الصحوة الإسلامية الحقيقية في مرآة محمد أركون

كتاب جديد يصدر بالفرنسية للمفكر الراحل بتعاون زوجته مع دار ألبان ميشال الباريسية

محمد أركون
محمد أركون
TT

الصحوة الإسلامية الحقيقية في مرآة محمد أركون

محمد أركون
محمد أركون

هذا هو الكتاب الجديد الذي صدر مؤخراً للمفكر الكبير محمد أركون بفضل تعاون زوجته السيدة ثريا اليعقوبي أركون مع الناشر الفرنسي المحترم السيد جان موتابا في دار ألبان ميشال الباريسية الشهيرة. الكتاب مؤلف من خمسة فصول وملحق. الفصل الأول يتخذ العنوان التالي: ضرورة إعادة التفكير في الإسلام اليوم. بمعنى: ينبغي على الفلاسفة والعلماء أن يدرسوا الإسلام دراسة فلسفية تاريخية لكي يُفهم على حقيقته. وهذا ما فعله فلاسفة أوروبا مع المسيحية. وقد آن الأوان لكي يمر الإسلام بالمرحلة التنويرية.
فهو في أمس الحاجة إليها حالياً. وسوف يمر بها مهما طال الزمن ومهما نعق الناعقون وزعق الزاعقون. أما الفصل الثاني فيحمل عنوان الكتاب نفسه: عندما يستيقظ الإسلام. وفيه يناقش أركون مطولا أطروحة تلميذه النجيب محمد الحداد عن الإمام محمد عبده وحركة الإصلاح الإسلامي في القرن التاسع عشر.
ويشيد أركون بتدشين الدكتور الحداد لأول شهادة للدراسات العليا في الجامعة التونسية عن تاريخ الأديان المقارنة والأنتربولوجيا الدينية أيضا. ويعتبر ذلك فتحا معرفيا شديد الجرأة قياسا إلى الظروف الهيجانية المتعصبة التي نعيشها.
ومعلوم أنه لا يمكن فهم التراث الإسلامي جيداً دون فهم التراثين التوحيديين السابقين عليه، أي التراث اليهودي والتراث المسيحي. وهذه حقيقة أصبحت واضحة حتى للعميان. إنها تشكل ما يدعوه البروفسور أركون باللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه بالنسبة للعالم العربي والإسلامي ككل. أما الفصل الثالث من الكتاب فيحمل العنوان التالي: مدخل إلى العقل المنبثق الصاعد.
وهو ما يدعوه الآخرون بعقل ما بعد الحداثة. وفيه يتحدث أركون أيضا عن الديانات التوحيدية انطلاقا من مثال الإسلام. أما الفصل الرابع فمكرس للتحدث عن السنة والشيعة وضرورة تجاوز الخلافات التاريخية بينهما.
وهي الخلافات التي أصبحت تشعل الحرائق والحروب الأهلية في كل مكان. وعنوانه الثانوي هو: من أجل التوحيد التاريخي لوعي إسلامي «آخر» جديد. والمقصود به الوعي التنويري وقد حل محل الوعي الطائفي والمذهبي الملتهب والذي يكاد يدمر المشرق العربي حاليا... أما الفصل الخامس والأخير فمكرس للتحدث عن وضع المرأة في السياقات الإسلامية. أما الملحق فهو عبارة عن مقابلة هامة وممتعة أجرتها الباحثة الأكاديمية الجزائرية تسعديت ياسين مع البروفسور أركون. وهي التي تختتم الكتاب.
عندما سمعت بالكتاب وقبل أن أراه قلت بيني وبين نفسي إنه يذكرني بعنوان كتاب شهير للوزير الفرنسي الديغولي السابق آلان بيريفيت: «عندما تستيقظ الصين... سوف يهتز العالم»!. ومعلوم أنه كان قد صدر عام 1973 أي قبل استيقاظ المارد الصيني بسنوات معدودات. ثم بعد أن وصلني الكتاب لم يخب حدسي وظني.
