» في دراسة أخيرة لها نشرت بموقعها على الإنترنيت يوم 31 أغسطس (آب) 2018؛ فإن السياسة الأميركية الجديدة لمحاربة الإرهاب بالساحل والصحراء، تديرها القيادة الأميركية الأفريقية (AFRICOM). وتعتمد برامج مراقبة من دون طيار، وشن غارات عبر الحدود، وجمع معلومات استخباراتية. من جهة أخرى، أعلنت «أفريكوم» مسؤوليتها عن التنمية والصحة العامة والتدريب المهني، والأمني والمهام الإنسانية الأخرى بالمنطقة.
ويشارك مسؤولون عدة من وزارات الخارجية، والأمن الوطني، والزراعة، والطاقة، والتجارة، والعدل، ومن بين وكالات أخرى، في أنشطة «أفريكوم» بالمنطقة. وهذا ما يفسر حسب «مؤسسة الثقافة الاستراتيجية» كون عدد الملحقين العسكريين الأميركيين الموجودين بسفاراتهم بأفريقيا، يتفوق على عدد الدبلوماسيين في الكثير من الدول الأفريقية.

- «بوكو حرام» في قلب المشهد
في هذا السياق، نشرت الباحثة كاثرين دوكرم دراسة لها يوم 9 أكتوبر (تشرين الأول) 2018، بالمدونة الرسمية لوزارة الخارجية الأميركية بعنوان «نقل المعركة إلى بوكو حرام: صندوق الطوارئ الأمن العالمي يعزز قطاع الأمن في تشاد». تشير فيها، إلى وجه آخر من الجهود العملية المالية والأمنية، التي تحاول أميركا إنجازها على الأرض بمنطقة الساحل والصحراء.
حيث تعتمد على خطط «صندوق الطوارئ للأمن العالمي» الذي تديره بشكل مشترك، وزارتا الدفاع والخارجية الأميركيتان. وبحسب كاثرين دوكرم، فالصندوق يهدف إلى مواجهة التحديات الواقعية لدول تشاد، والنيجر، ونيجيريا، والكامرون؛ من «خلال الجمع بين الدبلوماسية والدفاع لتقديم الدعم إلى مؤسسات الأمن وإنفاذ القانون في الدول الشريكة لمعالجة التحديات والفرص الناشئة التي نعتبرها مهمة للأمن القومي للولايات المتحدة ومصالح سياستنا الخارجية. وقد استثمر الصندوق بين عامي 2015 و2017، مبلغ 40 مليون دولار أميركي من خلال المؤسسة العامة للغذاء. صرفت على تدريب والتزويد بمعدات لقوات الأمن وحرس الحدود، وغيرها من منظمات قطاع الأمن في تشاد، والنيجر، ونيجيريا والكاميرون؛ لزيادة قدرة منظمات قطاع الأمن في حوض بحيرة تشاد على الاستجابة للتهديدات من المنظمات الإرهابية عبر الوطنية».
ورغم أن لمثل هذا البرنامج نتائج مهمة، وبخاصة على مستوى تعاون الدول لتأمين الحدود المشتركة؛ فإن ذلك لا ينفي أن التهديدات التي تمثلها «جماعة بوكو حرام»، وغيرها من المنظمات الإرهابية الناشطة بالساحل وفي بحيرة تشاد، تظل قائمة. غير أن الباحثة كاثرين دوكرم، تؤكد أن مشروع «صندوق الطوارئ للأمن العالمي»، ساعد دول منطقة بحيرة تشاد على تطوير استراتيجيات وطنية لأمن الحدود وزيادة العمل المشترك بين الوزارات والتعاون. وقام المشاركون في التدريب بوضع استراتيجيات وطنية لأمن الحدود ومشاركتها مع بلدان أخرى في المنطقة. كما تم تحسين نظام الاتصالات عبر الحدود؛ وتتبادل الدول المعنية الآن بشكل روتيني المعلومات مع موظفين من منظمات أمنية أخرى. سواء داخل تشاد أو مع بلدان أخرى، في منطقة بحيرة تشاد. وقد بدأت تلك الدول تبادل المعلومات الأمنية استخباراتياً في الوقت المناسب؛ مما قوى الجانب الأمني للمنطقة.

