قبل شهور من تكليفه تشكيل الحكومة العراقية المقبلة، كتب عادل عبد المهدي مقالاً في جريدة «العدالة»، التي يشرف عليها ويطرح من خلالها آراءه ورؤاه لكيفية بناء الدولة، مقالاً حمل عنواناً مثيراً، وهو «أشكركم فالشروط غير متوفرة»... وذلك في سبيل تبريره تداول اسمه لدى الأوساط السياسية لاحتمال أن يكون مرشحاً لرئاسة الوزراء. كان المقال قد نشر بعد الانتخابات، التي أجريت يوم 12 مايو (أيار) الماضي، بأقل من أسبوعين - بالذات، يوم 23 مايو - أثناء ما كان قد دار في بعض الأوساط السياسية بأن عبد المهدي أحد المرشحين.
كانت الانتخابات العراقية الأخيرة قد صدمت سواءً على نطاق نسبة المشاركة الجماهيرية المتواضعة، التي ناهزت الـ25 في المائة، أو النتائج التي أحرجت الكتل السياسية التقليدية. وهذا، فضلاً عن الجدل الذي رافقها بشأن التزوير والعد والفرز اليدوي أو الإلكتروني.
عادل عبد المهدي، الذي يعد من القادة المؤسسين لـ«عراق ما بعد عام 2003» لم يشارك في تلك الانتخابات. ولكونه سياسياً محترفاً، ويعرف الوسط السياسي العراقي عن قرب، بما في ذلك مسالكه ومطابخه السرّية، يدرك أن لا فرصة لمستقل أو غير مشارك في الانتخابات لأسباب كثيرة، لعل من أبرزها أن الكتل - ولا سيما الكبيرة منها - التي شاركت في الانتخابات وأحرزت عدداً كبيراً من المقاعد تفضّل مرشحيها المدعومين داخلياً وخارجياً. وبالتالي، ليس بوسعها التفريط بما تعدّه حقاً انتخابياً.
المسألة الأخرى المهمة أن لكل منصب في العراق ثمناً انتخابياً تقابله عدد المقاعد التي يجب على المرشح لأي منصب الحصول عليها. ومنصب رئيس الوزراء يكاد يحوز على أكثرية النقاط أو المقاعد البرلمانية، وعددها 35 نقطة أو مقعداً برلمانياً... فمن أين يأتي بالكتلة التي تمنحه كل هذه المقاعد من دون مقابل؟
انسجاماً مع ذلك، كتب عبد المهدي مقاله الشهير الذي أسدل من خلاله الستار على كل جدل بشأن إمكانية ترشحه للمنصب. وبالفعل، انزوى الرجل جانباً مكتفياً بتقديم النصائح والإرشادات بما يمتلكه من خبرة وكفاءة. وما يُذكر أنه كان قبل ذلك قد عبّر عن زهده في المناصب حين استقال من منصب نائب رئيس الجمهورية عام 2011. كذلك، استقال من آخر منصب كان يشغله، وهو وزير النفط في حكومة الدكتور حيدر العبادي عام 2016 بعدما كان أبرم اتفاقاً نفطياً مع الأكراد بشأن النفط مقابل الموازنة. ليس هذا فقط، بل كان قد استقال أيضاً من عضوية «المجلس الأعلى الإسلامي» قبل انشقاق زعيمه عمّار الحكيم عنه وتأسيسه «تيار الحكمة الوطني». لذلك؛ بات عبد المهدي مستقلاً تماماً وهي في العراق ميزة مرة وإشكالية مرة أخرى. فهي ميزة لمن لا يريد زج نفسه من جديد في العمل السياسي. وطبقاً لمقال عبد المهدي «أشكركم فالشروط غير متوفرة» فإن رؤيته لبناء الدولة التي ضمنها المقال عبرت عن عدم رضاه للمسار التي تريد الكتل الفائزة بالانتخابات اتخاذه، وهو نهج المحاصصة بعيداً عن الشعارات التي كانت رفعتها أثناء الانتخابات وهي تشكيل حكومة قوية بغالبية سياسية ومشاركة وطنية تنسجم مع إرادة الناس.
- بعد خراب البصرة!
خلال فصل الصيف الماضي حين الحراك السياسي والبرلماني في العراق على أشده انطلقت المظاهرات المعتادة سنوياً في محافظة البصرة بسبب الكهرباء والماء وقلة الخدمات. وكالعادة المتبعة، سنوياً أيضاً، امتدت تلك المظاهرات إلى الكثير من المحافظات الوسطى والجنوبية... وصولاً إلى العاصمة بغداد. وخلال شهر يوليو (تموز) الماضي كانت ولاية البرلمان السابق قد انتهت، وتحولت حكومة حيدر العبادي إلى حكومة تصريف الأعمال.