فالمفكر أركون اختار بالفعل عنوان كتابه على غرار كتاب المفكر الفرنسي المذكور عن قصد. يقول بالحرف الواحد تقريبا: «لقد طبقت على الإسلام العنوان نفسه الذي طبقه آلان بيريفيت على الصين. ومعلوم أن نجاح كتابه يعود إلى شحنة الآمال العراض التي يحتوي عليها. كما يعود إلى انبهار الوزير الفرنسي الشهير بالصين وإعجابه الشديد بها. فقد رحب بخروج الشعب الصيني من الآيديولوجيا الماوية ودخوله في عصر الحداثة والتاريخ الليبرالي الكبير واقتصاد السوق الحرة». ماذا يعني ذلك؟ إذا كنا قد فهمناه جيدا فهذا يعني أننا اليوم بانتظار استيقاظ العالم الإسلامي أيضا بعد الصين.
فالواقع أن مستقبل الإسلام أمامه لا خلفه. الإسلام لم يقل كلمته الأخيرة بعد! فهذه الموجة الأصولية المتطرفة ليست نهاية التاريخ! وإنما ستمر وتتبخر كفقاعة من صابون. وهذا العالم الإسلامي الذي يعد اليوم أكثر من مليار ونصف المليار شخص تماما كالصين إذا ما استيقظ يوما ما فسوف يهتز العالم أيضا. ولكن في اتجاه الخير لا في اتجاه الشر.
فكما أن الصين خرجت من الآيديولوجيا الماوية الديماغوجية العقيمة التي كانت تكبلها وتخنق روحها وطاقاتها، فإن العالم الإسلامي مدعو للخروج من يقينياته اللاهوتية الدوغمائية وعقائده التكفيرية التي شوهت سمعته في شتى أصقاع الأرض. عاجلا أو آجلا سوف يستيقظ عالم الإسلام ويخرج من حالة الانحطاط والجمود إلى حالة النهضة والصعود.
وعندئذ سوف يكتشف العالم الوجه الآخر للإسلام: أي الوجه الحضاري المشرق... ولا نبالغ إذا ما قلنا: عندما يستيقظ الإسلام من كوابيسه، ويتحرر من داعشيته وظلاميته، فسوف يتغير وجه العالم. عندما يتصالح الإسلام مع نفسه ومع الحداثة التنويرية فسوف يصبح العالم أكثر أمانا وسلاما واطمئنانا.
وسوف يتنفس التاريخ الصعداء! عندما يقبل المسلمون بتطبيق منهجية النقد التاريخي على نصوصهم التأسيسية، وشخصياتهم الأساسية، فسوف ينبثق في المنطقة كلها نور وهاج. وسوف ينفك الانسداد التاريخي للعرب.
نسيت أن أبتدئ بالفصل الأول من الكتاب: كيف نعيد التفكير في الإسلام اليوم؟ أو كيف «نعقل الإسلام اليوم» بحسب الترجمة المفضلة لأركون.
وهو هنا يوضح لنا مشروع إنعاش الدراسات العربية والإسلامية. كما يبين لنا كيف يمكن أن ندرس الإسلام بطريقة تاريخية وأنتربولوجية وفلسفية عميقة. فهذا ما يحتاجه تراثنا الإسلامي اليوم بشكل ملح وعاجل. نحن لسنا بحاجة إلى كتابات تبجيلية وخرافية فهذه شبعنا منها.
إنها تملأ الشوارع والجوامع والبيوت والمكتبات بل وحتى الجامعات. ناهيك عن الفضائيات! نحن بحاجة إلى دراسات تنويرية تضيء لنا مفاصل التراث الإسلامي. وعندئذ سوف يتجلى لنا بصورة جديدة لا تخطر على البال.
