الجميل والجليل في الطبيعة والفن

كتاب يبحث في العلاقة الجدلية بينهما

الجميل والجليل في الطبيعة والفن
TT

الجميل والجليل في الطبيعة والفن

الجميل والجليل في الطبيعة والفن

أصدر الدكتور سعيد توفيق كتاباً بعنوان: «تأويل الفن والدين» وذلك عن الدار المصرية اللبنانية. وهو مؤلف عبارة عن مجموعة دراسات ومقالات تناقش العلاقة ما بين الجميل والمقدس، أي الفن والدين.
يعلن سعيد توفيق من البداية، أنه يريد من كتابه أن يكون تصحيحا للعديد من المفاهيم المغلوطة والمتعلقة بمجالين حيويين في حياة الإنسان وهما الفن والدين.
يبدأ المؤلف، في الدراسة الأولى المتضمنة في الكتاب، بطرح سؤال هو: ماذا نقصد بالفن؟ فإذا كنا نتعاطى الفن يوميا حينما نسمع أغنية أو نشاهد فيلما... فما الذي يجعل ذلك فنا؟ إنه سؤال قديم طرحه الفيلسوف أفلاطون على أحد محاوريه ليجيبه على أن الفن ببساطة هو لوحة معلقة على الجدار أو تمثال منتصب في ميدان... وبالطبع فهذا ليس جوابا عن ما الفن؟ بل هو مجرد تعيين لأمثلة تتهرب من السؤال: إذ يمكن أن نرد، لماذا اللوحة فن؟ وما المشترك بين التصوير والنحت والموسيقى؟ أو بعبارة أخرى ما هي القواسم المشتركة بين كل ذلك والتي تدفعنا إلى تسميتها باسم الفن.
قبل أن يقوم المؤلف بتقديم تعريف للفن حاول بداية أن يقدم لنا ثلاثة محاذير ينبغي إبعادها، لأنها تشوش على التعريف الدقيق له، وهي كالآتي:
> أولا: التصور الشائع عن الفن باعتباره «رسالة أخلاقية وتربوية» والذي يلقى رواجا عند العامة، بل يتم تدعيمه من طرف فلاسفة كبار كسقراط وأفلاطون وأرسطو وشيلر والأديب تولستوي... فالمؤلف يلح على أن هذا الرأي يجانب الصواب، لأن الفن هو في الحقيقة ليس مع الأخلاق ولا ضد الأخلاق، فقد تحدثنا قصيدة عن الفضيلة والنبل ولكن ذلك لا شأن له بقيمة القصيدة كعمل فني، يقول المؤلف: «لكي تكون القصيدة عملا فنيا بحق يجب أن تكتب أولا بلغة الشعر وبشروط الشعر، يستوي في ذلك أن تتحدث القصيدة عن الدين والأخلاق أو عن المجون والغزل، أن تتغنى بالتصوف أو بالملذات».
> ثانيا: يرفض المؤلف ربط الفن الآيديولوجيا، وهنا بالضبط ينتقد الطرح الماركسي للفن، الذي لا يقدره لذاته بل يقرنه بالوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، أي أنه ينظر للفن كوظيفة، وهو رأي به جانب من الصواب طبعا إذ إن الفن ظاهرة زمانية ترتبط بسياقات تاريخية محددة تجعل الفنان يعبر بطريقة وليست أخرى، لكن تكمن صعوبة هذا التفسير بحسب المؤلف أنه لا يستطيع أن يجيب عن سؤال: لماذا نجد متعة في نماذج فنية قديمة لا صلة لها بواقعنا؟ وهي المعضلة التي أدركها حتى ماركس نفسه.
> ثالثا: يطلب المؤلف استبعاد ما يسمى «النزعة الشكلانية» التي تقوم بعزل الفن عن الحياة وتطلب فقط الفن من أجل الفن.
بعد تقديم هذه المحاذير الثلاثة التي ينبغي تجنبها أثناء البحث عن تعريف الفن يقدم المؤلف رأيا بقوله: «الفن هو التعبير عن معنى أو حقيقة شيء ما من خلال التشكيل الجمالي في صورة متعينة».
كما عمل المؤلف في كتابه على التفرقة بين العالم والفنان، فالأول مثلا وهو يسعى للقبض على مفهوم الماء فإنه يقدمه مجردا وعموميا على شاكلة صيغة رمزية: H2O، أما الثاني أي الفنان فقد يصور الماء كنهر رقراق منعكس عليه ضوء القمر، أو على شاكلة أمواج... والشيء نفسه مثلا حينما يعبر العالم عن الحصان فهو يصنفه إلى مجموعة محددة تميزه عن الحمير والبغال مثلا، أما الفن فإنه لا يعرف حصانا عاما مجردا، بل يجسده كحالة فردية متميزة وهو ما فعله مثلا امرؤ القيس حينما وصف جواده بطريقة تجعله لا نظير له وذلك في بيت شعري شهير قائلا:

مكر مفر مقبل مدبر معا
كجلمود صخر حطه السيل من عل

باختصار إذا كان العلم تعميميا ومجردا فإن الفن تجسيدي وجزئي ومشخصن.
إضافة إلى ذلك قام الدكتور سعيد توفيق بالتفرقة بين القيمة الفنية والقيمة الجمالية، فالأولى مرتبطة بالعمل الفني نفسه، فهي مثلا وصف لأسلوب ضربات الفرشاة، وطريقة توظيف الألوان وسلاسة اللغة وخصائصها البلاغية... أما الثانية فهي مرتبطة بالمتلقي وخبرته وكيف سيتذوق العمل، كأن يصف فيلما بأنه مشوق أو عميق.
ويجري المؤلف مقارنة بين الجمال الطبيعي والجمال الفني، فالفنان يلقي بظله في العمل، إلى درجة أنه يمكنه أن يعبر عن القبيح والمستهجن في الطبيعة بحس جمالي، فنحن كما يؤكد المؤلف لا نستمتع بالشر أو البؤس والشقاء في السينما والأدب، وإنما نستمتع بقدرة الفنان على تمثيل الشر وتصوير البؤس. وهذا ما يعرف باسم: «جماليات القبيح». بكلمة واحدة: «الفن هو الإنسان مضافا إلى الطبيعة».
ونقرأ في هذا الكتاب الشيق دراسة عن الجميل والمقدس، والتي يرى الكاتب فيها، على أنهما خبرتان كانتا في الأصل ملتحمتين ولكن ولأسباب تاريخية وسياسية تم فصلهما، بل أحيانا وجدتا في حال صراع.
فإذا كان موضوع الفن هو الجميل الذي يثير متعتنا وإعجابنا وننجذب إليه ويستولي علينا، فإن موضوع الدين هو المقدس باعتباره سرا يبعث الرهبة أو الخوف، بل الإجلال مع إحساس بالصغار والضآلة إزاءه، إنه يثير فينا حالة من السحر، وأحيانا نوعا من الحب المختلط بالدهشة، كما أنه قد يبدو بعيدا رغم أنه قريب.
إذن، إذا كان موضوع الفن هو الجميل على الأصالة فإن موضوع الدين هو المقدس على الأصالة.
لقد حصل في التاريخ نوع من «علمنة للفن» حيث تم إبعاده عن الدين كما أبعد العلم والفلسفة... وهو ما أحدث اغترابا للوعي الجمالي عند الإنساني. فالتاريخ البشري شاهد على أن الدين قد استعان لتبليغ المقدس بالفن، وكذلك الفن تضمن شيئا من المقدس (الموسيقى أثناء الطقوس والرقص التعبدي...). وكمثال توضيحي يبرز التلاحم بين المجالين نذكر المساجد مثلا، فهي قد عبرت في وعي المسلمين عن وحدانية الله انطلاقا من فن المعمار المتجسد في المئذنة التي تشبه الواحد كعدد وهيئة، فالصلة حميمية بين الفن والدين.


مقالات ذات صلة

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.