كانت كل المؤشرات تؤكد أن المظاهرات لن تتعدى الخطوط المرسومة لها سنوياً. غير أن ما حصل فيما بعد من تطورات مخيفة، وصلت إلى حد حرق مقرات الدوائر والمؤسسات والأحزاب، كشف عن إمكانية حدوث مواجهة وشيكة بين الأحزاب والفصائل الشيعية.
عندها وصل النظام السياسي في البلاد إلى مرحلة الانسداد أو الفشل التام، وانعكس ذلك على طبيعة المرشحين لشغل منصب رئيس الوزراء. وكان العبادي أول من احترق بلهيب النار المشتعل في البصرة. ثم لحق به هادي العامري، الذي أعلن انسحابه رسمياً من التنافس على منصب رئاسة الوزراء. ومن ثم، لم يعد في الساحة بعد خراب البصرة سوى مرشحي التسوية.
لكن، حتى بين هؤلاء لم يكن اسم عادل عبد المهدي قد جرى تداوله إلى أن بدأ أول ملامح رؤية المرجعية الدينية بشأن أوصاف رئيس الوزراء المقبل، وهي التي أردفها مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، بمجموعة من الشروط بدت في معظمها لا تنطبق على غالبية الأسماء المطروحة. عندها ظهر اسم عادل عبد المهدي في حيّز التداول بشأن ترشيحه لتشكيل الحكومة طبقاً لتوافق بين زعيم التيار الصدري وزعيم كتلة «الفتح» هادي العامري، ومن دون رفض من قبل المرجعية الدينية في النجف.
مهمة عبد المهدي لا شك، صعبة، بل باتت توصف في الأوساط السياسية والنخبوية بأنها بمثابة الفرصة الأخيرة للعراق، ولا سيما أن أحداث البصرة قد تتكرر وفي أكثر من مكان بالعراق وربما تطيح النظام السياسي كله. وفي هذا السياق، يقول الناطق الرسمي باسم الحكومة العراقية السابق علي الدباغ لـ«الشرق الأوسط»، إن «الدكتور عادل عبد المهدي تسلم رئاسة مجلس الوزراء بتركة ثقيلة نتيجة الحرب على (داعش)، والعشوائية التي صاحبت الفترة الماضية، مع موارد شحيحة وسقف توقعات مشروع وعالٍ، وليس ميسوراً تحقيق نسب نجاح عالية». وأضاف الدباغ، أن «ما يتوجب عمله هو تهدئة قلق الشارع وغضبه، وإعطاء جرعة أمل منشّطة، عبر توفير فرص عمل من القطاع الخاص، من خلال تقديم إغراءات وإعفاءات ضمن الحدود المتوفرة. إذ لم تعد الدولة قادرة على استيعاب الأعداد الهائلة من البطالة وجموع الخريجين الجدد». وتابع «الأمر يتطلب توفير الحد الأدنى من الخدمات، وتحسينها عبر رؤية جديدة لا تعتمد الآلية التي لم تحقق نجاحاً».
وحول رؤيته لما يمكن أن يقدِم عليه رئيس الوزراء المكلف، يقول الدباغ إن «عبد المهدي سيركز على نزع فتائل التوتر السياسي الداخلية والإقليمية؛ ذلك أنه رجل حوار وليس شخصية صدامية. وسيقارب ما يمكن حله من الملفات الساخنة، ويدير ما يُختلف عليه بطريقة مختلفة، ما يخلق ثقة بين الشركاء وينزع الشكوك. وعلى المستوى الإقليمي، يحتاج إلى مقاربة هادئة للأزمات التي تعصف بالمنطقة، والعلاقات المتشنجة مع بعض الدول، مثل تركيا».
ويستطرد الدباغ بأن «رئيس الوزراء المكلف يحتاج إلى تطوير هذا الانسجام الحاصل بين الرئاسات الثلاث، كل من موقعه، ودون الإخلال بدور كل منهم».
- تحوّلات الفكر والموقف
يتنافس في شخصية عادل عبد المهدي انتماءان، الأول عائلي والآخر سياسي. فعبد المهدي الذي ولد في منطقة البتاوين ببغداد عام، وينتمي إلى أسرة ميسورة يمتد نسبها إلى آل البيت، وتعود جذورها إلى جنوب العراق، وتحديداً محافظة ذي قار (الناصرية). والده عبد المهدي المنتفجي (أو المنتفكي)، وهو لقب يعود إلى البيئة العشائرية البارزة للمدينة التي ينتمي إليها، أي مدينة الناصرية العاصمة الإدارية لمحافظة ذي قار. وكان الوالد قد شغل منصب وزير المعارف إبان العهد الملكي، بالإضافة إلى عضوية مجلس الأمة لست دورات.