وربما صرخنا قائلين: يا إلهي ماذا فعلنا بأنفسنا؟ هل يعقل أننا كفرنا عباقرتنا وعظماءنا؟ هل يعقل أننا قلنا: من تمنطق فقد تزندق؟ هل يعقل أننا فعلنا ذلك لكي تنطفئ أنوارنا وينتقل مشعل الحضارة إلى أوروبا؟ هل يعقل أننا دمرنا أنفسنا بأنفسنا؟ هل نحن مغرمون بالانتحار الحضاري؟ أم هل نحن قوم لا ينتعشون إلا في غياهب الظلمات؟ لماذا راحوا يمجدون علماءنا وفلاسفتنا ويترجمونهم ويستفيدون من كل كلمة أو حرف منهم في حين أننا رحنا نمزق كتبهم ونصب جام لعناتنا على الكندي والفارابي وابن سينا وابن مسرة وابن رشد وابن باجة وابن عربي والمعري والقائمة طويلة؟ ومن سيحرر التراث من ذاته، من فتاواه التكفيرية وتراكماته؟ وهي التراكمات التي أصبحت تتفجر الآن كالقنابل الموقوتة بعد طول احتقان. ثم سؤال أخير: متى سيستيقظ أهل الكهف؟
نريد من المفكرين المعاصرين أن يجدوا لنا أجوبة على كل هذه التساؤلات المتلاحقة.
نريد منهم أن يجددوا فهم هذا الدين الحنيف الذي اختطف رهينة من قبل جماعات الإخوان المسلمين والظلاميين أجمعين. ومن أفضل من محمد أركون للقيام بهذه المهمة الجليلة؟ فهو أحد علماء الإسلام الكبار في هذا العصر إن لم يكن العالم الأول والأكبر بحسب رأي الفيلسوف الإيراني الشهير الراحل: داريوش شايغان... وهو كان يمتلك كل الكفاءات المنهجية والابيستمولوجية والمعرفية العميقة التي قلما توافرت في شخص واحد مهما علا شأنه. ما فعله أركون في الكتاب هو حفر أركيولوجي في الأعماق، بل وأعماق الأعماق. إنه تحرير جذري وراديكالي للروح العربية الإسلامية السجينة داخل الشرنقة منذ قرون وقرون. إنه تحرير التحرير. ذلك أنه لا تحرير سياسيا حقيقياً من دون تحرير لاهوتي ديني. وهذا يعني أن نقد الظلامية الدينية هو بداية كل نقد والتحرير منها شرط مسبق لكل تحرير كما يقول أحد فلاسفة التنوير الكبار. هذه حقيقة أصبحت واضحة لكل ذي عينين بعد تلك الهوجة الكبيرة المدعوة «بالربيع العربي» التي حولت بلادنا إلى خرائب وأنقاض. لن أستطيع الدخول في التفاصيل هنا لأن ذلك يتطلب عدة مقالات لا مقالة واحدة. وأعتذر للقارئ مسبقا عن عدم التعرض لنقاط هامة عديدة يمتلئ بها هذا الكتاب المكثف والمركز إلى أقصى الحدود.
فهو حتما من أنجح كتب أركون وأقواها. ولكن النسخة العربية سوف تصدر قريبا عن دار الساقي في بيروت. وعندئذ يمكن للقراء العرب أن يطلعوا على مجمل الكتاب بكل تفاصيله وحذافيره.
أخيراً سأقول ما يلي: إن العرب والمسلمين عموما يعانون من قطيعتين لا قطيعة واحدة: قطيعة مع الأنوار العربية الإسلامية والعصر الذهبي العباسي الأندلسي، وقطيعة مع الأنوار الأوروبية التي ظهرت في القرن الثامن عشر وتجاوزتنا بما لا يقاس. وهذا يعني أننا لا نزال غاطسين في عصور الانحطاط والظلمات.
والجهل طاغ وعام. ولذا ينبغي أن نواجه الحقيقة المرة وجها لوجه: برامج التعليم العربية تهيمن عليها المرجعيات الظلامية لا المرجعيات التنويرية وإلا لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من جحافل النصرة والقاعدة وداعش والجماعة الأم التي ولدتهم كلهم. من هنا خطورة الوضع الحالي. من هنا الخوف على المستقبل، وعلى براعم المستقبل.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
TT