- عوامل محلية صراعية
ورغم كل هذه الجهود العسكرية والأمنية الأميركية، فإن هناك من يرى أن المعركة الدولية مع الظاهرة الإرهابية وتناسل تنظيماتها بالساحل والصحراء؛ يقتضي الرجوع إلى الأسباب المركزية للظاهرة، والمتمثلة في الصراعات الإثنية والسياسية والجغرافية المجالية.
الطابع المحلي لظاهرة الإرهاب يبقى أحد أهم مفاتيح فهم حركة التمرد المنعش للإرهاب المتمسح مسوح الدين. ذلك أن الظروف المحلية، ووجود القوات الأجنبية سواء الأميركية أو الفرنسية بالمنطقة، عاملان يعقدان من الوضع الحالي؛ على اعتبار أن التدخلات والقواعد الأجنبية، تحمل في طياتها استراتيجية لحماية المصالح الأجنبية بالمنطقة. وبينما ينظر إليها رسمياً، على أنها سياسة للقضاء على الأسباب الحقيقية للإرهاب، يواجه شعبياً بالمقاومة المسلحة. وهذا الوجود الأجنبي سواء كان مؤسساً، كما هو الحال بالنسبة لقوات «جيش الساحل» (ج 5)، أو القوات الخاصة الأميركية وقواعدها بالنيجر؛ ينظر إليه من طرف السكان المحليين بكونه سيطرة أجنبية على أراضيهم وثرواتهم.
في هذا السياق، تشير دراسة للباحث الأميركي بمعهد هدسون ومعهد المؤسسة الأميركية، تيم كوك؛ بمجلة «جور تاوان» للدراسات الأمنية نشرت يوم 7 أكتوبر 2018 بعنوان «جهاد جنوب الصحراء: الجذور المحلية للعنف العابر للحدود»، أن هناك عوامل محلية إثنية وسياسية وجغرافية مجالية، في غاية التعقيد يجب على الدول الكبرى المناهضة للإرهاب العمل على معالجتها. فرغم كون شعب الفلاني يشكل أكبر إثنية بمنطقة الساحل وتنتشر في معظم دوله، فإنه لا يزال مهضوم الحقوق ومهمشاً سياسياً واقتصادياً في عدد من كيانات المنطقة. ويؤكد تيم كوك، أن «منطقة الساحل نفسها انقلبت ضدهم مع تغير المناخ وأساليب إدارة الأراضي السيئة التي تحول أراضيهم العشبية إلى صحراء. واضطرت المجموعة إلى التعدي على الأراضي الزراعية؛ بحثاً عن المياه والأرض الصالحة للاستخدام من أجل الماشية. وقد أدت هذه التوغلات إلى نزاعات عنيفة بين المزارعين والرعاة الذين أدانوا الفولاني في جميع أنحاء المنطقة»؛ غير أن ظروف الجفاف وقسوة الطبيعة، تجعل من عملية التعايش السلمي، أمراً صعباً في الوقت الحالي.
ومن هنا يقترح الباحث الأميركي على مجموعة «ج 5»، «أن تنظر في التوترات العرقية القديمة والمخاوف البيئية التي تزكي النزاعات. يجب أن توفر الحلول المستدامة حلولاً واقعية لإدارة الأراضي، وأن تدمج الفجوات بين الفولاني والمجموعات الإثنية الأخرى. في حين أن الشراكات الأمنية الدولية كانت ضرورية للحفاظ على الاستقرار، يجب معالجة هذه التحديات على المستوى المحلي. إذا كانت التجارب الماضية هي أي درس، فإن بناء السلام في منطقة الساحل يتطلب الصبر والبراغماتية، والاستعداد لتقاسم السلطة بصورة عادلة. لقد بدأت للتو عملية استيعاب المخاوف الأساسية للفولاني، ومن المرجح أن تستمر لسنوات عدة صعبة.
وبكلمة، أن التوترات العرقية التي تواجهها المنطقة خلقت حالة من «الجهاد الفولاني»؛ وبخاصة مع تنامي الإحساس بأن تدخل الجيش المالي، كان يقف في العادة مع شعب البامبارا، وقام باعتقالات تعسفية وانتهاكات حقوق الإنسان ضد الفولاني؛ مما أدى إلى تفاقم شعور الجماعة بالاغتراب والانخراط الجماعي في تنظيم إياد أغ غالي «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» التي أسست بداية 2017.
كما أن البامبارا، الذين يمثلون أكبر إثنية في مالي، شكلوا جماعات أهلية مسلحة لحماية مناطقهم وأفرادهم من عنف القوات المتعددة الأطراف، وكذا لتسوية النزاعات بين المزارعين والرعاة. وعليه؛ فإن زيادة هذه التوترات في غياب الحكامة، وضعف الجيش الوطني بمالي، كلها عوامل تجعل من هذه الدولة وعرقياتها المنتشرة بدول الجوار وقوداً للجماعات الإرهابية الرافعة شعارات الدين.

- أستاذ زائر للعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس - المغرب


مقالات ذات صلة

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)
أفريقيا جنود نيجيريون مع جنود من القوة الإقليمية المختلطة لمحاربة «بوكو حرام» (صحافة محلية)

​نيجيريا... مقتل 5 جنود وأكثر من 50 إرهابياً

سبق أن أعلن عدد من كبار قادة الجيش بنيجيريا انتصارات كاسحة في مواجهة خطر «بوكو حرام»

الشيخ محمد (نواكشوط)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.