تلقى عادل عبد المهدي تعليمه المتوسط في كلية بغداد، وهي كلية خاصة يسوعية راقية تخرجت فيها نخبة من أبرز شخصيات العراق. وبعدها، التحق بجامعة بغداد، حيث تخرج حاملاً شهادة البكالوريوس في الاقتصاد. ثم سافر إلى فرنسا، وهناك حصل على الماجستير في العلوم السياسية من المعهد الدولي للإدارة العامة في العاصمة الفرنسية باريس عام 1970، ثم تابع دراساته المعمقة فحاز ماجستير ثانية في الاقتصاد السياسي من جامعة بواتييه عام 1972، وأنهى أطروحة الدكتوراه، لكنه لم يناقشها.
هذا على الصعيد الأكاديمي، أما على الصعيدين الفكري والسياسي، فإنه بدأ حياته السياسية عروبياً؛ إذ انتمى في فترة شبابه المبكر إلى حزب البعث العربي الاشتراكي. بيد أنه سرعان ما غادر الفكر القومي ليصبح شيوعياً ماوياً لفترة قصيرة سبقت سفره إلى فرنسا لإتمام دراسته العليا المتقدمة. ومع أن اللقب الشائع عنه «الدكتور» عادل عبد المهدي، فإنه يفضّل أن يطلق عليه لقب «السيد» انطلاقاً من نسبه العلوي.
في باريس التقى عادل عبد المهدي في ثمانينات القرن الماضي زعيم «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» محمد باقر الحكيم - قتل خلال شهر أغسطس (آب) عام 2003 بعد شهور قلائل من سقوط نظام صدام حسين -، وطلب منه الحكيم الإشراف على منشورات «المجلس» هناك، ولا سيما أن عبد المهدي كان يملك داراً صغيرة للنشر. ولقد فتح هذا التعارف والعمل المشترك أمام رئيس الوزراء المكلّف (اليوم) الباب إلى الدخول إلى الحركة الإسلامية، التي سرعان ما جعلت منه أحد قادة المعارضة لنظام صدام حسين طوال أكثر من عقدين من الزمن.
- مسيرته بعد 2003
بعد عام 2003 تقلد عادل عبد المهدي مناصب عدة، من أبرزها عضو مناوب في «مجلس الحكم» الذي أسسه الحاكم المدني الأميركي بول بريمر عام 2003، ووزير المالية في حكومة إياد علاوي الأولى (2004 ـ 2005)، ومن ثم وزير النفط في حكومة حيدر العبادي (عام 2014 ليستقيل منها عام 2016). كما تقلد منصب نائب رئيس الجمهورية في ولاية الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني، قبل أن يستقيل من المنصب عام 2011؛ الأمر الذي أعطى الناس عنه فكرة زهده في المناصب وقلة تشبثه بها.
اليوم، بعد تكليف عادل عبد المهدي تشكيل الحكومة العراقية المقبلة، فإنه في الوقت الذي يحظى بدعم كامل من قِبل جميع الكتل السياسية - فضلاً عن مقبولية إقليمية ودولية - فإن الخشية تلازم الجميع من أن أي فشل لحكومته العتيدة سيكون له نتائج وخيمة على العراق. باختصار، المطلوب راهناً من عبد المهدي ليس النجاح في معالجة ملف الخدمات الشائك في البلاد فحسب، بل معالجة ما هو أخطر من ذلك، وهو العيوب التي تعتري العملية السياسية في البلاد.
ومع أن الجميع يرى أن عبد المهدي يحمل من المؤهلات ما يؤهله للعمل والنجاح، تبقى المشكلة الأساسية - التي لا تزال تشكل عقبة كبيرة - هي أن «الدولة العميقة» في العراق هي التي تهيمن على كل شيء. وهو واقع من شأنه الحد من قدرات رجل فكر وسياسة... يحتاج إلى بيئة سليمة لكي يتمكن من تنفيذ برنامجه السياسي ـ الإصلاحي بمضمونه الاقتصادي، الذي يقوم على تحويل العراق من بلد ريعي يعتمد على مداخيل النفط فقط إلى بلد منتج تتعدد فيه مصادر الدخل.