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ وما لهما وما عليهما... في زمن الروبوتات المؤنسنة والعقول الذكية الاصطناعية وما لها وما عليها، تحدُث من حين لآخر هزات عنيفة تحلج بعض العقول الهانئة، ذات القناعات القانعة، فتستيقظ بغتة على أسئلة طارئة. مدوِّخة بلْ مكهرِبة.

- ما هذا الذي يحدث؟

تماماً كما حدث في المعرض الدولي للكتاب في الجزائر، حدث ذلك منذ طبعتين في الصالون الدولي للكتاب في باريس، إذ حضر كتاب كبار ذوو شهرة عالمية، كل واحد منهم يركب أعلى ما في خيله، وحطّت رحالَها دورُ نشرٍ لا يشقّ لها غبار. لكن المنظمين والمشاركين والملاحظين والمراقبين والذين يعجبهم العجب، والذين لا يعجبهم العجب، على حين غرة وفي غفلة من أمرهم، فوجئوا بآلاف القادمين من الزوار شباباً وبالغين، كلهم يتجهون صوب طاولة، تجلس خلفها كاتبة في العشرينات، لا تعرفها السجلات العتيقة للجوائز، ولا مصاطب نقاش المؤلفين في الجامعات، أو في القنوات الشهيرة المرئية منها والمسموعة. الكاتبة تلك شابة جزائرية تفضّل أن تظلَّ حياتها الخاصة في الظِّل، اسمها سارة ريفنس، وتُعد مبيعات نسخ رواياتها بعشرات الملايين، أما عدد قرائها فبعدد كتّاب العالم أجمعين.

وكالعادة، وكما حدث منذ سنوات مع الروائية الجزائرية الشابة سارة ريفنس، أثار القدوم الضاج للكاتب السعودي أسامة مسلم ذهول جل المهتمين بالشأن الثقافي والأدبي، حين حضر إلى المعرض الدولي للكتاب في الجزائر 2024. وقبله معرض الكتاب بالمغرب ومعارض كتب عربية أخرى، وفاجأ المنظمين والزوار والكتاب فيضانُ نهر هادر من الجموع الغفيرة الشابة من «قرائه وقارئاته». اكتظ بهم المكان. جاءوا من العاصمة ومن مدن أخرى أبعد. أتوا خصيصاً للقائه هو... هو وحده من بين الكتاب الآخرين الكثر المدعوين للمعرض، الذين يجلسون خلف طاولاتهم أمام مؤلفاتهم، في انتظار أصدقاء ومعارف وربما قراء، للتوقيع لهم بقلم سائل براق حبرُه، بسعادة وتأنٍّ وتؤدة. بخط جميل مستقيم، وجمل مجنّحة منتقاة من تلافيف الذاكرة، ومما تحفظه من شذرات ذهبية لجبران خليل جبران، أو المنفلوطي أو بودلير، أو كلمة مستقاة من بيت جميل من المعلقات السبع، ظلّ عالقاً تحت اللسان منذ قرون.

لا لا... إنهم جاءوا من أجله هو... لم تأتِ تلك الجموع الغفيرة من أجل أحد منهم، بل ربما لم ترَ أحداً منهم، وأكاد أجزم أنها لم تتعرف على أحد منهم... تلك الجموع الشابة التي ملأت على حين غرة أجنحة المعرض، ومسالكَه، وسلالمَه، وبواباتِه، ومدارجَه، واكتظت بهم مساحاته الخارجية، وامتدت حتى مداخله البعيدة الشاسعة. يتدافعون ويهتفون باسم كاتبهم ومعشوقهم، هتافات مضفورة بصرخات الفرح:

- أووو... أووو... أووو أسامة...!!

يحلمون بالظفر برؤيته أخيراً عن قرب، وبلقائه هذه المرة بلحمه وعظمه، وليس شبحاً وصورة وصوتاً وإشارات خلف الشاشات الباردة لأجهزتهم الإلكترونية. يأملون بتوقيعه على الصفحة الأولى من إحدى رواياته، ولتكن روايته «خوف» مثلاً.

هكذا إذن... الأدبُ بدوْره، أضحى يرفض بيت الطاعة، بل يهدمه ويِؤسس قلعته الخاصة، التي تتماهى مع هندسة ذائقة العصر الجديدة، القابلة للنقاش. إنها الإشارة مرة أخرى ومنذ ظهور الكائن البشري من نحو ثلاثة مليارات سنة، على أن الزمن يعدو بالبشر بسرعة مدوخة، بينما هم يشاهدون - بأسف غالباً - حتف الأشياء التي تعوّدوا عليها، وهي تتلاشى نحو الخلف.

من البديهي أن الكتابة على الصخور لم تعد تستهوي أحداً منذ أمد بعيد، سوى علماء الأركيولوجيا الذين لهم الصبر والأناة، وقدرة السِّحر على إنطاقها، وقد أثبتوا ذلك بمنحنا نص جلجامش، أول نص بشري كتب على الأرض، وأما نظام الكتابة فقد تجاوز معطى الشفهية إلى الطباعة، ثم إلى الرقمية، وتكنولوجيا المعلومات، والذكاء الاصطناعي و...!

على ذِكر الذكاء، فليس من الذكاء ولا الفطنة التغاضي عن الواقع المستجد، أو التعنت أمام فكرة أن العالم في تغير مدوّ وسريع، وقد مسّ سحره كل جوانبه ومنها سوق الأدب، ولا بد من الاعتراف أن المنتِج للأدب كما المستهلك له، لم يعودا خاضعين في العرض والطلب لشروط أسواقه القديمة، وإن لم تنقرض جميعها، في ظل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وتوفر الـ«بلاتفورم» و«يوتيوب» و«إنستغرام» و«تيك توك» و«فيسبوك» وهاشتاغ وما جاورها.

لكن الأمر الذي لا بد من توضيحه والتأكيد عليه، أن دمغة الأدب الجيد وسمة خلود الإبداع، لا تكْمنا دوماً وبالضرورة في انتشاره السريع، مثل النار في الهشيم، وقت صدوره مباشرة، وإلا لما امتد شغف القراء عبر العالم، بالبحث عن روايات وملاحم وقصص عبرت الأزمنة، بينما لم تحظَ في وقتها باهتمام كبير، والأمثلة على ذلك عديدة ومثيرة للتساؤل. أسامة مسلم، وسارة ريفنس وآخرون، كتّاب بوهج ونفَس جديدين، على علاقة دائمة ووطيدة وحميمية ومباشرة مع قرائهم عبر وسائط التواصل الاجتماعي، فلا يحتاجون إلى وسيط. مؤلفون وأدباء شباب كثر عبر العالم، من فرنسا وأميركا وإنجلترا وكندا وغيرها مثل Mélissa Da Costa - Guillaume Musso - Laura Swan - Morgane Moncomble - Collen Hoover - Ana Huang وآخرين وأخريات ينتمون إلى عالم رقمي، تسيطر فيه عناصر جديدة تشكل صلصال الكتابة وجسر الشهرة... لم يمروا كما مر الذين من قبلهم على معابر الأدب، وتراتبية مدارسه المختلفة التي وسمت مراحل أدبية متوهجة سابقة لهم، ولم يهتموا كثيراً بالنّسَب الجيني لأجدادهم من الروائيين من القارات الخمس بمختلف لغاتهم، ولم يتخذوا منهم ملهمين، ولا مِن مقامهم هوى. كتابٌ شباب، أضحت مبيعات رواياتهم تتصدر أرقام السوق، فتسجل عشرات الملايين من النسخ، وتجتاح الترجمات عشرات اللغات العالمية، ودون سعي منهم ترصد ذلك متابعات صحافية وإعلامية جادة، وتدبج عنهم مقالات على صفحات أكبر الجرائد والمجلات العالمية، وتوجه لهم دعوات إلى معارض الكتب الدولية. كتاب لم يلجئوا في بداية طريقهم ومغامرتهم الإبداعية إلى دور النشر، كما فعلت الأجيال السابقة من الأدباء، بل إن دور النشر الكبيرة الشهيرة لجأت بنفسها إليهم، طالبة منهم نشر أعمالهم في طباعة ورقية، بعد أن تحقق نجاحهم من خلال منصات النشر العالمية وانجذب إليهم ملايين القراء. فرص سانحة في سياق طبيعي يتماهى مع أدوات العصر مثل: Wattpad - After Dark - nouvelle app - Creative Commons وغيرها.

ولأن التفاؤل الفكري يرى فرصة في كل عقبة، وليس في كل فرصة عقبة كما جاء على لسان وينستون تشرشل، ولأن الوعي بالحداثة يأتي متأخراً زمنياً، فإن ما يحدثه الكتّاب الروائيون الشباب Bests eller البستسيللر في العالم، من هزات مؤْذنة بالتغيير، ومن توهج استثنائي في عالم الكتابة، ومن حضور مُربك في معارض الكتاب، تجعلنا نطرح السؤال الوجودي التالي: هل ستتغير شروط الكتابة وتتبدل مقاييسها التقليدية، وهل ستنتفي معارض الكتاب أم تتغير. وكيف ستكون عليه إذن في الأزمنة المقبلة؟